مقال رأي
اختار رئيس الدولة قيس سعيّد، في كلمته بمناسبة "يوم العلم"، أن يوجّه "صواريخه" إلى الذكاء الاصطناعي قائلًا إن "فيه ذكاء ولكن في جوهره اغتيال للفكر البشري". واستشهد بتصريح للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مفاده أن "الاستخدامات الضارّة لأغراض إرهابية وإجرامية يمكن أن تتسبّب في مستويات مرعبة من الموت والدمار" مسترسلًا أن المسؤول الأممي "يزيل اللثام على هذا الخطر الداهم المهدد لا للعلم بل للإنسانية جمعاء.. فهذا الذي يوصف بالذكاء هو من الأسلحة ذاتية التشغيل أو كالطائرات دون طيار يوجهها مركز واحد للقيادة والتسيير".
إقرار سعيّد بأنّ الذكاء الاصطناعي هو "اغتيال للفكر البشري" يعكس حقيقة مسارعته دائمًا، وفي مختلف القضايا، لتقديم مواقف حديّة دون موازنة وتعديل بين الآراء
المشكل ليس في تطرّق سعيّد للذكاء الاصطناعي الذي أصبح، راهنًا، موضوع نقاش دولي ليس فقط في علاقة بآفاق استخداماته، بل أيضًا باعتباره محطّة تبدو فارقة من منظور علاقة الإنسان بالعلم وسؤال الأخلاق، بالنظر إلى أن الذكاء الاصطناعي هو في أبسط توصيفاته محاكاة للعقل البشري. ولكن المشكل هو في الموقف الإطلاقي لسعيّد بأنه "اغتيال للفكر البشري". هو إقرار يعكس حقيقة مسارعة الرئيس دائمًا، وفي مختلف القضايا، لتقديم مواقف حديّة دون موازنة وتعديل بين الآراء. وذلك أيضًا من سمات الخطاب المؤامراتي الذي يعارض، في البداية، كل هو ما جديد وغير مألوف، باعتباره محاولة اختراق أو اعتداء من "الآخر".
فالرئيس نقل، في البداية، تصريح غويتيرش ليس نقلًا أمينًا بما يغالط حول الموقف الحقيقي للمسؤول الأممي. فالجملة المذكورة على لسان غويتيرش هي اجتزاء لكلمته في مجلس الأمن يوم 18 جويلية/ يوليو الفارط، والتي ذكر فيها أمين عام الأمم المتحدة أن الذكاء الاصطناعي "لديه إمكانيات هائلة للخير والشر". وتحدّث عن الجانب الإيجابي (التعرف على أنماط العنف وتعزيز السلام والجهود الإنسانية) كما الجانب السلبي (الذي اقتصر على ذكره الرئيس وهو الجانب الذي أشار إليه غوتيريش في علاقة بإبقاء ضرورة السيطرة البشرية على استعمال الأسلحة). لم يكن موقف المسؤول الأممي، بذلك، معاديًا للذكاء الاصطناعي كما أراد أن يُظهر الرئيس، ولم يعتبره اغتيالًا للفكر البشري ولم يدع لعدم الاستثمار فيه لأنه يعلم أنه حتمية في مسار التطور التكنولوجي. بل تبنّى موقفًا معتدلًا بين لزوم توظيفه في خير الإنسانية من جهة مع ضرورة مراقبة استعمالاته في بعض المجالات من جهة أخرى. بل دعا إلى إنشاء كيان أممي لدعم حوكمة الذكاء الاصطناعي.
قيس سعيّد لم ينقل تصريح أنطونيو غويتيرش نقلًا أمينًا بما يغالط حول الموقف الحقيقي للمسؤول الأممي الذي تبنّى موقفًا معتدلًا بين لزوم توظيفه في خير الإنسانية، مع ضرورة مراقبة استعمالاته أيضًا
الموقف الجازم والحادّ من الذكاء الاصطناعي رفضًا قاطعًا يذكّرنا بمواقف بعض الأولّين من الاختراعات والتطورات العلمية الجديدة كالكهرباء والديناميت والحاسوب والأنترنت إلخ، والحال أن لكل استحداث، بداية وبداهة، استعمالات ممكنة لما هو خيّر ومفيد وأيضًا لما هو شرّ ومضرّ. ولذلك دائمًا ما يتم تربية الناشئة على بناء مواقف معتدلة ونقدية بدون إقرارات حاسمة في اتجاه واحد، وذلك على غرار مواضيع الإنتاج الكتابي لتلاميذ الابتدائي حينما يطلب منهم المعلّم تقديم موقف موضوعي لإيجابيات وسلبيات موضوع ما.
وللمفارقة، فإن الرئيس سعيّد الذي اعتبر الذكاء الاصطناعي "خطرًا داهمًا"، كانت قد استقبلت رئيسة حكومته السابقة نجلاء بودن وفدًا من نادي الذكاء الاصطناعي "أبطال حفوز" الذي مثّل تونس في البطولة العالمية للذكاء الاصطناعي"FIRST LEGO LEAGUE" بهيوستن الأمريكية في شهر أفريل/ نيسان المنقضي. وهو ما يبيّن تعارضًا بين الموقف السلبي والمطلق للرئيس من جهة وسياسات حكومته من جهة أخرى.
الموقف الجازم والحادّ من الذكاء الاصطناعي رفضًا قاطعًا يذكّرنا بمواقف بعض الأولّين من الاختراعات والتطورات العلمية الجديدة كالكهرباء والديناميت والحاسوب والأنترنت إلخ
ولئن ما كانت مخاوف الرئيس سعيّد من الذكاء الاصطناعي مشروعة فهي لا تبرّر إقراره الحاسم باستعمال معجمه العسكري كالعادة بأن هذا الذكاء هو اغتيال للفكر البشري وبأنه خطر داهم. فالمخاوف التي تحدث عنها غويتيرش، الذي استشهد به الرّئيس، لا تطوي منافع ممكنة ومحقّقة.
والمؤسف أن الرئيس عبّر عن موقفه "الراديكالي" دون أي موازنة في مناسبة رمزية هي "يوم العلم" بمحضر خرّيجين متميّزين من المدرسة التونسية، الذين تعوّل عليهم تونس لضمان مواكبتها للثورة التكنولوجية في العالم، بل لتأمين موارد استثمارية ضخمة ممكنة. ففي هذا الجانب، أنشأ شاب تونسي قبل سنوات شركة ناشئة اسمها "أنستا ديب" متخصصة في تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي بمبلغ زهيد، قبل أن تتحوّل شركته من أهم الشركات الناشطة في المجال المذكور، وقد استحوذت عليها شركة "بيونتك" الألمانية بمبلغ قدره 1.3 مليار دينار. هل الذكاء الاصطناعي بذلك هو خطر داهم أم فرصة ممكنة للريادة؟
التصريحات الرئاسية يجب أن تكون مسؤولة ورصينة بالنظر لتأثيراتها، وهي ليست مجرّد تعبيرات إنشائية وليدة مواقف شخصية غير صائبة بذاتها
الرئيس سعيّد مطالَب، بالنهاية وفي كل الملفات التي يتناولها، أن يُعمل العناصر الموضوعية ويوازن بينهما قبل إعلانه، وهو رئيس الدولة، أمام العموم مواقف إطلاقية وجازمة دون أي مسافة تعديل. فالتصريحات الرئاسية يجب أن تكون مسؤولة ورصينة بالنظر لتأثيراتها، وهي ليست مجرّد تعبيرات إنشائية وليدة مواقف شخصية غير صائبة بذاتها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"