11-أغسطس-2023
أسماء المحلات في تونس

كلّهم ملوك للدجاج أو على الدجاج!  (تصوير جاسر عيد/الترا تونس)

مقال رأي 

 

اعتقاد راسخ تشكّل في ذهني تدريجيًا حتى أصبح بمثابة الحقيقة العلمية.. وهو أنّك لن تقرأ على جدران أكثر من نصف المطاعم في تونس سوى عبارة "ملك الدجاج".. وأؤكّد لك أنّي صادفتُ ملوكًا كثيرين في رقعة جغرافية صغيرة نسبيًّا.. كلّهم ملوك للدجاج أو على الدجاج! لا يهمّ.. المهمّ أنّهم ملوك وكفى.

ولكم أثار دهشتي أيضًا هذا الكمّ الهائل من المقاهي باسم "ولد الحاج".. ولا أخفيك أنّني فكّرت أنّ بعض هؤلاء ربما أصبح حاجًّا لينال شرف كتابة هذا الاسم على مقهاه لا أكثر! بل إنّك لا تعرف أحيانًا أنّ صاحب المقهى قد حجّ بيت الله إلاّ بعد أن يوافيه أجله.. فتجد ابنه يهرع إلى تغيير اسم المقهى، طبعًا.. فقد أصبح "ولد الحاج"!

إنّ فلسفة الأسماء أمرٌ شديد التعقيد فعلًا، لكن ماذا عن تسمية نصف مقاهي تونس بـ"ولد الحاج" ونصف مطاعمها بـ"ملك الدجاج"؟

 

ولد الحاج

ماذا عن تسمية نصف مقاهي تونس بـ"ولد الحاج" ونصف مطاعمها بـ"ملك الدجاج"؟ (تصوير جاسر عيد/الترا تونس)

 

وإنّك في سيركَ لن تلمح أكثر من اسمين أو ثلاثة للمكتبات عمومًا.. فهي إمّا مكتبة "النجاح" أو "الفوز" أو "الامتياز".. عدا ذلك لن تجد. والأمر سيّان بالنسبة لمحلاّت العطورات، فكلّها عطورات "الشذى" و"الياسمين" و"الرياحين" وهلمّ جرًّا.

إنّ فلسفة الأسماء أمرٌ شديد التعقيد فعلًا، وهو يختلف من بلاد إلى أخرى، لاحظ مثلًا أنّ أسماء جديدة ظهرت في تونس بعد سطوع نجم المسلسلات التركية.. توجّه كبير نحو تسمية "مهنّد" و"أسيل" و"إلينا" و"روشان" إلى غير ذلك من الأسماء التي لا أحفظها.

هذه الفلسفة تنبع أوّلًا عند كثيرين من رغبتهم في تفرّد مولودهم الجديد باسم غير متداول، يميّزه عن أقرانه وبيئته عمومًا، ولعلّ جوجل عبر خوارزمياته المعقدّة التي تكشف لك نتائج البحث الأكثر استعمالًا.. يتيح لنا معرفة ما يجول بعقول هؤلاء تقريبًا، فالكل يبحث أولًاّ عن جمال الاسم، ثمّ تميّزه، ثم غرابته.. المواقع التي تتاجر في هذه البضاعة لا تعرف الكساد! فهي دائمًا على استعداد لإثارة فضولك بأسماء جديدة تلهمك في بحثك المحموم.

 

 

على أنّنا نلاحظ أحيانًا أنّ جيلًا ما كثر فيه تكرار اسم معيّن.. "صدّام" مثلًا من الأسماء التي انتشرت عقب إعدام الرئيس "صدّام حسين"، "جمال" أيضًا من الأسماء التي تداولت فترة حكم الرئيس "جمال عبد الناصر" وبعد وفاته.. وعمومًا، تخضع فلسفة الأسماء إلى آليات عديدة، من بينها آلية البُشرى (كأن يولد يوم الجمعة مثلًا أو في أحد العيدين فيسمّى بشير أو محمّد إلخ..) أو آلية التبرّك (باسم أحد أولياء الله الصالحين مثلاً..) أو آلية درء الحسد (عبد اللطيف، وخميس الخ..).

المواقع التي تتاجر في بضاعة "الأسماء" لا تعرف الكساد! فهي دائمًا على استعداد لإثارة فضولك بأسماء جديدة تلهمك في بحثك المحموم

إن سألت أحدهم عن أفضل موسيقى سمعها في حياته فربما يؤرجح رأسه يمينًا وشمالًا في محاولة للتّذكّر، غير عالم ربما، أنّ الحروف المكوّنة لاسمه لها أحلى وقع على قلبه كلما نُودي بها.. لكنّي عرفتُ كثيرين ممّن يكرهون أسماءهم كرههم للعمى.. فيخترعون لأنفسهم كنية (تربيجة) يفرضونها على كلّ من يخاطبهم.

في سنواتي الابتدائية عرفتُ زميلًا لقبه "الحرشاني"، والكلمة تحمل دلالة غير إيجابية في المجتمع عمومًا لكون "الأحرش" هو الغليظ الخشن من كلّ شيء، ويُقال فلان "أحرش" أي طالعه سيء، ولن يسرّك ما سيحدث لك في يومك لو بادرتَه بتحيّة "صباح الخير"، وهذا كلّه بلا شكّ من باب التطيّر والاعتياف. عمومًا، لقيَ الفتى ما يلقاه الطبل يوم العيد.. الكلّ يعايره بلقبه حتّى لقيناه بعد ذلك وقد غيّره إلى "الهمّامي"! على أنني أعرف صديقًا آخر مبدعًا يحمل اللقب نفسه "الحرشاني"، فكان يفخر به لدرجة أنّه كتبه على حسابه في فيسبوك "حُرّ شاني" أي حرّ في شأني! وشتّان بين الحرشانيين.

عرفتُ سيّدة رقيقة اسمها "حُسني"! ورجلًا ضخمًا اسمه "تيسير"! وفتاة فاتنة تدعى "رياض"، ولادينيًا اسمه "سيف الدين"! قد تصدُق فينا أسماؤنا حقًّا، وقد لا تعبّر عنّا في أحايين كثيرة

عرفتُ سيّدة رقيقة اسمها "حُسني"! ورجلًا ضخمًا اسمه "تيسير"! وفتاة فاتنة تدعى "رياض"، وطفلًا مدلّلًا يدعى "حازم"، ولادينيًا اسمه "سيف الدين"! قد تصدُق فينا أسماؤنا حقًّا، وقد لا تعبّر عنّا في أحايين كثيرة.

وقديمًا سُمّي المتنبّي كذلك لأنّه ادّعى النبوّة، والجاحظ لجحوظ عينيه، وجرير لأنّ أمه رأت في منامها وهي حامل به أنها تلد حبلاً يخنق الناس، فقصّت رؤياها على مفسّر فقال لها (لتلدن ولداً يكون شراً على الناس).. وقد كان (اشتُهر بالهجاء)! والمعرّي نسبة إلى المعرّة وهي مدينة، واسم آدم مشتقّ من أديم الأرض لأنه خلق من الطين، واسم إبليس من الإبلاس وهو اليأس.. إلخ.

لكنّي بعد كلّ هذا أعود وأسأل: ماذا عن "ولد الحاج" و"ملك الدجاج"؟ تُراهم قرأوا شيئًا عن فلسفة الأسماء؟

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"