مقال رأي
انقضت القمة الفرنكوفونية بعد جدل طويل استمر حوالي العامين وحتى الأشهر الأخيرة قبل انعقادها حول مبدأ تثبيت إقامتها في تونس ثم مستوى حضور قادة الدول. مسار تنظيم القمة عكس طبيعة العلاقة بين قيس سعيّد وإيمانويل ماكرون، علاقة لا تبدو حميمية لكنها الأقرب إلى الضرورة. كأننا إزاء علاقة مضطربة، أما استمرارها فليس بدافع الحب بل بدافع حاجة الطرفين المصلحية إلى استمرارها.
ورث الرئيس التونسي من الرئيس السابق الباجي قائد السبسي "تركة" عقد قمة الفرنكوفونية في محور لا يبدو وجدانيًا منجذبًا إليه
من جهة أولى، هذه مقاربة قيس سعيّد. ورث الرئيس التونسي من الرئيس السابق الباجي قائد السبسي "تركة" عقد قمة في محور لا يبدو وجدانيًا منجذبًا إليه، كان المحور الفرنسي أقرب إلى تقاليد وتموقع الرئيس السابق السبسي منه إلى الانجذاب المعلوم للرئيس الحالي نحو نوستالجيا الستينيات والعمق العربي.
بدءً كان هناك مشكل حقيقي حول التنظيم منذ بداية عهدته في خريف 2019، من حيث مدى سرعة وجدية التحضيرات إلى الجدل حول مكان عقد القمة قبل تحديدها في جربة، وبدى أن الطرف الفرنسي خاصة غير مرتاح لمستوى الجدية التونسية.
في المستوى الرمزي حرص قيس سعيّد على إرسال رسائل "لا فرنكوفونية"، تؤكد على العلاقة التونسية باللغة العربية عوض الفرنسية، وكان من اللافت أنه في أول لقاء له مع الأمينة العامة لمنظمة الفرنكوفونية في جانفي/يناير 2020، بعد أشهر قليلة من وصوله إلى قرطاج، أن أهداها لوحة فنية بالخط العربي.
واستمر إصرار الرئيس التونسي على هذا البعد "الخطي العربي" في مسار تنظيم القمة حيث كان المعرض الرئيسي الذي حرص على تنظيمه في افتتاحها "معرض الخط العربي"، وأنهى هذا "الإنكار" عمليًا للفرنكفونية في قمة الفرنكوفونية بإعلانه في خطابه عدم وجود مثل هذا المصطلح في القاموس الفرنسي أصلا.ً
كان من الواضح في المحصلة أن حاجة قيس سعيّد لقمة الفرنكفونية ليس وجدانيًا أو فكريًا بل سياسيًا حصرًا. في البداية احتاج إلى انفتاح نحو محاور تساعده في معركته الداخلية مع طرف إسلامي متموقع في محور تركي- قطري ويسعى هذا الطرف إلى مغازلة باريس رغم تمنعها النسبي عنه، خاصة في الإيليزي. هنا نحتاج إلى وقفة حول هذه العلاقة المعقدة الأخرى: لم تتوقف قيادة حركة النهضة عن محاولة التقرب من باريس، وأشهر محاولة زيارة رئيسها إلى مواقع السلطة في باريس في صيف 2019 قبل الانتخابات لتقديم نفسه وتحسس الموقف الفرنسي من احتمال ترشحه واعتلائه مواقع في الدولة سواء الرئاسية أو غيرها.
كان من الواضح في المحصلة أن حاجة قيس سعيّد لقمة الفرنكفونية ليس وجدانيًا أو فكريًا بل سياسيًا حصرًا فقد احتاج إلى انفتاح نحو محاور تساعده في معركته الداخلية
من المعلوم أن باريس يشقها موقف غير مرتاح للطرف الإسلامي يمثله الرئيس ماكرون (الإليزي) وآخر "واقعي" يرى النهضة كشريك "ضروري" في تدبير الأوضاع تمثله "الأجهزة" والخارجية (الكي دورسي). يبدو أن معركة سعيّد مع النهضة وجدت صدى مناسبًا في الإليزي، لكن بقي ماكرون حذرًا من دعم سعيّد خاصة بخلفيته المحافظة الواضحة ونزعته نحو خطاب عروبي والموقف المعادي للتطبيع.
عندما أقدم على إجراءات 25 جويلية كان موقف الإيليزي محتشمًا، كان مثلما كان موقف واشنطن "قبول عن مضض" (قلق من عدم التشاور معهما قبل القيام بهذه الخطوات)، قبول بالأمر الواقع مع متابعة لصيقة للتعرف عن نوايا الرئيس. كان قيس سعيّد في المقابل يبحث عن مقبولية دولية وتجنب عزلة في الخارج، وأتى فيما بعد ملف الاتفاق مع صندوق النقد والحاجة لدعم فرنسي مع الصندوق. التقارب النسبي مع مصر طرح أيضًا مقاربة تتجاوز المحلي لتطرق أبواب باريس من زاوية أكبر.
يبقى أن الارتباط الواضح بين قيس سعيّد والرئيس الجزائري تبون لم يكن يساعد على تقارب كبير. مرة أخرى نحن إزاء رغبة مترددة ومضطربة غير مستقرة في التقارب.
من جهة ثانية، هناك مقاربة ماكرون. مثلما أسلفنا أعلاه كانت مقاربة الاليزي (في تباين نسبي مع "الأجهزة" الفرنسية) غير مرتاحة للطرف الإسلامي ومتموقعة عمومًا في محور إقليمي (إماراتي-مصري) يخوض معارك واضحة ضد النفوذ التركي ومعارك مباشرة مع أطراف إسلامية خاصة في ليبيا بدعم فرنسي واضح لحفتر.
مقاربة الإليزي كانت دائمًا غير مرتاحة للطرف الإسلامي ومتموقعة عمومًا في محور إقليمي إماراتي-مصري
ماكرون يؤمن أيضًا بإفريقيا يحكمها "رجال أقوياء" ولا يبدو متحيزًا بشكل مبدئي إلى مقاربة ليبرالية في سياسته إزاء المستعمرات القديمة ومجال النفوذ التقليدي الفرنسي، بل متحيز إلى السياسة "الواقعية" التقليدية الفرنسية التي تحبذ التعامل مع "رئيس قوي".
من هاتين الزاويتين، كان هناك دافع لماكرون لطرح إمكانية دعم قيس سعيّد. يضاف إلى ذلك تخوف فرنسي عمومًا من تجنب وقوع تونس، كجار متوسطي باعث للهجرة غير النظامية، في حالة فوضى. من هذه الزاوية يبدو كأن هناك اختلاف في الوسط الرسمي الفرنسي بعد 25 جويلية 2021.
ماكرون بدا أكثر استعدادًا لقبول الوضع الجديد ومنح فرصة للرئيس سعيّد للمضي في طريقه، مع تسجيل التحفظات الأساسية خاصة حول "الحريات" و"التشاركية" (نفس مصطلحات الخطاب الأمريكي بالمناسبة). والأجهزة والخارجية الفرنسية بدت أكثر تشاؤمًا، ومشكلها كان ولا يزال "عدم وضوح" خطة الرئيس واضطرابها، وتبين ذلك بالنسبة لها خاصة في مسار تحضير الاستفتاء.
الرئيس الفرنسي حسم موضوع إقامة القمة في تونس رغم ضغوط نظيره الكندي الذي أتى على مضض إلى جربة وكان من اللافت عدم عقد لقاء بينه وبين قيس سعيّد
في كل الحالات، الرئيس الفرنسي حسم موضوع إقامة القمة في تونس رغم ضغوط نظيره الكندي الذي أتى على مضض إلى جربة وكان من اللافت عدم عقد لقاء بينه وبين قيس سعيّد. لكن كانت محطة مسار الاستفتاء وطريقة إقامته على ما يبدو دافعًا لمراجعة ماكرون توقعاته المتفائلة من آداء سعيّد لكن في المقابل لم يكن له ما يفعل إلا مجاراة وضع يهيمن فيه الأخير.
العلاقة القوية بين سعيّد و تبون تبدو أيضًا مصدر قلق باريس في المجمل، خاصة أنها يمكن أن تجذب الرئيس التونسي إلى المحور التركي - القطري بدافع التقارب الكبير بين الجزائر وهذا المحور خاصة في الملف الليبي.
نحن إزاء علاقة صعبة تتخللها رغبات مضطربة بين طرفين تستمر علاقتها حتى الآن أساسًا بسبب الضرورة. أحد آخر مظاهر هذه الصعوبات تأجل إصدار البيان النهائي لـ"قمة جربة" حتى الآن
تركيز تحالف ثلاثي برعاية جزائرية "جزائري-تونسي-ليبي" ليس في نهاية الأمر في مصلحة النفوذ الفرنسي بخلاف أنه يستهدف أساسًا عزل المغرب الأقصى. الطرف الفرنسي عمومًا سيركز على قدرة الرئيس سعيّد على ضبط الأوضاع الداخلية الاجتماعية خاصة مع "الإصلاحات" القادمة على أساس اتفاق صندوق النقد الدولي وتزايد صعوبة الظروف المالية والاقتصادية سنة 2023 في تونس.
في الخلاصة نحن إزاء علاقة صعبة تتخللها رغبات مضطربة بين طرفين تستمر علاقتها حتى الآن أساسًا بسبب الضرورة. أحد آخر مظاهر هذه الصعوبات تأجل إصدار البيان النهائي لـ"قمة جربة" حتى الآن.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"