أربعة فرسان يمتطون جياد الأدب، ليسدوا ثغرة في عالم الرواية التونسية، نحو مأسسة جيل جديد من الكتاب والقراء على حد سواء، يؤمنون بأنّ مرحلة من حياتنا يعمها الفراغ، والطبيعة تأبى ذلك.
جيل يقدم لنا تصورًا جديدًا للكتابة، بسيطة في عرضها عميقة في معانيها، تجمع بين الخيال والحقيقة وتعكس الفنتازيا التاريخية واستشراف المستقبل، المستقبل الذي نريد أن نكونه وليس الذي نساق إليه قسرًا.
إما الآن أو أبدًا..
روايات الجيب التونسية الرباعية، محاولة شبابية لدخول غمار أدب الشباب والفنتازيا على خطى "رجلي المستحيل" الذين قُدم لهما الإهداء في بداية السلسلة باعتبارهما "عرابَيْ" الفكرة وصاحبيْ أول مشروع عربي يُعنى بهذا التوجه، الذي انطلق في منتصف الثمانينات، وأحال القارئ على واقع فكري وأدبي ساحر، لا يخلو من الفائدة رغم إمعانه في الخيال ولا من المتعة حين يلمس الواقع.
اقرأ/ي أيضًا: "الكوميكس" أو "لغة الفقاعات".. إبداع يقتات من الهامش الثقافي
مشروع يرى البعض أنه جاء متأخرًا في تونس، رغم أنّ هناك أرضية ممهدة وأقلامًا شابة قادرة على الإبداع في هذا المجال. وفي هذا السياق يقول جاسر عيد، أحد كتاب الروايات وصاحب "المتسلل" لـ"الترا تونس": "الفكرة كانت حاضرة بقوّة ومطروحة في الوعي الجمعي لهذا الفريق منذ مدّة كبيرة، لكنّ الخوف من ألاّ تلاقي رواجًا واستحسانًا أخرّ ذلك. وربما وفاة المبدعين نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق حسمت تردّدنا... إمّا الآن أو أبدًا".
روايات الجيب التونسية الرباعية، محاولة شبابية لدخول غمار أدب الشباب والفنتازيا تحيل القارئ على واقع فكري وأدبي ساحر، لا يخلو من الفائدة رغم إمعانه في الخيال ولا من المتعة حين يلمس الواقع
وأضاف "لا يمكن القول إنّ التأخّر سببه أزمة كتّاب أو تخوّف الناشرين، بل هو خليط من هذا وذاك، يضاف إليهما وعينا بأننا سنخوض حربًا بمفردنا في غياب دعم سلط الإشراف، إذ من المفروض أن يكون هذا مشروع دولة قبل أن يكون مشروع دار نشر صغرى".
من جانبه، قال طارق اللموشي، صاحب "مدينة الأسوار الثلاثة": "لا يمكنني الجزم بأن المشروع جاء متأخرًا بل أظن أنه انتظر الوقت المناسب للظهور. الوقت المناسب من حيث وجود كتاب مستعدين لخوض المغامرة ودار نشر مجازفة يسيرها أشخاص عاشقون لكتب الجيب المصرية".
وتابع "ربما كان الأمر يراود العديد من الكتاب كما كان يراودنا نحن، ولكن أحدًا لم يجرؤ على المضي قدمًا و تقديم المشروع لأي دار نشر، لو لم تقم "بوب ليبريس" بالخطوة الأولى وتتوجه هي نحو مجموعة من الكتاب لتلاقي منهم تجاوبًا. الأمر انتظر الوقت المناسب والظروف المناسبة ليحصل. وربما لو حصل في وقت سابق دون أن تتوفر له شروط النجاح لما رأى النور أساسًا".
"المتسلّل"
"نانا سان إيتشي بوتاي.. كله بدأ من نانا سان إيتشي بوتاي"
بهذه العبارات يستعرض جاسر عيد روايته "المتسلل"، أول أعماله، التي يقدمها ضمن سلسلة "ستيغما" وتعني "الوصم".
رواية مشوقة استندت في بنائها على السياق التونسي، من خلال الدور الذي يلعبه بطل القصة شاهين، طالب تونسي يواجه حقيقة أنه اختير ليغير مجرى حياة البشر، لكنه ليس أي فرد هو الرقم 654 من مجموع 666 شخصًا. ولهذا الرقم رمزية في القصة وهو مفتاح عودة الكائنات التي سبقت البشر على الأرض وهو جزء من حبكة التسلّل، عن طريق الوشم.
حرص عيد على أن يكون السياق تونسيًّا بامتياز، وفق قوله، لأنه ترّبى على روايات مصرية للجيب، وكان شعورًا ممتعًا أن يتعرّف إلى الثقافة المصرية بأسماء شوارعها وعادات شعبها المبثوثة في كل ثنايا الحكاية.
استرجعت الرواية سياقات تاريخية مهمة ربط الكاتب بينها بشكل محكم، فانتقل من إحدى أبشع وحدات أبحاث وتطوير الأسلحة البيولوجية والكيميائية في العالم، التي كان الإنسان ضحيتها، وهي الوحدة 731 أو "نانا سان إيتشي بوتاي"، الكابوس الأسود للحرب العالمية الثانية، الذي وثق جرائم اليابان في حق الصينيين، وأعاد في الآن ذاته إلى الأذهان قصص السحر الأسود وكتبه والأساطير التي ارتبطت به.
ثم يحملك إلى جولة لتخفيف التوتر، تجد نفسك في عالم الكابتن ماجد وملعب سلام دانك، فأسطورة سيزيف.
جاسر عيد (صاحب رواية المتسلّل) لـ"الترا تونس": السياق التونسي كان قاطرة بقيّة العربات التي حاولت أن أجعلها تسير على سكّة أحداث حقيقية مطعّمة بجرعات من الخيال
وحول تطويعه لهذه السياقات، يقول عيد في حواره مع "الترا تونس" إن "السياق التونسي كان قاطرة بقيّة العربات التي حاولت أن أجعلها تسير على سكّة أحداث تاريخية حقيقية مطعّمة بجرعات من الخيال. ولأنّ أيّ بلد في هذا العالم ليس بمعزل عن بقيّة البلدان الأخرى، فهو يؤثر ويتأثر، وكان من السهل أن ألتقط هذا المشترك وأبني عليه (ولا شكّ أنّ الثقافة اليابانية مثلًا التي نشأنا عليها قد وحّدت العالم بطريقة أو بأخرى عبر "إنميات" مثل الكابتن ماجد والمحقق كونان)".
اقرأ/ي أيضًا: "نازلة دار الأكابر".. الطاهر الحداد مرآة لتراجيديا الحب والنضال في تونس
دون أن ينسى جاسر السياق الأول، فيعود إلى بداية القصة، موضحًا أن "البطل هو طالب تونسي يحاول إجراء عمل استقصائي لكشف فساد أحد رجال الأعمال، الذي يحمل بدوره وصمًا برقم آخر يسبقه".
سادة العالم
تدور أحداث الرواية في العام 1250 ميلادي، تتقاطع فيه الأحداث التاريخية وتشتد الصراعات من الشرق الأقصى إلى حدود غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
وتستحضر الخطوط العريضة لبداية السيطرة الصليبية على الشرق بعد 50 عامًا من الانتصار العظيم لصلاح الدين الأيوبي، وصراع المماليك والدولة الأيوبية أمام محاولات الملك لويس التاسع السيطرة على مصر، أصل الخلافات وبروز الطائفية بين المسلمين ممهدة لسقوطهم المدوي.
وتصور بداية تشكل المحاور في العالم القديم، أمام اكتساح المغول للشرق بقيادة هولاكو حفيد الإمبراطور جنكيز خان، وبداية تحركهم نحو عاصمة الدولة العباسية، بغداد، في انتظار اللحظة الصفر.
لكن مهلًا، يوجد سر كبير في قلعة آلموت الحصينة، معقل الحشاشين؛ نسخة وحيدة من كتاب من يحصل عليه سيكون سيد العالم.
داخل الصراعات التي تسعى فيها القوى للسيطرة على العالم، يبدع كاتب "سادة العالم" في تصوير قصة حب في قرطبة بدأت من رحم المقاومة، بطلها فارس مغوار يحاول حماية غرناطة من توسع القشتاليين
وداخل الصراعات التي تسعى فيها القوى للسيطرة على العالم، يبدع الكاتب في تصوير قصة حب في قرطبة بدأت من رحم المقاومة، بطلها فارس مغوار يحاول حماية غرناطة من توسع القشتاليين، قبل أن يخسر جزءًا من روحه في المعركة.
سادة العالم، هي الجزء الأول من سلسلة العقد الأسود لصاحبها سامي المقدم، وهو ناشر روايات الجيب.
مدينة الأسوار الثلاثة
على غرار رواية المتسلل، في مدينة الأسوار الثلاثة تبدأ نبوءة بالتحقق بعد عقود من الزمن، ويختار القدر الكاهن "ثار" لهذه المهمة، دون إدراك منه، وجد نفسه أمام حتمية واحدة في لحظة حاسمة إما أن يشق طريقه في خدمة الإله آنون سيد النور والظلام، أو أن يتبع حلمه، وكان له ذلك دون إرادة منه.
اقرأ/ي أيضًا: عادل الحامدي.. كاتب يسمع العالم عبر الكتابة
الرواية عبارة عن رؤية تخييليّة متميزة من كاتبها طارق اللموشي، ضمن سلسته إيماجيثوس، التي يعرفها كفانتازيا ملحمية من عالم آخر.
يقول اللموشي في حديث لـ"الترا تونس"، حول مدينته الساحرة، "إنّ العمل على خلق عالم جديد ليس له علاقة بالواقع هو أمر ممتع و متعب في الوقت نفسه، وهو عملية مستمرة أي أنني لحظة كتابة هذه السطور مازلت لم أكتشف كل شيء فيه والقارئ سيتعرف كل مرة على جزء جديد من ذلك العالم بمدنه و تضاريسه و شخصياته".
طارق اللموشي (صاحب رواية "مدينة الأسوار الثلاثة") لـ"الترا تونس": العمل على خلق عالم جديد ليس له علاقة بالواقع هو أمر ممتع و متعب في الوقت نفسه، ومن مزاياه الحريةُ المطلقة في خلق شخصيات وأحداث وبلدان وتاريخ
وأوضح أنّ "إيماجيثوس كانت في الأصل حكاية مجازية عن رحلة الكاتب عندما يتبع رؤياه ويسافر نحو مدينة الأحلام، وتلك الرؤيا هي بطريقة أو بأخرى نبوءة لما ينتظره ليتحقق في حياته".
تنطلق الرواية من رحلة، قطعت سبلها السماء التي تزينت بغيومها الورديّة وهزيم أمطارها، على تخوم أسوار المدينة يختفي الرجال وتصيح حناجر الأطفال وتولول النساء.
في هذه اللحظة، تلوح نهاية عصر سلطة الآنونيين في مدينة رونار، وتُفتح الأبواب أمام مدينة إيماجيثوس، التي تتربع الملكة صونجا على عرشها، وهي بطلة أحلام "ثار" الذي هرب من مدينته بعد أن لاح له شبح الموت على الأبواب، ولا يعرف أي قدر يواجهه وهو في رحلته الخطيرة نحو المجهول. كهنة الإله يحاولون الحيلولة دون تحقق النبوءة ومواجهة علاماتها الصغيرة، ويبحثون عن "ثار" لمنعها.
تفرد طارق بتصوره لعالم جديد، لم يسبقه أحد لاكتشاف أغواره، ودون أي رابط له بالواقع، فأيهما أبسط التعامل مع الواقع وإضافة المتخيل، أم خلق جديد؟
وفي إجابته، يبين طارق أن "لكل من الأمرين صعوباته ومزاياه، ومن مزايا تخيل عالم جديد الحريةُ المطلقة التي يملكها الكاتب في خلق شخصيات وأحداث وبلدان وتاريخ، بمثابة تمرين رائع للعقل البشري. أما صعوبته فتتمثل في أنه يجب أن يكون هناك منطق وقواعد وأسس لذلك العالم حتى يتم قبوله من قبل القارئ وحتى يكون هناك معنى للأحداث التي تحصل فيه".
المكعب الأزرق
هي رواية لعاطف الحاتمي ضمن سلسلة وكر النسور، تدور أحداثها في تونس المستقبلية، وهي الرواية الأكثر تجذرًا في الواقع التخييلي التونسي، تنطلق منه إليه، تُصور نجاح قراصنة مجهولين في السيطرة على السفينة الفضائية التونسية "أميلكار" والهدف الأساسي هو جهاز تخزين يعرف بالمكعب الأزرق.
اقرأ/ي أيضًا: دكاكين الكتب القديمة في "الدباغين".. أرشيف لحفظ الذاكرة
والمكعب هو وحدة لتخزين المعلومات ومعالجة البيانات قبل تشفيرها، مقاوم للانفجارات حتى النووية منها، حيث تتجسد أركان الخيال العلمي، معارك الفضاء حول سلاح من يملكه يغير وجه العالم.
تستدعيك الأحداث المتداخلة للتمعن في حرب فضائية مشوقة بين فرقة من القوات الخاصة للسفينة في مواجهة القراصنة ومنظمة الزئبق الأسود.
تدور أحداث رواية"المربع الأزرق" في تونس المستقبلية، تُصور نجاح قراصنة مجهولين في السيطرة على السفينة الفضائية التونسية "أميلكار"
تأخذك الرواية لتستكشف عالمًا مختلفًا متميزًا بشخوصه، وتفاصيل المكان، والتفكر في تونس التي تملك في خيالنا ما لم تملكه في الواقع.
نحو التأسيس..
أربع روايات من أربع سلاسل، لأربعة فرسان يخوضون تجربة جديدة ويقتحمون بوابة لم يتجرأ أحد على طرق بابها في تونس، إلا بطرق محتشمة ودون تأسيس.
روايات فيها استحضار لأفكار ومراجع متشابهة (شمس المعارف، السحر الأسود) وإسقاطات لبعض الثنائيات النور والظلام، الخلق والموت، النبوءة والأقدار (ثار وشاهين)، التي يساق إليها الإنسان دون إرادة، حتى يظن القارئ أن كاتبها واحد مع اختلاف السياقات.
وفي هذا السياق، يقول جاسر عيد "نحن نتحرّك في الدائرة نفسها، ولذلك التقاطعات ستكون كثيرة.. هناك آلاف من أفلام الرعب، التيمات تكاد تكون نفسها، هل يمكن القول إنّ أفلام الرعب تتشابه؟ قطعًا لا، لكن لكلّ كاتب ملعبه الذي لا ينافسه فيه أحد. ربما هذه التقاطعات تفتح الباب لقصة مشتركة تذوب فيها العوالم بين السلاسل الأربعة.. من يدري؟"
التجربة في حد ذاتها مرحلة انتقالية هامة وشجاعة لتحقيق نقلة أدبية في تونس، برؤية شبابية تستجيب لسياقها الاجتماعي والعلمي والتكنولوجي، فلاهي مقيدة بالكلاسيكية ولا هي منفصلة عن سياقها.
وهنا يعتبر اللموشي أنهم بصدد تقديم شيء جديد على الساحة الأدبية في تونس، ربما يكون جسرًا لظهور كنوز من حكايات وقاصين وقاصات ينتظرون أن يزاح عنهم التراب ليحولوا الساحة الأدبية في تونس إلى فنتازيا عملاقة.
روايات الجيب التونسية، تجربة فكرية في عالم متحرك، قد تكون وسيلة لتشجيع فئة شبابية على القراءة، أو غاية في حد ذاتها لتأسيس أدب الفنتازيا، وفي كلتا الحالتين هي تحمل حلمًا غاياته نبيلة في زمن المعارك الزائفة.
اقرأ/ي أيضًا: