مقال رأي
منذ أيام، حكمت محكمة استئناف تونسية على الصحفي خليفة القاسمي بخمس سنوات سجنًا في تشديد لحكم ابتدائي سابق بسنة واحدة من أجل مقال صحفي نشرته إذاعة موزاييك الخاصة على موقعها، تناول فيه الصحفي المذكور خبر تفكيك خلية إرهابية بجهة القيروان بعد أيام من عملية أمنية تمت بالجهة.
الحكم ضد الصحفي خليفة القاسمي هو الأعلى منذ ظهور النشاط الصحفي في تونس في ستينيات القرن 19 ولم يصدر على صحفي مثل هذا الحكم في تاريخ البلاد على الإطلاق
هذه من المرات القليلة جدًا التي تضاعف فيها محكمة استئناف حكمًا ابتدائيًا بخمسة أضعاف. حكم على أحد الأمنيين، استئنافيًا أيضًا، بمقتضى نفس القضية بعشر سنوات سجنًا بسبب الاشتباه في كونه كان مصدر المعلومات التي نشرها الصحفي، بعد أن كان الحكم الابتدائي بثلاث سنوات سجنًا. كانت جريمة الصحفي الأساسية رفضه الكشف عن مصادره.
في تصريح له عقب هذا الحكم، قال نقيب الصحفيين التونسيين إن هذا أعلى حكم على صحفي منذ استقلال البلاد في منتصف خمسينيات القرن الماضي. والحقيقة أن نقيب الصحفيين قد أخطأ خطأ جسيمًا، فالأصح أن هذا الحكم هو الأعلى منذ ظهور النشاط الصحفي في تونس في ستينيات القرن التاسع عشر، وأنه لم يصدر على صحفي مثل هذا الحكم في تاريخ البلاد على الإطلاق.
وقعت محاكمة الصحفي والأمني بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب، وهو فيما يبدو القانون الذي أصبحت السلطات تفضل استعماله ليس في القضايا ضد الصحفيين فقط، وإنما ضد المعارضين بشكل عام. يجب التذكير بأن عددًا من قادة المعارضة يقبع في السجن منذ أشهر بسبب تهم بالتآمر على أمن الدولة والتخطيط لاغتيال رئيس الجمهورية، وهي تهم لم تستطع السلطات تقديم أي دليل على جديتها حتى بالتوسع الشديد في التأويل والتكييف القانوني.
من جهة أخرى، أكملت سلطة قيس سعيّد غلق الفضاء العام بسنها المرسوم 54، وهو مرسوم متعلق بالجرائم الصحفية والإلكترونية اقتبست الكثير من أحكامه وفصوله من أكثر القوانين قمعية على مستوى العالم، وسمح بتنصت الدولة عن طريق شركات الاتصالات على المواطنين جميعًا دون استثناء، دون اشتراط إذن قضائي مسبق.
أكملت سلطة قيس سعيّد غلق الفضاء العام بسنها المرسوم 54، وهو يسمح بتنصت الدولة عن طريق شركات الاتصالات على المواطنين جميعًا دون استثناء، دون اشتراط إذن قضائي مسبق
معنى ذلك أنه بإمكان السلطات الانطلاق في جمع المعلومات قبل توفر أركان أي قضية، لكنها يمكن أن توفر هذه الأركان لاحقًا بناء على عمليات الاعتراض السابقة. يجعل ذلك من السلطات تمارس رقابة واسعة جدًا، لأهداف الإدانة، على كل مواطنيها دون استثناء ودون أي احترام لخصوصياتهم ولا حتى لقوانين حماية المعطيات الشخصية التي لا تزال سارية نظريًا اليوم.
بمقتضى نفس القانون، يصبح أي تبادل خاص بين شخصين دليلًا يمكن أن تستغله السلطات في توجيه تهم، ويحاسب عليه كجريمة تمت في الفضاء العام. أصبح هذا المرسوم النص القانوني المفضل لدى السلطات في تتبع الناشطين والمنتقدين للسياسات الرسمية على شبكات التواصل الاجتماعي، ويقبع بسبب ذلك كثير من المواطنين بالسجون بسبب أحكام قاسية تطبيقًا لفصول هذا القانون.
من المفيد مقارنة هذا النص على سبيل المثال بنصوص أخرى قامعة لحرية التعبير في التاريخ التونسي المعاصر، للوقوف على التشدد غير المحدود للتشريعات الجديدة مقارنة بكل التشريعات السابقة. في بداية 1926، ولمواجهة تطور الحراك الوطني، أصدرت سلطات الاستعمار الفرنسي ما أطلق عليه الوطنيون آنذاك "الأوامر الزجرية" التي شددت العقوبات على النشر وحرية التجمع والتنظم. بمقتضى هذا الأمر، أصبح أي كلام، في الفضاء العام أو الخاص، قابلاً للتصنيف كجريمة. الفصل الرابع من هذا الأمر كان يعاقب بالسجن المتفوه بأي كلام، في الفضاء الخاص أو العام، يفهم منه انتقاد للباي أو لحكومة وإدارة الحماية. سمي ذلك آنذاك "بجريمة الهمس"، حيث عاقبت الأوامر المذكورة فعلًا التونسيين الذين يهمس بعضهم لبعض بكلام لا يعجب السلطات.
في بداية 1926، ولمواجهة تطور الحراك الوطني، أصدرت سلطات الاستعمار الفرنسي ما أطلق عليه الوطنيون آنذاك "الأوامر الزجرية" وأصبح أي كلام، في الفضاء العام أو الخاص، قابلاً للتصنيف كجريمة وسمي ذلك "بجريمة الهمس"
صدرت هذه النصوص في سياق قمع الحركة النقابية التونسية، وصدرت أحكام نفي وسجن ضد قياداتها، وتم حلها، بالإضافة إلى استهداف الحزب الحر. لكن أحكام هذه الأوامر لم تصل أبدًا إلى العشر سنوات سجنًا التي نجدها في المرسوم 54 عندما يتعلق الأمر بممارسة الصحافة، ولا حتى للخمس سنوات.
يقع اليوم في تونس تتبع جميع من يعارضون السلطة عبر ترسانة قوانين متكاملة: قانون مكافحة الإرهاب، والمرسوم 54، وقوانين أخرى قديمة مستمدة من الفترة الاستعمارية مثل تلك التي تتعلق "بنسبة أمر موحش لرئيس الجمهورية"، بل إن المقصود منها عندما وضعت آنذاك كان رئيس الجمهورية الفرنسية، وليس التونسية.
يمكن قول الشيء نفسه عن تهم "تعكير صفو النظام العام والتحريض ودعوة السكان لمهاجمة بعضهم البعض بالسلاح .". كان المقصود بالسكان آنذاك نوعين من الناس: التونسيون والفرنسيون. لقد وضع هذا الفصل لمواجهة أي دعوات للاحتجاج على الاستعمار ورفض سياساته. كان في المحصلة فصلاً شبيهًا بما يجري اليوم عندما يقع اتهام المعارضين بالإرهاب.
يقع اليوم في تونس تتبع جميع من يعارضون السلطة عبر ترسانة قوانين متكاملة: قانون مكافحة الإرهاب، والمرسوم 54، وقوانين أخرى قديمة مستمدة من الفترة الاستعمارية مثل تلك التي تتعلق "بنسبة أمر موحش لرئيس الجمهورية"
نجد كل هذه النصوص القديمة في المجلة الجنائية التونسية الصادرة في سنة 1913، والتي أعدتها سلطات الاستعمار الفرنسي. منذ ذلك الوقت، تذهب كل سلطة للبحث عن الوسائل التي تدين خصومها وتضعهم في السجن. لا تشذ سلطة قيس سعيّد اليوم عن هذا السلوك، لكنها تقطع فيه خطوات غير مسبوقة في حدتها وتسارعها.
في مثال الصحفي خليفة القاسمي، أصبح الأمر يتعلق بالربط بين مجالين: مجال الصحافة وما يحيل إليه من مسائل تتعلق بحرية الإعلام، وبين قانون مكافحة الإرهاب. هذان فكا الكماشة التي تطبق بهما سلطة قيس سعيّد اليوم على كل منتقديها، أو تهدد بالإطباق بهما عليهم.
يأخذ ذلك الأمور إلى مستوى آخر تمامًا وغير مسبوق بالمرة. وبالفعل فلم يحاكم في تونس أي صحفي في السابق، ومهما كانت الفترة، بمقتضى قانون جعل في الأصل للتصدي للإرهاب. يتحول قانون مكافحة الإرهاب إلى قانون إرهاب حقيقي، ويتسلل الاستبداد من بعض الثغرات التي تركت في القانون الذي صوت عليه مجلس نواب الشعب تحت ضغط الاعتداءات الإرهابية التي طالت البلاد في فترة الانتقال الديمقراطي.
يتحول قانون مكافحة الإرهاب إلى قانون إرهاب حقيقي، ويتسلل الاستبداد من بعض الثغرات التي تركت في القانون الذي صوت عليه مجلس نواب الشعب تحت ضغط الاعتداءات الإرهابية التي طالت البلاد في فترة الانتقال الديمقراطي
وبالفعل، فإن سلطة اليوم تقول إنها لم تضع بنفسها هذا القانون، بل إن "الديمقراطيين" هم الذين وضعوه، وهي تكتفي فقط بتطبيقه. هذا ليس مخطئًا جدًا في الحقيقة.
يجب التنبيه مع ذلك إلى أن هناك تناقضًا مركزيًا في هذا الموضوع: إن تطبيق قانون مكافحة الإرهاب على المعارضين لمجرد قيامهم بأنشطة سياسية أو صحفية لا تعجب السلطات، يتم في سياق أكبر وأشد تعقيدًا.
يتميز هذا السياق اليوم بإغلاق الفضاء العام بمجموعة من القوانين القمعية، وباستهداف السلطة وإهانتها لاستقلالية القضاء، والمنع المقنع للنشاط السياسي وحرية التعبير. إن المشكل الحقيقي ليس في تطبيق قانون مكافحة الإرهاب، بل في تطبيقه دون ضمانات للحقوق، ودون إعلام حر يفضح التجاوزات إن ارتكبت، ودون قضاء قادر على نطق الأحكام بما يرضي ضمير القضاة.
تسيطر السلطة في تونس اليوم على كل الفضاءات بدرجة تكاد تكون كاملة وتطوعها لمصلحتها بطريقة متسارعة وفظة. هذا هو ما يمكنها من استعمال قانون مكافحة الإرهاب كقانون إرهاب للخصوم والمعارضين والمنتقدين
تسيطر السلطة في تونس اليوم على كل هذه الفضاءات بدرجة تكاد تكون كاملة، وتطوعها لمصلحتها بطريقة متسارعة وفظة. هذا هو ما يمكنها من استعمال قانون مكافحة الإرهاب كقانون إرهاب للخصوم والمعارضين والمنتقدين.
تلتحق تونس بذلك وبصفة متسارعة بالنموذجين الذين يبدوان الأقرب إلى قلب سلطتها الحالية: الجزائر ومصر، حيث يتولى قضاء خاضع لهوى السلطات، وقوانين موغلة في استهداف الحريات، القيام بخدمات مناولة لحكم غير قادر على مواجهة معارضيه سياسيًا ولا فكريًا، فيلجأ إلى وضعهم في السجون.
تلتحق تونس بصفة متسارعة بالنموذجين الذين يبدوان الأقرب إلى قلب سلطتها الحالية: الجزائر ومصر، يتولى قضاء خاضع لهوى السلطات، وقوانين موغلة في استهداف الحريات، القيام بخدمات مناولة للحاكم
إن عملية قتل السياسة التي نشهدها اليوم في تونس، تتم تحت تصفيق الجمهور، ما يحمل معاني كثيرة، وتختفي وراءه أسباب كثيرة ومعقدة. يزيد هذا السياق في خطورة إرهاب السلطة لمنتقديها، ويعطيها نوعًا من الغطاء الذي يجعلها تتشجع أكثر فأكثر على السير في الطريق السيئ الذي تسلكه منذ سنتين.
سيتوجب أن ننتظر وصول القمع لأوسع الفئات حتى يمكن أن نتوقع بداية وعي بخطورة ما يحصل، وهي فيما يبدو الطريقة الوحيدة لإقناع الجمهور بأن سلطة قيس سعيّد لا تستهدف فقط من يرفع صوته ضدها، بل إنها مستعدة لاستهداف البقية عندما يبدأ الناس في الوعي بعجز الشعبويين عن حل أي من مشاكلهم، حتى تلك التي يفترض أنهم جاؤوا بزعم حلها. في انتظار ذلك، يجب توقع مآسي كثيرة، وطريق طويلة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"