31-يوليو-2023
نبيل عمار

وزير خارجية تونس في زيارة لصاحب مخبزة تونسي بسان بطرسبرغ على هامش مشاركته في القمة الروسية الإفريقية

مقال رأي 

 

يمكن اليوم لكلّ ملاحظي الشأن السياسي والحكومي في تونس أن يخرجوا بانطباع موحد: حكومة الرئيس تعيش حالة عطالة شاملة. يمكن النظر في جدول أنشطة وزير الخارجية في قمة سان بطرسبرغ وفيما تنشره الوزارة عن هذه الأنشطة على صفحات التواصل الاجتماعي لندرك أن الرجل ووزارته في حالة فقدان كامل للخيال، فبالرغم من الأهمية المفترضة لهذه القمة، فقد وجد الوزير الوقت لزيارة مخبزة يديرها تونسي في سان بطرسبرغ، وفي مهاتفة مطولة لمالك مخبزة تونسي آخر يقيم في باريس. 

تعيش حكومة الرئيس حالة عطالة شاملة وبالنظر لجدول أنشطة وزير الخارجية في قمة سان بطرسبرغ نرى أنه ووزارته في حالة فقدان كامل للخيال فرغم أهمية هذه القمة يجد الوزير الوقت لزيارة مخبزة يديرها تونسي والاتصال بصاحب مخبزة أخرى

وبالفعل، ففيما عدا إلقاء كلمة باسم تونس في هذه القمة، والتقاط صورة له مع وزير الخارجية الروسي، ولقاء مع رئيس جمهورية تتارستان، لم تكن للوزير أنشطة ولا لقاءات أخرى في هذه القمة. هذا قليل جدًّا بالنسبة للمنتظر من قمة مماثلة تعقد في هذا الوضع الخاص جدًا. وحتى التصريح الروسي باستعداد موسكو لتمويل ست دول فقيرة مجانًا بالحبوب، لم يشمل تونس التي تحتاج هذه الحبوب وتعجز لحد الآن عن تمويل واردات هي في أشد الحاجة إليها بسبب الأزمة التموينية الخطيرة التي تجتازها منذ أشهر. 

الغريب أنّ وزير الخارجية طلب مساعدة رئيس تتارستان للحصول على هذه الحبوب، ولكن تونس لم تكن في النهاية ضمن قائمة الدول الستّة. 

على مستوى بروتوكولي، فإن مثل هذه القمم تكون تتويجًا لعمل مسبق، بما في ذلك ضبط مواعيد مع وفود معينة للتقدم في إنجاز اتفاقات. يفترض ذلك أن يتم الاستعداد مبكرًا، وأن تشتغل وزارة الخارجية على هذه الملفات حتى تكون اللقاءات قد رتبت، والمواضيع قد درست. لا يبدو أن ذلك ما وقع فعلًا وهو أمر يمكن فهم دواعيه العامة بالنظر إلى وضعية الدبلوماسية التونسية منذ عامين على الأقل. 

منذ عامين لم تحدث حركة تسمية للسفراء ما جعل حوالي 30 سفارة تونسية بلا سفراء بما في ذلك في عواصم تربطها بتونس علاقات استراتيجية 

منذ عامين لم تحدث حركة تسمية للسفراء، ما جعل حوالي ثلاثين سفارة تونسية بلا سفراء، بما في ذلك في عواصم تربطها بتونس علاقات استراتيجية. يتكدس السفراء العائدون اليوم في الوزارة، وتضطرب المصالح الإدارية للوزارة بفعل عدم تنفيذ حركة التسميات الدورية التي يتداول من خلالها الدبلوماسيون على السفارات والإدارات داخل الوزارة. لا يجد معظم السفراء العائدين من مهامهم بالخارج مكاتب، ولا تسميات في الخطط الوظيفية، ما يجعل معظمهم يلازم بيته، أو يشتغل، عند الحاجة، عن بعد. لم يحدث ذلك سابقًا أبدًا في وزارة الخارجية. 

يطرح هذا الوضع مشكلًا آخر، فإصدار التسميات في منتصف الصائفة هو تقليد مدروس، حيث يسمح للسفراء الجدد بترسيم أبنائهم بالمدارس التي تغلق آجال الترسيم مبكرًا، وهذا يعني ببساطة أنّ تسمية تصدر في آخر الصائفة أو بداية الخريف يكون من نتائجها أن ينتقل السفير للعاصمة التي عيّن فيها من دون عائلته، وهو ما يؤدي إلى أن يعيش وضعية من عدم الاستقرار تكون نتائجها في الأغلب سلبية على أدائه الدبلوماسي. 

 

 

لنذكر مشكلًا آخر: إن عملية التداول بين السفراء تسمح للمعينين منهم بالعواصم الأجنبية بتحسين مداخيلهم، وهذا أمر أساسي بالنسبة لموظفين التزموا بسداد قروض لدى البنوك، حيث لا تمكنهم أجورهم عندما يكونون بالوزارة من مواجهة تلك الالتزامات. هذا وضع خانق لمن يفترض أن يشتغلوا بتركيز كامل على مهامهم الخطيرة، في هذا السياق الخطير.

بغضّ النظر عمّا إذا كان قيس سعيّد سيغير الحكومة أم لا، فإن مجرد تواتر التسريبات بأنّ الرئيس في مرحلة تقييم أداء الوزراء استعدادًا لهذا التحوير يرسخ حالة الارتباك والضبابية الحالية ويجعل الوزراء في حالة انكفاء وفقدان للمبادرة

وبالفعل، فإن الدبلوماسيين الذين يديرون مصالح الوزارة وإداراتها لا يجدون سفراء في مواقعهم بالعواصم الأجنبية لتنسيق المواعيد والاتصالات، ما يجعلهم في الغالب يعولون على ملحقين دبلوماسيين في أولى درجات السلم الوظيفي وبخبرة محدودة. 

تقليديًا، فإن وزارات الخارجية الأجنبية تتعامل بجدية أقل مع السفارات المعتمدة لديها عندما لا يكون فيها سفراء، فتتعطل المواعيد ولا تجد الاتفاقات طريقها سريعًا للتنفيذ. 

الأمر لا يتعلق بالضرورة بالوزير إذًا، بل بالفريق الذي يفترض أن يكون موجودًا إلى جانبه، ما يجعل عمله تتويجًا لأداء فريق متكامل وذي خبرة. هذا ما يجعل الوزير في حالة شبه عطالة اليوم ومنخرطًا في نوع من الحملة التواصلية للإقناع بأنه يعمل وأنه عند حسن ظن الرئيس به. 

يمكن فهم جزء من هذا الحماس الخاوي من أي مضمون بتردد اسم الوزير منذ أسابيع ضمن المرشحين لرئاسة الحكومة إذا ما أقر الرئيس قيس سعيّد تحويرًا ما. هذا في الحقيقة موضوع آخر  يضاف لتفسير حالة العطالة الوزارية اليوم في تونس، وهي نتيجة مباشرة لحالة الضبابية الشاملة التي ترسخها التسريبات حول تغيير الحكومة. 

إن السياق الذي تجد فيه الدبلوماسية التونسية نفسها بعد الانتهاكات المسجلة من السلطات التونسية ضد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء يجعلها اليوم في عزلة كاملة عن سياقها الإفريقي ودولةً تقترب من أن تصبح منبوذة إفريقيًا 

وبغضّ النظر عمّا إذا كان قيس سعيّد سيغير الحكومة أم لا، فإن مجرد تواتر التسريبات وإشارة بعض التصريحات الرسمية إلى أنّ الرئيس في مرحلة تقييم أداء الوزراء استعدادًا لهذا التحوير، يرسخ حالة الارتباك والضبابية الحالية، ويجعل الوزراء في حالة انكفاء وفقدان للمبادرة. يتم التعويض عن العمل إذًا بادعاء العمل، ونحصل بطريقة منتظرة على وزير خارجية يقضي جزءًا من وقته الهام في قمة هامة، في مهاتفة وزيارة أصحاب المخابز، وهي أشياء كان يمكن للسفراء أن يقوموا بها نيابة عنه، عندما يكون هناك سفراء.

ولكن ربما كانت للوزير أعذاره في عدم حصول لقاءات مع رؤساء وفود إفريقية، وهي الأغلبية المشاركة في القمة الروسية الإفريقية في سان بطرسبورغ. إن السياق الذي تجد فيه الدبلوماسية التونسية نفسها بعد الانتهاكات المسجلة من السلطات التونسية ضد المهاجرين غير النظاميين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، يجعلها اليوم في عزلة كاملة عن سياقها الإفريقي، ودولة تقترب من أن تصبح منبوذة إفريقيًا. 

وبالتالي، ليس من شأن ذلك أن يسهل أداء وزير الخارجية الذي كان لمدة أشهر مكلفًا بتسويق السياسة الرسمية التونسية تجاه قضية المهاجرين، والتغطية على الانتهاكات التي تمت في حقهم، بل وأحيانًا إنكار أن تكون قد وقعت أصلًا. هذا فعلًا وضع صعب.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"