مقال رأي
يقال إن التاريخ يعيد نفسه مرتين الأولى في شكل مأساة والثانية في شكل مهزلة. ولم تستطع تونس "الاستثناء" الخروج عن هذه القاعدة. ولئن نجح الرئيس التونسي قيس سعيّد في تحقيق إرادة الشعب في اللا عودة إلى الوراء/عشرية الانتقال الديمقراطي، فإنه قد أعاد تونس إلى ما وراء الوراء بما يقارب القرن ونصف. فوضع الجمهورية التونسية بعد 25 جويلية/يوليو 2021 لا يختلف كثيرًا عن وضع الإيالة الحسينية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
يقال إن التاريخ يعيد نفسه مرتين الأولى في شكل مأساة والثانية في شكل مهزلة. ولم تستطع تونس "الاستثناء" الخروج عن هذه القاعدة
لطالما تفاخر التونسيون بدستور سنة 1861 والذي يُعتبر قفزة تشريعية سبقت فيها تونس جيرانها العرب والأفارقة عبر تجسيد أولى محاولات النظام الحاكم حينها لتأسيس ديمقراطية في كومة من المماليك الديكتاتورية. ولهذا الدستور يعود الفضل في الحد من التغوّل الملكي في مفاصل الحكم وتأسيس سلطات متكاملة.
وتتكرر ذات الصورة في السابع وعشرين من جانفي/يناير 2014 حين توافق التونسيون بكافة أطيافهم على دستور الجمهورية الثانية الذي يعتبر ولا يزال مفخرة لهذا الشعب أمام سائر الشعوب في المنطقة. وكانت الوثيقة الدستورية ورقة رابحة استغلها السياسيون في الحكم في عديد محطات التفاوض مع المانحين الدوليين تحت مسمى دعم الديمقراطية الناشئة. وقد أسس هذا الدستور لنظام جمهوري ديمقراطي كرس الفصل بين السلطات ومنح الشعب حقوقهم الطبيعية وفق المواثيق والمعاهدات الأممية وخلق آليات رقابة تحصن الدولة من التغوّل الفردي.
ويكرر التاريخ نفسه مرة أخرى فدستور 1861 أعطى أحقية الحكم لمحمد الصادق باي الذي شرعه، والباحث في التاريخ يعي الصراعات التي كانت تدور داخل أروقة قصر الباي حينها حول شرعية الأبناء في تولي كرسي العرش. وبفضل ذلك الدستور استطاع الصادق باي أن يؤسس لشرعيته ويتحصل على دعم دولي يؤكد تلك الشرعية.
ولئن تغيرت الحيثيات والتفاصيل فالمؤكد تاريخيًا وسياسيًا أن قيس سعيّد كان من بين المؤسسين لدستور 2014 كونه مختصًا في القانون الدستوري وقع الاستئناس برأيه. وبدستور الثورة أتى قيس سعيّد وجلس على كرسي الرئاسة في قرطاج وفرض شرعيته انطلاقًا من ذات الدستور.
ولا يتوقف التاريخ عن إعادة إنتاج نفسه في تونس، فمع تكرر الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وتفشي الأوبئة في الأوساط الشعبية والفساد في دائرة الحكم في ذلك الزمن، استغل محمد الصادق باي ثورة علي بن غذاهم لإيقاف العمل بالدستور وحل المجلس التشريعي وإعادة السلطات إلى قبضته تحت مسمى حماية الإيالة التونسية. وإن اختلفت الأسباب والمسببات والسياقات التاريخية فقد استغل الرئيس التونسي الحالي قيس سعيّد الأزمة السياسية وتعثر الانتقال الاقتصادي لإيقاف العمل بدستور الثورة وحل المجلس "حماية للدولة من الانفجار والتفجير من الداخل".
وفي الحالتين فشل النظامان في تحقيق الرفاه الذي نشده الشعب فارتفعت الضرائب حتى خنقت الرعية/المواطنين وكسد الاقتصاد حتى ارتفعت معدلات الفقر وتفاقمت الأزمات التي ادعى النظامان قدرتهما على حلها بتجميع السلط.
الأزمة المالية التي عرفتها تونس أواخر القرن 19 وخاصة مع تفاقم عجز الموازنة وتخلد الديون، سهلت الطريق لتقدم الشريك الأوروبي ممثلاً في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا لتنصيب كومسيون مالي أدار الدولة التونسية في احتلال خفي وعجلة التاريخ لا تتوقف عن استنساخ المشهد
ولأن عجلة التاريخ لا تتوقف تواصل استنساخ المشهد. فالأزمة المالية التي عرفتها تونس أواخر القرن التاسع عشر وخاصة مع تفاقم عجز الموازنة المالية وتخلد الديون، سهلت الطريق لتقدم الشريك الأوروبي ممثلاً في ثلاث دول وهي فرنسا وإيطاليا وإنجلترا لتنصيب كومسيون مالي أدار الدولة التونسية في احتلال خفي وسطو على سيادة الإيالة.
وفي ذات الآن، كان محمد الصادق باي يقنع الرعية بأن هذا الثلاثي أتى حماية لمصالح لتونس والحقيقة أن اتفاق محمد الصادق باي مع الكومسيون الاستعماري كان بغاية المحافظة على كرسي العرش وانتهت مهام الكومسيون المالي باجتياح فرنسا لتونس واحتلالها.
وها هو الشريك الأوروبي ممثلًا في إيطاليا وهولندا والمفوضية الأوروبية حاليًا يعود لتونس ليفرض اتفاقية مجهولة البنود تحت عنوان الشراكة الاستراتيجية ما بين تونس والضفة الشمالية للمتوسط. ودون أي ضمانات توقع تونس المعاهدة ويواصل الرئيس تبني خطاب سيادوي أجوف خلاصته أن تونس لن تصبح حارسًا للحدود الأوروبية لكن الواقع نقيض ذلك تمامًا.
الشريك الأوروبي حاليًا ممثلًا في إيطاليا وهولندا والمفوضية الأوروبية يعود لتونس ليفرض اتفاقية مجهولة البنود تحت عنوان الشراكة الاستراتيجية ودون أي ضمانات
خلاصة الأمر أن هذه الإعادة التاريخية التي تأتي في شكل مأساة لتونس وشعبها الذي يرزح تحت أزمة اقتصادية خانقة قد تنذر بتوتر وتتحول إلى مهزلة إن لم يتم التدارك.دون ذلك سيستمر التاريخ في الدوران.. والمرجح أن السيادة التونسية ستبقى كبيت العنكبوت وهنة ما دام التوافق الداخلي مفقودًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"