مقال رأي
ترتبط عبارة "المسألة" في الكتابات الأكاديميّة بالتحليل النظري الإشكالي لقضيّة تداخلت فيها عدّة أبعاد وصارت تمثّل مشكلًا دائمًا لأكثر من جهة. من ذلك المسألة اليهوديّة التي برزت مع صعود فكرة الدولة/الأمّة وتبلور الوعي القومي والحدود بين الأعراق والأجناس. وقياسًا عليها كتب المفكر العربي عزمي بشارة في المسألة العربيّة من جهة علاقة العرب باعتبارهم هويّة لسانيّة بالعالم من خلال علاقة تجربتهم المعاصرة بالقبيلة والدولة والأمةّ بالهويّة والديمقراطيّة بالمواطنة، والسياسة بالحداثة.
نجرّب الكلام على ما أسميناه المسألة الإفريقيّة من زاوية نظر سياسيّة محدودة تتعلّق بمعضلة الهجرة غير النظامية كما تعيشها تونس بعد الانقلاب على تجربة الانتقال الديمقراطي التي انطلقت مع الثورة في 2011
في هذا الأفق النظري الإشكالي، وفي حدود المقال السياسي الموجز، نجرّب الكلام على ما أسميناه المسألة الإفريقيّة من زاوية نظر سياسيّة محدودة تتعلّق بمعضلة الهجرة غير النظامية كما تعيشها تونس بعد الانقلاب على تجربة الانتقال الديمقراطي التي انطلقت مع الثورة في 2011. دون أن نتوهّم القدرة، في هذا الحيّز المحدود، على بناء مقال عن المسألة الإفريقيّة. وإنّما الغاية من كلّ هذا التنبيه إلى أنّ كتابات مؤسَّسة في المسألة الإفريقيّة من وجهة نظر الديمقراطيّة ستكون كشّافًا مهمًا أمام قادة السياسة محليًّا وفي علاقة بالشركاء التاريخيين.
- البعد الإفريقي
في الخطاب الرسمي للنظام السياسي الذي تفرّد بالدولة منذ 1956 على مدى العهدين البورقيبي والنوفمبري، كان يقع الاكتفاء بالحديث عن بعد تونس الإفريقي، مع التذكير من حين لآخر بأنّنا أفارقة. وهو خطاب لا يتميّز في شيء عن التذكير الروتينيّ الأجوف بالبعد المغاربي والعمل العربي المشترك.
لم يتحوّل البعد الإفريقي مع دولة الاستقلال في تونس ونظامها السياسي إلى مكوّن ثابت وقوي في الدبلوماسيّة الاقتصاديّة والسياسة التنمويّة والثقافيّة
وللبعد الإفريقي مستويات مختلفة داخل النخبة بمعناها الواسع، فهو عند أصحاب الأعمال إمكانيّات للاستثمار وفتح مجال للخبرة التونسيّة في السوق الإفريقية، وهو سوق للإنتاج الفلاحي وما ارتبط به من صناعات تحويليّة، وهو عند المثقفين الأدب الإفريقي بأصالة فنونه في تنوّعه وثرائه وامتداداته في شتى الفنون المحليّة، وهو عند أهل الفكر التراث السياسي وتقاليده الكفاحيّة ضدّ الاستعمار من باتريس لوممبا إلى نيلسون مانديلا مرورًا بفرانس فانون.
لم يتحوّل البعد الإفريقي مع دولة الاستقلال ونظامها السياسي إلى مكوّن ثابت وقوي في الدبلوماسيّة الاقتصاديّة والسياسة التنمويّة والثقافيّة، فتونس مثل الدول الإفريقية بقيت في مبادلاتها مشدودة إلى فرنسا، وما قام من مبادلات بينيّة في شتّى المجالات يكيّفه الإرث الاستعماري في السياسة والاقتصاد والثقافة والاستراتيجية. ويعكس حجم المبادلات بين الدول الإفريقية وبينها وبين تونس وبجلاء هذه الحقيقة السياسيّة.
ما يُطرح اليوم من أزمات في أوروبا وهامشها وإفريقيا جزء منه، فاقم الهجرة باتجاه ضفة المتوسط الشماليّة وجعل الجانب غير النظامي عنصر تهديد أمني وسياسي
مع الثورة، كانت هناك محاولة لإعادة بناء البعد الإفريقي مع حكومة الترويكا باعتبارها ممثلة للتيار الغالب في الثورة التونسية. وارتبط هذا التوجّه العام موضوعيًّا بمسار بناء الديمقراطيّة.
وكان الرئيس المنصف المرزوقي أكثر المعبّرين عن هذا التوجّه نحو إفريقيا من خلال حضور الدبلوماسية التونسية فيما ينعقد من قمم ومنتديات وندوات، ومن خلال زيارات الدولة إلى دول إفريقيّة.
وفي هذا السياق، تتنزّل زيارته في جوان/ يونيو 2014 صحبة 100رجل أعمال إلى خمس دول إفريقيّة هي مالي والنيجر والتشاد والغابون وغينيا الاستوائية. وكانت الجولة تحت عنوان "مستقبل تونس في إفريقيا". غير أنّ فوز النظام القديم وروافده من اليسار الوظيفي وقوى من المجتمع المدني في انتخابات 2014 الديمقراطية أوقَف سياسة التوجّه نحو إفريقيا وأعاد تقاليد الدبلوماسيّة الموروثة عن البورقيبيّة والنوفمبرية.
- الهجرة غير النظامية
مثّلت الهجرات وحركة الجموع في المكان عاملًا مهمًّا في التاريخ وفي تبدّل أطواره ومنعرجاته الكبرى. وهي عند المشتغلين بالجغرافيا والتاريخ والديمغرافيا من العوامل المهمّة في تغيرات الحضارة مثلها مثل الحروب والتغيّرات المناخيّة والزلازل والأوبئة والجوائح. وكانت الهجرات في حقيقتها نتيجة من نتائجها.
وغالبًا ما تكون الهجرات من الأماكن الآهلة باتجاه الأقل ديموغرافيا، وهي في ذلك تخضع لقانون "ظاهرة التراشح" بين المجال الأكثر تركيزًا باتجاه المجال الأقل تركيزًا. وتشير درجة التركيز في تجربة الشعوب إلى درجة تقدّمها في الحضارة وأحوال العمران فيها قياسًا إلى أجوارها. وهو سلوك كلّ حضارة عندما يضيق بها مجالها التاريخي قوّة وضعفًا، فتفيض بذلك على محيطها. وتشير كتابات تعلّقت بـ"إمبراطوريّة مالي" (1190م ـ 1255م) التي ضمّت مالي وغينيا والسنيغال وغمبيا وبوركينا فاسو إلى جانب من هذه الظاهرة وعلاقة إفريقيا الناهضة بمحيطها.
هناك متغيران مهمان في موضوع الهجرة باتجاه أوروبا، أحدهما صعود اليمين المتطرّف في هولاندا وفرنسا وقيادته الحكومة في إيطاليا
الهجرات لم تنقطع طوال التاريخ، وهي دليل على أنّ التفاعل بين الحضارات لم ينقطع رغم بعد الشقة وصعوبة التواصل. وكان منتظرًا أن تساهم الثورة الاتصالية والتي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، أو هي نقلت العالم إلى كلّ ركن منه فيلزم كلٌّ مكانه الأصلي من هذه القرية، ولكنّ الذي حدث هو العكس، فقد تفاقمت الهجرات باتجاه مناطق العمل والحقوق والرفاه باتجاه أوروبا بسبب ما عرفته إفريقيا من اضطراب سياسي وحالة تفقير وعجز الدولة وأنظمتها السياسيّة.
وبعد الحرب العالمية الثانية واستتباب الأمر للولايات المتحدة وحليفتها أوروبا، كانت هناك موجاتُ هجرة متتابعة من الشرق الأوسط (الشام: فلسطين، لبنان، سوريّة) باتجاه أمريكا وموجات متتالية باتجاه أوروبا الناهضة من إفريقيا التي شارك أبناؤها في حروب تحرير فرنسا من غرمائها الأوروبيين وفي مقدّمتهم النازيّة.
فهجرة التوانسة والأفارقة، بعد الحرب العالميّة الثانية، كانت ظاهرة ملاحَظة، تطور التعامل معها تدريجيًّا نحو التقنين. وكان ذلك في تناسب مع توسع الثقافة العمالية وثقافة حقوق الإنسان والمساواة في فرنسا وأوروبا، فتطور وضع اليد العاملة الإفريقيّة والعربية وغيرها من حال الساكنة في المحتشدات العمّالية وأحياء الـ(HLM) إلى حالة اجتماعيّة تقترب من منزلة المواطنة. ولكن ما يُطرح اليوم من أزمات في أوروبا وهامشها وإفريقيا جزء منه، فاقم الهجرة باتجاه ضفة المتوسط الشماليّة وجعل الجانب غير النظامي عنصر تهديد أمني وسياسي.
- متغيّرات إقليميّة
تدرك أوروبا، وفي مقدّمتها فرنسا، أنّها تجني ثمار سياساتها الاستعماريّة في إفريقيا. وهي سياسات لم تقم على شراكة وإنّما أقيمت على نهب الثروات بواسطة الشركات الكبرى ودعم أنظمة حكم فاسدة وتابعة لها لا تكترث لحقوق مواطنيها وحريتهم ورفاههم بقدر ما تحرص على الإيفاء بالتزاماتها تجاه المحتل أو ما تركه من قواعد عسكريّة باعتباره مصدر شرعيتها وسبب استمرارها.
تدرك أوروبا، وفي مقدّمتها فرنسا، أنّها تجني ثمار سياساتها الاستعماريّة في إفريقيا، وهي سياسات لم تقم على شراكة وإنّما أقيمت على نهب الثروات بواسطة الشركات الكبرى ودعم أنظمة حكم فاسدة
لم يكن لثورة المجال العربي تأثير إيجابيّ واضح على إفريقيا. فما يعرف ببوابة العرب إلى إفريقيا مثل السودان والقرن الإفريقي كان على هامشها. فالسودان كان حالة غريبة في ثورته المتأخرة. فالقوى الإقليمية الداعمة لـ"الثوار" تقف على أرضيّة الثورة المضادّة في المجال العربي كمصر والإمارات. وأريتريا والصومال صارا جزءًا من الصراع الدائر في اليمن بتعقيداته الإقليمية والدوليّة. وفي ظلّ هذا الوضع الإقليمي الأصم في شمال إفريقيا والمغرب العربي، صارت تونس المعبر الأهم نحو أوروبا. ولذلك يتمّ التركيز عليها من قبل أوروبا واتحادها بقيادة إيطاليا البلد الأقرب إلى تونس والأكثر تضررًا من الهجرة لمواجهة تيّارها المتعاظم. وهناك متغيران مهمان في موضوع الهجرة باتجاه أوروبا:
- صعود اليمين المتطرّف في هولاندا وفرنسا في إيطاليا وقيادته الحكومة في إيطاليا، فرئيسة الحكومة الإيطاليّة جورجيا ميلوني هي زعيمة الحزب الفاشي "إخوة إيطاليا" (Fratelli d‘Italia) وهي تترأس ائتلافًا حكوميًّا من الأحزاب اليمينيّة واليمينيّة المتطرّفة.
- الانقلاب الشعبوي العامي على الديمقراطيّة في تونس في 25 جويلية/ يوليو 2021 وما رافقه من تداعيات. ودخلت البلاد الخارجة من آثار الوباء الثقيلة وانعكاساته على الأزمة الماليّة الاقتصاديّة فيما يشبه النكبة الوطنيّة في الاقتصاد والسياسة ومؤسسات الدولة. وبعد سنتين من الانقلاب على الديمقراطيّة شارفت تونس في أزمتها الماليّة على الإفلاس واقتربت من العجز عن الإيفاء بأقساط الديون في مواعيدها المطلوبة وارتبكت أمام تدهور سمعة البلاد في السوق الماليّة. فالانقلاب مازال يتخبّط في لحظة انقلابه ولم يخرج إلى ما بعده ومع ذلك يكابر في الاعتراف بأنّه سقط عمليًا، إذا كان مقياس التقييم هو ما طرح من عناوين لم يتحقّق الأدنى منها. ولم يبق من معنى سياسي لاستمراره إلا استمراره في مركز القرار لا تسنده إلا أجهزة الدولة الصلبة. فهو في حكم المستطيع بغيره.
يأتي مشروع الاتحاد الأوروبي واستعجال اتجاه داخله بقيادة اليمين الفاشي الصاعد الحسم في موضوع الهجرة غير النظامية ليجعل من تونس حارسًا لحدود إيطاليا، في سياق لحظة العجز والضعف والعزلة التونسية
في سياق لحظة العجز والضعف والعزلة، يأتي مشروع الاتحاد الأوروبي واستعجال اتجاه داخله بقيادة اليمين الفاشي الصاعد الحسم في موضوع الهجرة غير النظاميّة ليجعل من تونس حارسًا لحدود إيطاليا التي امتدّت إلى بلادنا.
- مذكّرة التفاهم
وفي حالة الوهن التي أوصل الانقلاب إليها البلاد، يوقّع قيس سعيّد مع الاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم. وقد قدمت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوّضيّة الأوروبيّة في وفد ضمّ رئيسة الحكومة الإيطاليّة جورجيا ميلوني ورئيس الحكومة الهولنديّة مارك روته. ولئن أشارت المذكّرة في جزئها المنشور إلى طبيعتها الاستراتيجيّة في إشارة إلى ملفّين قديمين تمّ إحياؤهما في التنمية والطاقة المتجدّدة وإلى حزمة مساعدات محدودة لسدّ الرمق والفجوة في الميزانيّة. ومع محدوديتها فإنّها مشروطة بتوصيات صندوق النقد الدولي.
عمدت طريقة عرض مذكرة التفاهم وبروتوكول التوقيع عليها إلى إخفاء هدفها الأساسي وهو مكافحة الهجرة غير النظامية ودور تونس في حراسة الحدود
ولقد عمدت طريقة عرض المذكرة وبروتوكول التوقيع عليها إلى إخفاء هدفها الأساسي وهو مكافحة الهجرة غير النظاميّة ودور تونس في حراسة الحدود. فهي مساعدات ماليّة مشروطة مقابل حراسة الحدود. وهي حقيقة لا يخفيها خطاب السيادة الأجوف المسموح به في مثل هذه المناسبات لمزيد التغطيّة على فداحة ما يحصل.
كان للحركة الديمقراطيّة موقف واضح، وقد كان منها تأكيد على أنّ الهجرة غير النظاميّة لم تبدأ مع الانقلاب مثلها مثل الأزمة الماليّة الاقتصاديّة، ولكنه مثلما حوّل الأزمة الماليّة الاقتصاديّة إلى كارثة وطنيّة تحوّلت فيها تونس إلى بلد يتسوّل قوته اليومي وفّرت كلّ الأسباب التي مكّنت الشريك الأوروبي من إملاء شروطه وذلك باستغلاله ضعف البلاد نتيجة حالة الهدم النسقي التي مارسها الانقلاب واستهداف الحريات والتنكيل بقواها الديمقراطيّة والزجّ بقياداتها في السجون.
خلاصة موقف الحركة الديمقراطيّة بخصوص مذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي هو أنّ هذا الاتفاق لا يُلزم إلا من وقّعه
الاتحاد الأوروبي يعرف أنّه يمضي مذكرة الاتفاق مع نظام سياسي لم يظفر بأكثر من 10% من أصوات الناخبين في كلّ المناسبات التي دعا فيها الناس إلى التصويت لشرعنة الانقلاب على الديمقراطيّة. ويعرف أنّه في منحاه هذا يقطع مع مرجعيّته في الديمقراطيّة وحقوق الإنسان. وهذا في حقيقته امتداد لموقفه من الثورة ومسار بناء الديمقراطيّة. وهو في ذلك لا يختلف مع موقف الولايات المتّحدة الأمريكية إلا في الدرجة.
هو اتفاق لا يُلزم إلا من وقّعه، هذه هي خلاصة موقف الحركة الديمقراطيّة التي تعتبر أنّ عبارة عنها في المذكّرة "الشراكة العملياتيّة المعززّة" تلخّص حقيقتها. وأنّ المشكل ليس مع هويتنا الإفريقيّة ولا مع العابرين نحو أوروبا فنحن عابرون إليها مثلهم وإنّما مع مقاربة الانقلاب الشعبويّة الذي أفقد تونس إجماع قواها ورقابة مؤسساتها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"