15-أبريل-2019

وقعت سوق كتب الأطفال فريسة منطق الربح التجاري (صورة توضيحية/Getty)

 

نبّهنا في الجزء الأوّل إلى خطورة ما سمّيناه "الفساد القصصيّ" في كتب الأطفال، واعتبرناه أخطر من الفساد الاجتماعيّ والصّحيّ، وعلّلنا موقفنا بأمثلة عديدة من الانحرافات في الأعمال الأدبيّة الموجّهة للفتيات والفتيان، ثمّ نوّهنا بدور الأولياء في التصدّي لهذه الانزلاقات، ونزّلنا هذا الطرف في صدارة "جبهة الإنقاذ القيميّ والذوقيّ".

اقرأ/ي أيضًا: في قصص الأطفال.. زلّات وانحرافات (1/2)

ولأنّ دور الآباء والأمّهات يظلّ تلقائيًا عفويًا مهما بلغ الحرصُ، نتساءل في الجزء الثاني عن دور المبدعين والمؤسّسات والنقّاد والتّشريعات في وقاية الأطفال، هذه الفئة الضّعيفة القاصرة المحتاجة إلى حماية وتأمين أدبيّ ونفسيّ. ولا يتعارض هذا المطلبُ مع حريّة الرّأي والفكر والتعبير المكفولة دستوريًا والمحميّة بروح الثورة وشُعلتها.

للكبار فقط؟

إنّ الدّافع إلى الحثّ على توخّي منتهى الانتباه والحيطة في مراقبة السّلع الموجّهة إلى الطّفل مأكلًا أو ملبسًا أو فنًا أو أدبًا مردّه خصوصيّة هذا "المستهلك" في مرحلة النعومة الجسديّة والذهنيّة، فهو عاجز عن التمييز الصّحيّ والذوقيّ والأخلاقيّ.

من جهة أخرى، نحن على بيّنة من أنّ الأدب يُقيّم تقييمًا فنيًا جماليًا، وأنّه يأبى المعايير الدينيّة والأخلاقيّة والانطباعيّة، ونحن أبعد ما نكون عن الدّفع في اتّجاه التعامل مع المبدعين بعصيّ الحساب والعقاب وأعين الرّقابة وشرطة الآداب. فالرّواية الموجّهة إلى الكبار لا حسيب عليها غير "جماليّة التلقّي" وأفق انتظار الجمهور مهما كان نوعها كلاسيكيّة أو رومنسيّة أو سرياليّة أو حتّى بورنوغرافيّة.

في المقابل، تخضع الإبداعات الموجّهة للنّاشئة بالضّرورة فضلًا عن الضّوابط اللغويّة والفنيّة إلى المعايير الذوقيّة والأخلاقيّة المتناغمة مع البنية الثّقافيّة السّائدة في المجتمع، وهو ما أجمع عليه كلّ المتحدّثين إلى "ألترا تونس" في هذا التقرير.

المبدع والنّاشر و"الحماية المدرسيّة"

يقول الأسعد النّجار، الباحث في الحضارة والأستاذ الذي خَبِرَ قصص الأطفال من خلال درس المطالعة مع تلامذة المدارس الإعداديّة على امتداد عقدين، إن تأليف القصص الموجّهة إلى الأطفال يعتبر عملًا مهاريًا صناعيًا لا يُتيح لصاحبه ما يُتاح لمبدع الرّواية أو الأقصوصة أو غيرها من الأجناس والأشكال والأنواع الأدبيّة.

الأسعد النجار (أستاذ): تأليف القصص الموجّهة إلى الأطفال يعتبر عملًا مهاريًا صناعيًا لا يُتيح لصاحبه ما يُتاح لمبدع الرّواية أو الأقصوصة أو غيرها من الأجناس والأشكال والأنواع الأدبيّة

في نفس الإطار، يعتبر سمير بن علي، مستشار سابق بوزارة الثّقافة ومدير دار نشر وعضو اتّحاد النّاشرين والمتخصّص في السّرديّات، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أنّ الزّلّات والانحرافات في قصص الأطفال لا ترجع فقط إلى أسباب لغويّة وأخلاقيّة وذوقيّة، إنّما تعود كذلك إلى محدوديّة الكفاءة الإبداعيّة لدى العديد من كتّاب هذا النّوع الأدبيّ الخطير الحسّاس، ذلك أنّ جلّ الأعمال المنشورة تبدو بالنسبة إلى بن علي جافّة سطحيّة أدنى من الأفق الخياليّ للطفل، وهو ما يجعل دور النّشر على حدّ تعبيره في حاجّة ملحّة إلى لجان إصلاح ومراجعة ومراقبة.

دعا سمير بن علي لإنشاء لجان إصلاح ومراجعة ومراقبة لكتب الأطفال

يتّضح من خلال هذه التدخّلات أنّ بعض الباحثين والناشرين والكتّاب يمثّلون فضلًا عن الأولياء طرفًا مساهمًا نقديًا وإجرائيًا وإبداعيًا في جبهة الإنقاذ القيميّ والذوقيّ من السموم الصادرة عن قصص الأطفال المصابة بلوثات لغويّة أو فنيّة أو أخلاقيّة.

ولأنّ الأمر جسيم لا عجب أن تلتحق بهذه الجبهة أطراف أخرى، فقد شرع طلبة بالمعهد العالي لإطارات الطفولة في إجراء بحوث استقصائيّة حول العيوب والنّقائص في كتب الأطفال، وقد عثر هؤلاء الباحثون على عيّنات في غاية الخطورة قد تنشر لاحقا موثّقة مفصّلة.

هذه الهبّة الفرديّة والجماعيّة لإنقاذ الأطفال من "قصص الانحراف والسّطحيّة" تزيدنا إصرارًا على التّساؤل عن سبب المعضلة وأصل البليّة.

المال ولوثة الاستسهال

أكد أكثر من عشرة تجّار من أصحاب المكتبات بباب الجديد ومونفلوري ونهج الساحل وباب الجزيرة وباب الخضراء بمدينة تونس العاصمة، في حديثهم لـ"ألترا تونس"، أنّ قصص الأطفال تحظى بإقبال كبير من قبل الأولياء والتلامذة وذلك مقابل عزوف لافت على الكتب الموجّهة إلى الكبار حسب تقييماتهم.

هذا المعطى التجاريّ قد يمثّل سببًا موضوعيًا دفع العديد من المبدعين إلى إنتاج هذه السّلعة المُرْبِحَةِ. وتأكيدًا لهذه الفرضيّة يقول الأكاديمي وأديب الأطفال لطفي الحجلاوي، في حديثه معنا، إن "كتب الأطفال وقعت فريسةَ لِبراليّة النشر وهيمنة قيم السّوق الرّبحيّة، وهو ما دفع الكثير من كتّاب هذا النّوع القصصيّ إلى التسرّع في الكتابة والطباعة والحرص على مسابقة مواعيد المعارض المحليّة والدوليّة". ولم تنج دور النّشر من هذه النزعة الماديّة، فقد خيّر جلّها عدم التّعويل على لجان قراءات تهرّبًا من تحمّل تكاليف المُحَكَّمِين والمراجعين والمصحّحين.

لطفي الحجلاوي (أكاديمي وأديب للأطفال): كتب الأطفال وقعت فريسةَ لِبراليّة النشر وهيمنة قيم السّوق الرّبحيّة

ومن أبشع ما وصلت إليه التجاوزات في أدب الأطفال ظهور ما يمكن نعته بــ" لوبيّات المطالعة"، إذا يعمد بعض الكتّاب في تسويق كتبهم إلى التنسيق مع عدد من المعلّمين، فيمارس هؤلاء "المربّون" دورًا إشهاريًا عبر حث المئات بل الآلاف من تلامذتهم على اقتناء عناوين مخصوصة لمطالعتها "مطالعة حرّة". بذلك، يُجبر الطفل على اقتناع "سلع مغشوشة" مشكوك في صلاحيّتها وذلك استجابة إلى نصيحة " "سِيدِي وأنيستي" صاحبَيْ المنزلة الاعتباريّة المؤتَمَنين على ترشيده وتنويره. 

اقرأ/ي أيضًا: حراس المدارس.. أمناء على التلاميذ أم مغتصبون؟!

هذه المعطيات والأمثلة وغيرها أوقعت قصص الأطفال في فوضى الكثرة و"الإسهال" وجشع المادّة والمال ولوثة التسرّع والاستسهال.

ونظرا إلى خطورة الموقف، يدعو محدثنا سمير بن علي، المستشار السابق بوزارة الثقافة ومدير دار نشر، المربّين إلى التحلّي بمنتهى اليقظة والنزاهة والموضوعيّة في تخيّر قصص المطالعة. من جهته، يؤكد الحجلاوي على ضرورة تجريم النّصوص التي لا تستجيب إلى المعايير الأساسيّة، في حين يقترح الأسعد النجّار وضع ميثاق أدبيّ وأخلاقيّ يُلزم الجميع بشروط دقيقة في الكتابة والنشر والعرض والاختيار.

يتبيّن لنا أنّ قصص الأطفال لا تشكو من زلّات وأخطاء عفويّة، إنّما أصبحت مستهدفة من أطراف يرقى التنسيق بينها إلى مرتبة الفعل الإجراميّ المنظّم، ولمّا أن تحقّقنا من خطورة هذه القضيّة حقّ القول إنّ مواجهة قصص الأطفال الفاسدة تقتضي بالضّرورة أن يكون للطّفل وليّ يقظ يحرسه وضوابط تقييميّة خاصّة تنجده وهيئات علميّة وإداريّة تصونه وقانون يحميه.

للطفل قانون يحميه

"الزّلات والانحرافات" في قصص الأطفال ليست مجرّد أخطاء يمكن أن تواجه بالنقد والتّأنيب وتجميع النسخ من المكتبات في أقصى الحالات، إنّما هي تجاوزات يمكن أن تكون موضوع تتبّع جزائيّ.

إذ تتطلّع مجلّة حماية الطفل إلى ضمان "حقّ الطّفل في التمتّع بمختلف التدابير الوقائيّة من كافّة أشكال العنف أو الضّرر أو الإساءة البدنيّة أو المعنويّة"، وتمثل "القصص الفاسدة" ذوقيًا وأخلاقيًا، بهذا المعنى، إساءة معنوية للطفل. ويُفترض على عديدُ الأجهزة والمؤسّسات كوزارة الثقافة وإدارة الآداب ووزارة التربية والجمعيّات والأحزاب والمجتمع المدنيّ أن تتصدى بمنتهى السّرعة والنجاعة والتّعبئة الإعلاميّة والأمنيّة إن لزم الأمر.

"الزّلات والانحرافات" في قصص الأطفال ليست مجرّد أخطاء يمكن أن تواجه بالنقد والتّأنيب وتجميع النسخ من المكتبات في أقصى الحالات إنّما هي تجاوزات يمكن أن تكون موضوع تتبّع جزائيّ

بل ويفترض أن يتحلّى مندوب حماية الطفولة بمنتهى اليقظة والصرامة، إذ تُوكل له بمقتضى الفصل الثلاثين من مجلّة حماية الطفل مهمّة "التّدخّل في جميع الحالات التّي يتبيّن فيها أنّ صحّة الطّفل أو سلامته البدنيّة أو المعنويّة مهدّدة أو معرّضة للخطر" وعلى بقيّة الأطراف عمومًا واجب الإشعار التزامًا بمبدأ المواطنة.

من باب الوعي بصعوبة التصدّي للمشكلة المعروضة، يمكن القول إنّ المبادرات والتشريعات قد تظلّ غير ذات جدوى في غياب الوعي والإرادة والحزم في تفعيل القوانين. كما أنّ تشعّب المسألة يدفعنا إلى الإقرار بأنّ الحدّ من زلّات قصص الأطفال وانحرافاتها شأن عامّ ومهمّة واسعة شاملة متشابكة تشريعيّة وإداريّة وإعلاميّة واجتماعيّة وتربويّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المحتوى الإعلامي الموجّه للأطفال.. ماهي الخطوط الحمراء؟

"رد بالك على عصفورتك".. عن عالم الجنس وبراءة الطفولة