قد يتبادر إلى الأذهان أن سينما الأفلام الروائية القصيرة هي فعل فنيّ في المتناول، وأنّ ولوج عوالمه أمر سهل وعلى غاية من البساطة والبداهة، وأن بدايات كل سينمائي لا بدّ لها أن تمرّ بالأشرطة القصيرة باعتبارها مجرّد تمرين ضروري يسبق الذهاب للأشرطة الروائية الطويلة والانشغال بها دون العودة للقصير! والحال أنّ هذا التصّور مجانب للحقيقة ومجانب للقيم الإبداعية والثقافية الأصيلة في فنون السينما.
سينما الأشرطة السينمائية القصيرة في تونس هي الأغزر إنتاجًا بمعدل 6 أفلام سنويًا وذلك حسب مؤشرات وزارة الشؤون الثقافية التونسية، لكنها بعد الثورة عرفت نقلة نوعية مستفيدة من انفتاح الفضاء العام ومساحات الحرية الواسعة
إن سينما الأفلام القصيرة أرض وعرة، ودروبها شائكة، يلزمها الكثير من المكابدة ووفرة من الخيال حتى تعطي ثمراتها، تمامًا كما في السرد القصصي. فالقصة القصيرة لا تكون كذلك إلا بالتكثيف والإيجاز والإيماء والشعرية القصوى مع توخي البساطة وتجنب التعقيد والتركيز على عنصر المفاجأة وهو العنصر الأبرز في القصة.
وبالعودة إلى السينما التونسية ومسارها التاريخي، نجد أن البدايات في النصف الأول من القرن العشرين كانت مع الأشرطة القصيرة وخاصة إنتاجات "ألبير سمامة شكلي" (فيلما زهرة 1922 وعين الغزال 1924) لتتالى الرحلة مع الفيلم القصير مع مخرجين تونسيين كبار، على غرار حمودة بن حليمة وعبد اللطيف بن عمار والصادق بن عائشة وأحمد الخشين وفريد بوغدير والنوري بوزيد والناصر خمير ومحمد دمّق ورضا الباهي وغيرهم..
سينما الأشرطة السينمائية القصيرة في تونس هي الأغزر إنتاجًا بمعدل 6 أفلام سنويًا وذلك حسب مؤشرات وزارة الشؤون الثقافية التونسية، لكنها بعد الثورة عرفت نقلة نوعية مستفيدة من انفتاح الفضاء العام ومساحات الحرية الواسعة التي بات يضمنها الدستور والقانون وإمكانات الدعم العديدة التي تبدو في الآفاق. وظهرت موجات جديدة يقودها شباب سينمائي متّقد وشغوف، له نظرة متجددة لقضايا المجتمع وله زوايا أخرى غير معهودة ينظر منها لبلده ولمشاغله هو داخل بلده. ولنا أن نذكر هنا كوثر بن هنية ومحمد بوحجر وطارق الصردي وآمال القلاتي وعبد الحميد بوشناق وخديجة المكشر وسيف الماجري وغيرهم..
ويعتبر المخرج السينمائي التونسي "سليم بالهيبة" واحدًا ممّن قذفت بهم تلك الموجة الجديدة على مرسى الأفلام القصيرة، فبعد دراسته للسينما وقيامه بعدة تدريبات بتونس وخارجها، قام بإخراج فيلمه القصير الأول وعنوانه "في بلاد العم سالم" والذي توّج في الدورة 32 لأيام قرطاج السينمائية لسنة 2021 بالتانيت البرنزي ضمن المسابقة الرسمية للفيلم الروائي القصير.
"في بلاد العم سالم"، شريط مدته 14 دقيقة، ممّا يوحي بأننا إزاء كبسولة سينمائية تحترم ميثاق الأشرطة السينمائية القصيرة وهي الإيجاز. سليم بالهيبة أحكم سيناريو شريطه بدقة المتمرّس، فكان التمشّي الدرامي رياضيًا وعلميًا وذلك من المشهد الأول إلى المشهد الأخير.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "ريش" يحصد أهم الجوائز.. تعرّف على تتويجات أيام قرطاج السينمائية 2021
قصة الشريط تضعنا في أقاصي الريف البعيد حيث توجد مدرسة ابتدائية على التخوم يشرع حارسها "العم سالم" في دهن جدرانها وسبوراتها وطاولاتها، وتشذيب أشجار حديقتها، وسقي أزهارها المنسية، وفي لحظة ما، يقف "العم سالم" أمام سارية العلم وينظر إلى أعلى فيبدو العلم خرقة باهتة مرفرفة وممزقة.. فيقرّر الذهاب إلى العاصمة من أجل اقتناء علم جديد.
يشرق وجه العم سالم وهو في دكّان بائع الأعلام، يقتني علم الوطن ويخرج فرحًا، لكنه ما إن غادر حتى وجد نفسه منحشرًا بإحدى المظاهرات خلال السنوات الأولى للثورة وتحديدًا سنة 2013، وهي سنوات الغموض السياسي بتونس. يضطر العم سالم إلى الجري والهروب مع الهاربين، لكن يُلقى القبض عليه من قبل الشرطة ويقدّم إلى العدالة ويسجن لمدة 15 يومًا بتهمة التشويش والإخلال بالنظام العام. يقضي المدة ويخرج يوم العودة المدرسة فيتوجّه مباشرة إلى المدرسة فيفتح أبوابها لتستقبل تلامذتها ومعلميها الذين أتوا من كل فج عميق. يتحلّق التلاميذ في ساحة العلم، تصدح الحناجر بالنشيد الوطني، لكن السارية كانت تحافظ على العلم القديم المهترئ والممزّق.
قصة الفيلم بدت كقصيدة هايكو يابانية، توخى فيها المخرج سليم بالهيبة الإيجاز والتكثيف والتحكيك الشعري، فيتحول بذلك المخرج السينمائي إلى شاعر، وتتحول كاميراه إلى قلم يبذل الكلمات ويصنع المعاني فتأتي مترابطة كعقد.
سليم بالهيبة في شريطه "في بلاد العم سالم" كان رمزيًا وغمّازًا وملمّحًا إلى أبعد الحدود، فالمدرسة كمؤسسة من مؤسسات المجتمع التي تنهض بالتربية على القيم الإنسانية العليا، تبدو مهملة ومتروكة وتنقصها الصيانة، وهي إشارة حقيقية التقطتها عين المخرج لما هو حاصل للمدارس التونسية من انكسارات.. وقد قدمها بطريقة إيمائية فيما الكثير من الإيحاء المراد منه أن المجتمع الذي يهمل مدرسته يكون قد اختار طريقًا ظلامها حالك.
العلم أو الراية الوطنية الذي بقي ممزقًا وبألوان باهتة إلى حدود المشهد الأخير من الشريط، هو فعلًا كذلك فوق العديد من المدارس وحتى مؤسسات وطنية أخرى، وفي ذلك إشارة إلى ضياع الحس الوطني وفتور الإحساس بالانتماء إلى هذا الوطن. فكيف تحترم الأجيال الجديدة وطنها وعلمها مهمل في ساحات المدارس والمعاهد؟
تبدو "بلاد العم سالم" منهكة كقارب على شاطىء، غير مستقرة اجتماعيًا وسياسيًا وغير متوافقة وغير منسجمة ومؤسساتها تعيش عطالتها القصوى، مما ينبئ بالأخطار.
توخى المخرج سليم بالهيبة بلاغة الصورة أمام بلاغة الكلام وفي ذلك وفاء لمواثيق السينما، فالبطل الوحيد (حارس المدرسة) لم ينطق ببنت شفة طيلة الشريط، لقد كانت حركاته ونظراته وملامحه ومشاعره التي تفيض من الشاشة هي التي تقول كل شيء، وكأن المتلقي يفهم كل شيء.
حركة الكاميرا ذهبت إلى كل الكادرات التي يجب أن تذهب إليها بدقة وحرفية، فقدمت مشاهد بانورامية جذابة، وعطفت على وجه العم سالم وهو ينظر إلى العلم الوطني وأيضًا وهو يخطو نحو المدرسة بعد خروجه من السجن، فقدمت كل الأحاسيس وكل الرسائل التي يجب أن تقدم.
شريط "في بلاد العم سالم" هو وجهة نظر سياسية واجتماعية وحضارية صيغت سينمائيًا بحبكة العارف لفنون الأفلام القصيرة ووفق مقاصد مدروسة، أراد سليم بالهيبة أن يسجلها كمبدع أمام التاريخ، وهو -لعمري- قد وفّق في ذلك.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "فرططو الذهب" لعبد الحميد بوشناق: هشاشة الإنسان بواقعية سحرية سينمائية
حوار|أكرم العدواني: السينما الوثائقية ليست تأريخًا وإنما هي كشف جزء من الحقيقة