رغم مرور 56 سنة على إعدامه، مازالت ربح الشرايطي تدق الأبواب باحثة عن جثمان والدها قائد المقاومة المسلحة في تونس الأزهر الشرايطي الذي دخل به الأمن إلى البيت ذت سبت من عام 1963 بعد أن ألقوا القبض عليه في مزرعته بمجاز الباب.
"كان أبي مقيد اليدين وكانت قوات الأمن تقلب البيت رأسًا على عقب، أخذوا كل الوثائق، كنا ننظر إليه باكين خائفين، وحينما هموا به مغادرين تمسكت به أختي "أمينة" فركلها الشرطي وأصيب رأسها ومازالت تعاني إلى اليوم من مخلفات تلك الضربة".
وتواصل ربح الشرايطي حديثها لـ"ألترا تونس": مازلنا إلى اليوم نتذكر أبي الذي أحب العلم ودرسنا في مدرسة الراهبات الفرنسيات، أبي الذي ظلمه المؤرخون واستهزأ به السياسيون حينما نعتوه بأنه جاهل لا يعرف القراءة والكتابة.
ربح الشرايطي: الأزهر الشرايطي قصد فلسطين سيرًا على الأقدام وهناك اكتسب الخبرة العسكرية بعد مشاركته في حرب 48 وتحصل على "وسام الشرف" من طرف جمال عبد الناصر بعد عملية فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي
لكن الأزهر الشرايطي لم يكن كذلك فقد تعلم في الكتاب وكان يقدس العلم ولولا فقر عائلته لكان واصل تعليمه لكنه اختار العمل في منجم الفسفاط بالمظيلة لإعالة أهله، تقول ابنته ربح.
ممزوجة بالعَبَرات، تستجمع محدثتنا كلماتها: "الأزهر الشرايطي لم يكن خريج جامعات لكنه اكتسب وعيًا بآلام الناس وقهرهم وناضل من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. والدي قصد فلسطين سيرًا على الأقدام وهناك اكتسب الخبرة العسكرية بعد مشاركته في حرب 48 وتحصل على "وسام الشرف" من طرف جمال عبد الناصر بعد عملية فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفي مصر التقى بورقيبة وطلب منه الأخير أن يعود إلى تونس ليحرر أرضه".
الأزهر الشرايطي الذي ولد سنة 1920، وهو من أولاد شريّط أحد عروش قبيلة الهمامة، تربى في باطن العيش (عمرة) التي تقع على جبل عرباطة، بريف قفصة، آمن بالوطن وقاتل لأجله.
لُقّب بأسد عرباطة ولم ينجح الفرنسيون في القبض عليه رغم تعذيبهم لزوجته وابنة عمه "طاووس" التي صمدت ولم تبح بمكانه إلى أن استسلم الاحتلال الفرنسي وأخلى سبيلها.
اقرأ/ي أيضًا: نجل صالح بن يوسف يطالب بردّ الاعتبار إلى والده وإرجاع أملاك عائلته
"والدي قتل ظلمًا وبهتانًا، ولا نريد سوى رفاته نواريها الثرى في مسقط رأسه ونزورها متى أردنا فقد حرمنا منه حيًا وها نحن محرومون حتى من عظامه ميتًا"، تزفر ربح ثم تجهش بالبكاء.
ربح الشرايطي توجهت برسالة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد عبر جريدة الشروق في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تطلب فيها مجددًا أن يأمر بفتح ملفه وتسليم رفاته لأهله وهي تعوّل على صدقه وسعيه لكشف الحقيقة، على حد تعبيرها.
الابنة التي أسست مركز"الأزهر الشرايطي المتوسطي لإنصاف النضالات الوطنية" وشاركت ودعمت ونشرت تاريخ والدها ومازالت تروي لكل من دق بابها عن أب حرمت منه حيًا فقد كان يكافح في الجبال لأجل الوطن هو ورفاقه الذين مهدوا لاستقلال تونس. وحرمت منه ميتًا بعد اتهامه بمحاولة انقلاب فأعدمه الحبيب بورقيبة في 24 جانفي/يناير 1963.
"لم تكن محاكمة عادلة ولم تتوفر الشروط الدنيا لتكون كذلك. والدي اتصل به الرفاق وطالبوا بتصحيح الأوضاع لأن بورقيبة صار أسير الحاشية فيما تعاني البلاد من مشاكل عدة. واتفقوا على أن يتم وضع بورقيبة في قصر السعادة بالمرسى معززًا مكرمًا غير أن مجموعة عسكرية تدخلت وطلب أن يتحول الحكم إلى عسكري وهذا ما رفضه الأزهر الشرايطي وجعله ينسحب من الاتفاق، تؤكد ربح الشرايطي في شهادتها لـ"ألترا تونس".
ربح الشرايطي: حُرمت من أبي حيًا فقد كان يكافح في الجبال لأجل الوطن الذي مهد مع رفاقه لاستقلاله، وحرمت منه ميتًا بعد اتهامه بمحاولة انقلاب فأعدمه الحبيب بورقيبة في 24 جانفي 1963
"لهذا وجب تصحيح التاريخ" تقول ربح، وتضيف: "لم يكن والدي راغبًا في السلطة ولم يكن طماعًا وحتى القصر الذي كتب عنه المؤرخون، فإن الأمين الباي هو الذي منحه للأزهر الشرايطي حتى يسكن فيه ( 1956-1960) وكانوا وقتها يخافون عليه من أن تغتاله اليد الحمراء ولم يكن لبورقيبة دخل في ذلك. فقد كان الأمين الباي وابنه الشاذلي يدعمان المقاومة المسلحة وينقل الابن السلاح بسيارته للمقاومين، بحسب تأكيد محدثتنا .
الأزهر الشرايطي غادر القصر بعد ذلك قائلًا إنه ملك للشعب التونسي، ليتزوج من امرأة سويسرية برضا أمي لأنه كان يريد إنجاب ذكر يحمل اسم العائلة.
والدي المقاوم والمناضل الكبير الذي سلم السلاح لفرنسا حبًا في بورقيبة وتقديرًا له وإن كان أخفى السلاح الجيد فقد منحه هدية إلى الثورة الجزائرية.
والدي لم يكره بورقيبة يومًا ولم يفكر في خيانته ويوم اعتقاله قال إنه سوء تفاهم سيتم توضيحه ولم يفكر في أن بورقيبة قد يقتله.
وللتاريخ، تقول ابنة المقاوم التونسي: "بورقيبة أيضًا كانت أبوابه مفتوحة للأزهر الشرايطي ويوم دقها يطلب النظر في وضعية المقاومين الذين كانوا يزورونه في البيت وكان أبي يعتبرهم أول الملفات وأهمها، اتصل يطلب من الحبيب بورقيبة حلًا لإشكالياتهم فطلب منه أن ينسق الأمر مع وزيره آنذاك الباهي الأدغم. وحين التقاه، قال له: 'بإمكاننا ان نمنحك يا الأزهر شطر البلاد لكن كمشة سُرّاح المعيز ما نعطيهمش مناصب'.
أجابه الأزهر الشرايطي: 'السُّراح (الرُّعاة) هم من أوصلوك لهذا المنصب' وقلب الطاولة بما فيها على وجهه. ووقتها أحس فعلًا أن بورقيبة لم يعد من يسير البلاد.
والدي اعتبر معركة بنزرت خيانة للمقاومين الذين راحوا ضحية في وقت منعه بورقيبة من المشاركة فيها".
أحداث ومشاهد ترويها الابنة الملتاعة باكية حينًا، متباهية مفتخرة في أحيان كثيرة برجل عظيم أحب البلاد ودفع دمه ثمنًا لها.
وظلت العائلة بحسب محدثتنا تدفع الثمن من أحزانها ودموعها فقد غادرت زوجة الأزهر الشرايطي السويسرية مع أولادها الخمسة إلى بلادها بعد أن عانت من اضطهاد النظام البورقيبي ومنعها من العمل وإعالة أولادها.
أما بقية العائلة فقد حرمنا حتى من الخروج من البيت أو من أن يزورنا أهلنا، بل إنهم طلبوا منا تغيير لقب الشرايطي فقد كان مجرد ذكره جريمة، تؤكد محدثتنا.
تقطعت أوصال العائلة وبعد سنوات نجحت ربح الشرايطي في إقناع أصغر إخوتها كريم، الذي لم يره الأزهر الشرايطي، بالعودة إلى تونس.
وجاء كريم ليسمع حكاية والده المناضل وليسأل عن قبرٍ يودُّ أن يزوره، لكن "بعد أن سمع الحقيقة وعلم أننا حُرمنا حتى من ملابس والدنا التي كان يرتديها ولا نعرف حتى مكان عظامه، غادر إلى سويسرا ووضع حدًا لحياته شنقًا.
وتنهار محدثتنا باكية راجية أن يصل صوتها إلى رئيس الدولة قيس سعيّد وأن تُنصَف العائلة وأن يتم مدّهم برفات الأزهر الشرايطي فقد كانت وصية زوجته المقاومة طاووس الشرايطي قبل وفاتها، معبّرة عن أملها في إنصاف تونس ما بعد الثورة لتاريخ والدهـا.
اقرأ/ي أيضًا:
عبد العزيز الثعالبي.. مؤسس الحزب الدستوري ورائد الحركة الإصلاحية في تونس