مقال رأي
يتابع جزء من التونسيين بكثير من الترقب صعود اليمين القومي المتطرف في أوروبا، في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، وربّما الخشية الكبرى عندهم هو تحقيق مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي، اختراقًا في الانتخابات الفرنسية في الربيع القادم، وتكرار سيناريو صعود ترامب الذي يتبنى سياسة انغلاقية وحمائية معادية للأجانب. المفارقة هو أن جزءًا هامًّا من هؤلاء التونسيين الذين يبكون الشوفينية ونزعات التطرف القومي والعنصرية في الخارج يمارسونها بالقول والفعل في بلدهم.
جزء من التوانسة الذين يبكون الشوفينية والعنصرية في الخارج يمارسونها بالقول والفعل في بلدهم
ملف العنصرية ضد أصحاب البشرة السوداء، سواء كانوا تونسيين أو أجانب، هو ملفّ يستحقّ الوقوف عليه مليًا. لم يعد من المناسب القول بأن الاعتداءات الأخيرة على الطلبة الأفارقة هي من قبيل التصرفات الفردية، بما أنه تعضدها واقعًا ممارسة تتعامل بعنصرية مع الأفريقي صاحب البشرة السوداء. فالكثير من القوميين المتطرفين في أوروبا وأمريكا يتخيلون العربي كرجل في خيمته بالصحراء ومن حوله الجواري، وكذلك الكثير من التونسيين حينما يتعاملون مع أسود البشرة يرونه كراعي مواشٍ بإحدى بوادي مالي أو النيجر، إن لم يكن يتخيلّه كعبد.
في إحدى مناطق الجنوب التونسي، لا تزال توجد حافلة خاصّة بالتونسيين البيض، وأخرى خاصة بالتونسيين أصحاب البشرة السوداء، الذين يُنعتون بألفاظ عنصرية في الموروث الثقافي المتداول شعبيًا منها لفظ "وصيف"، والتي كانت تُطلق على الخادم الغلام قبل المراهقة. هذه الممارسات جعلت المواطنين أصحاب البشرة السوداء ينشطون للدفاع عن حقوقهم ليس فقط تجاه مجتمع يمارس جزء هامّ منه العنصرية، بل كذلك تجاه الدولة. حيث تنشط في تونس جمعية "منامتي" التي قدمت ملفًا للتقصي في كل أشكال العنصرية التي تعرّض إليها أصحاب البشرة السوداء في تونس طيلة العقود الماضية، ومنها عدم بلوغ مناصب عليا في الدولة رغم أن نسبتهم تبلغ 12% من إجمالي السكان وفق أرقام غير رسمية.
كما يكشف تعامل جزء هامّ من التونسيين مع الليبيين عن نزعة شوفينية وطنجية مترفعة على الآخر، فاللّيبي تتُداول بشأنه النكت السّمجة دائمًا. حيث يعاني الليبيون، وهو ما دائمًا ما يكون موضوعًا لاحتجاجهم، من تعامل استعلائي من عديد التونسيين الذي يرون المواطن الليبي غالبًا كرجل ثري، قادم من البادية، شبيه بالقذافي، قليل النباهة. ومثّل، مؤخرًا، قرار تمكين الليبيين من تملك العقارات في تونس دون ضرورة الحصول على رخصة من المحافظ، فرصة للعديد لممارسة العنصرية والاحتقار تجاههم. وهو ما يعاني منه كذلك العديد من العمال أصيلي محافظات الداخل التونسي في المناطق الساحلية التي يعملون فيها.
وفي خصوص ملف التونسيين العائدين من بؤر التوتر، دعا مؤخرًا سياسيون لسحب الجنسية من هؤلاء العائدين وعدم قبول دخولهم للبلاد، وهو ليس فقط يمثل خرقًا للدستور، بل هو يكشف أساسًا عن النزعة الإقصائية تجاه الشخص "المارق" عن نموذج المواطن التونسي المتخيّل، ولحظة "تنكّر" لشخص تونسي بالنهاية لم يكن إرهابه إلا نتاج منظومة سياسية واجتماعية وتربوية، رعتها دولة الاستبداد في تونس التي رعت كذلك هذه الشوفينية كجدار حمائي.
ما الفارق بين الشوفينية التونسية ذات الخطاب الاستعلائي وخطاب القوميين في أوروبا؟
هذه الممارسات، وبتجاوز حفرها في الموروث الثقافي والبيئة المجتمعية في تونس، وجدت حاضنة سياسية مهيئة على الأقل إن لم تكن دافعة لنشأتها. دافع نظام بورقيبة عن القومية التونسية في خضم صراعه مع الأنظمة القومية العربية بعد الاستقلال، وهذه القومية وبحكم الطبيعة استلزمت استدعاء خطابًا استعلائيًا يجعل من التونسي كائنًا مميزًا عن محيطه. نتيجة التحالف بين أهل المخزن في تونس، وتحديدًا بين النخبة السياسية-الاقتصادية للعاصمة والنخبة السياسية-الاقتصادية للساحل، لم تكن الصورة النموذجية لرجل الدولة في تونس إلا لرجل أبيض من عائلة برجوازية من العاصمة أو الساحل. في هذا الجانب، لعل يكون من قبيل الصدفة أن تمثّل "الحقرة"، أحد عناوين الاحتجاج إبان الثورة التونسية، التي انطلقت من مناطق الهامش أي من محافظات الداخل.
بعد الثورة، عرفت تونس أول رئيس جمهورية أسمر البشرة وأصيل الجنوب التونسي، كما عرفت أول رئيس حكومة أصيل الجنوب التونسي وليس من العاصمة أو الساحل. هذا التحوّل توازى وخطاب رثائي من النظام القديم حول ضياع "هيبة الدولة"، التي مثلت الكلمة الأكثر تداولًا على لسان الرئيس الحالي السبسي في حملته الانتخابية. فللدولة أهلها في تونس منذ قرون أي منذ تأسيس الدولة التونسية قبل أكثر من قرنين، وليس فقط منذ الاستقلال قبل يضع عقود، هكذا يقول الشوفينيون التونسيون.
الحديث بأن تونس تتميّز بثلاثة آلاف سنة حضارة، وبأن دورتها الحضارية انطلقت منذ عليسة وتواصلت مع بورقيبة، وبأن "الغزو الإسلامي" لا يمسّ من الخصوصية التونسية "المتميّزة"، إضافة للحديث عن "الإسلام التونسي" في إشارة لتمايزه عن الإسلام "الآخر"، هو ما يتداوله قطاع واسع من الطبقة السياسية والنخبة الثقافية التابعة لها، التي خيّرت في السنوات الأخيرة الاستثمار في هذه "الشوفينية" التي تستثير عديد التونسيين باسم "الوطنية". فماذا يريد الناخب غالبًا إلا خطابًا يعده بعودة "المجد" بغض النظر عن عنوانه إجمالًا؟
ولذلك بالنهاية ما الفارق بين هذه الشوفينية الوطنجية ذات الخطاب التمجيدي والاستعلائي عن خطاب القوميين في أوروبا والولايات المتحدة؟ لماذا نخشى كثيرًا من شوفينتهم ولا ننظر غالبًا إلى شوفينيتنا المقيتة، التي أخذت في الانتشار بشكل مريب؟
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"