كم يبدو الإنسان يتيمًا وأعزلاً أمام خيباته وأمام ندوب الأيام على أديم الروح رغم ما يبديه من تماسك وهو يكابد الحياة من أجل الوصول إلى بهرة الضوء البعيدة.. هذه المقولة التي اشتغلت عليها الآداب والفنون على مرّ تاريخ الإنسانية من أجل إنقاذ الإنسان من براثن الأسئلة الوجودية الحارقة حول هشاشة الحياة وما بعد الحياة، لكنها لم تفلح إلا نادرًا وخاصة مع جنوحها إلى الخيال والعالم السحري وجعلتهما أفقًا، فالإنسان لا يشفى من أحزانه إلا بالخيال والذهاب إلى ما فوق الواقع، إنه الدرب الوحيد الذي يحمله إلى بهرة الضوء ومنها إلى عوالم الاحتراق والسفر إلى الأكوان البعيدة.
الإنسان في هذه الحالة قد يتحول إلى "فرططو" لا يكف عن التحليق في اتجاه سطوع الضوء أو رقصات اللهيب ليلاً وهي رحلة طوعية لنحت المصير بحثًا عن الذات
الإنسان في هذه الحالة قد يتحول إلى "فرططو" (كلمة بربرية لتمييز نوع من الفراشات التي تحلق حول الضوء إلى حد الاحتراق والتلاشي) الذي لا يكف عن التحليق في اتجاه سطوع الضوء أو رقصات اللهيب ليلاً وهي رحلة طوعية لنحت المصير بحثًا عن الذات.
اقرأ/ي أيضًا: تونس ترشح "فرططو الذهب" للمنافسة على جائزة الأوسكار
من هذه المنطلقات الفلسفية نبتت الأفكار في ذهن المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق وهو يقرر سكب حبر كاميراه على أديم شريطه الجديد "فرططو الذهب".
لم يكن بوشناق، في هذا الشريط، سارد صور بشكل نمطي، يقدم قصته ضمن انسيابية درامية أليفة تجعل المتلقي "يعود فرحًا مسرورًا"، بل اتخذ له مسلكًا غير معهود في السينما التونسية وهو الواقعية السحرية التي راجت في أوروبا أواسط القرن العشرين مع بعض الكتاب والرسامين، لكنها خرجت بشكل لافت من أمريكا اللاتينية وغزت السرد الأدبي بقوة في ثمانينيات القرن العشرين وقدمت كتّابًا عالميين على غرار "غابريال غارسيا ماركيز" و"أرنستو ساباتو" "وإيزابيل الليندي" وميغيل استورياس.
وهذه الواقعية السحرية السابحة في أقاصي الخيال البشري تسربت إلى كل الفنون بما في ذلك فن السينما واشتغلت السينما الأمريكية على الواقعية السحرية فـ"دوّخت" العالم بأفلام ستيفن سبيلبارغ ودجيمس كامرون وبيتر جاكسون وغيرهم، التي كانت تجذب كل الأعمار على اعتبار أن الإنسان محتاج إلى تلك الجرعة المكثفة من الخيال والسحرية الخلاقة.
شريط "فرططو الذهب" لعبد الحميد بوشناق التقط من الواقع حكاية قد تبدو بسيطة للغاية لكنه لم يكتف بتلك النمطية والتقط الحالة النفسية للبطل وقام بعمليات حفر أركيولوجي ودخل الغرف المظلمة للشخصيات
شريط "فرططو الذهب" لعبد الحميد بوشناق التقط من الواقع حكاية قد تبدو بسيطة للغاية وأحداثها وشخوصها تميل إلى النمطي ويمكن أن توجد في أي مدينة وأي حيّ: رجل أمن يعيش حالة من التشضّي والوحدة جعلت منه شخصًا عنيفًا في محيطه المهني والعائلي، لكن المخرج لم يكتف بتلك النمطية في الحكاية بل التقط الحالة النفسية للبطل "معز" (محمد السويسي) وقام بعمليات حفر أركيولوجي ودخل الغرف المظلمة للشخصيات وبدأ في نسج القصة على نحو مغاير.
اقرأ/ي أيضًا: تعرّف على تفاصيل أيام قرطاج السينمائية 2021 في دورتها 32
وعلى الطريقة الفرويدية، يعود شريط "فرططو الذهب" إلى الطفولة وهي المرحة التي تتشكل فيها الشخصية ويتحدد المصير وبأسلوب الواقعية السحرية يتخارج طفل (ريان الداودي) من شخصية معز ويترافقا في رحلة عجائبية آسرة تشبه رحلة "أليس في بلاد العجائب" أو قصص ألف ليلة وليلة، حيث لا فرق بين الواقع وما فوق الواقع في تداخل قد يخاتل العين ويربكها..
وتأتي رحلة معز مع الطفل الذي يسكنه وخرج منه ليحدثه تحت عنوان "نوريك إلي عمرك ما ريتو".. هنا تسرح عين المتلقي ويمرح الطفل داخله ونعود جميعنا إلى طفولتنا وقصصنا البعيدة التي أغلقنا عليها الصناديق والغرف القصية ونعود إلى النشأة الأولى.
وفي قراءة نفسية لفرططو الذهب، نكتشف من خلال رحلة معز مع طفله أو مع أناه أن علاقته بوالده هي مرتكز الشريط ونقطته المفصلية القوية التي تحرك كل الأحداث في الواقع وما فوق الواقع في تداخل عجيب، فردود فعل معز وغرابة سلوكه متأتية أساساً من تلك النقطة المحورية فهو ينتصر لوالده عبد الوهاب (فتحي الهداوي) الفنان المسرحي الذي خذله الواقع الثقافي ليحوله إلى رجل سكير وعنيف وفاشل اجتماعيًا.
شريط "فرططو الذهب" هو هشاشة التكوين وهشاشة المصير بل هو هشاشة الهشاشة وانحناءة الزهر أمام عاتيات الريح
الرحلة العجيبة التي قام بها معز في طفولته الأولى هي نوع من العودة الطوعية إلى الطفولة والبراءة والأقباس المضيئة في تلك المرحلة الأساسية من العمر والاحتماء بالأب الفنان الذي كان يقدم لوحات مسرحية بتفان عجيب في المنزل أمام ابنه الذي كان جمهوره الوحيد وأيضًا هي نوع من الانتصار والاعتراف للأب المنكسر والمهزوم جسدياً ووجدانيًا.
شريط "فرططو الذهب" هو هشاشة التكوين وهشاشة المصير بل هو هشاشة الهشاشة وانحناءة الزهر أمام عاتيات الريح. و"الفرططو" في عتمة الأنتروبولوجيا التونسية وفي المخيلة الشعبية هو الباحث بحبّ وإصرار عن بهرة الضوء حدّ الاحتراق والتلاشي.
أداء الممثلين في شريط فرططو الذهب لعبد الحميد بوشناق فكان على غاية من الدقة والحرفية وخصوصًا الفنان فتحي الهداوي الذي وفق في تقمص شخصية الأب عبد الوهاب وهي شخصية مركبة ومتداخلة الأحاسيس والعواطف وتتطلب جهدًا خاصًا.. أما حركة الكاميرا والمشاهد المبذولة أمام عين المتلقي فكانت تراوح بين الواقعي والعجائبي بسلاسة لم تعهدها السينما التونسية من قبل.
اقرأ/ي أيضًا: