المجتمعات ولكي يطيب عيشها لا بد لها من عقول تبنيها فتهندس لإنتاجها بواسطة منظومات التربية والتعليم المتجددة عبر الزمن والتي تتكفل بوضع الاستراتيجيات والخطط التي تثمر باستمرار عقول متنوعة يحتاجها المجتمع الذي أنتجها وأيضًا قد تستفيد منها البشرية جمعاء.
تونس، منذ استقلالها، راهنت بقوة على بناء العقول واعتبرت رهانها ذاك مدخلاً أساسيًا نحو الرقي والتحضر والتقدم وكان ذلك بإرادة سياسية متينة سمّيت في تلك المرحلة التاريخية "ببناء المادة الشخمة"
ومن العقول التي تتسابق المجتمعات في إنتاجها نجد "العقل الرياضياتي" الذي يعتبر رحيق فكرة إنتاج العقول في حد ذاتها والوصول إليه ليس بالمهمة اليسيرة فهو أمر مكلف ويتطلب رحلة عناء مشوبة بالعمل والجهد والأنات يقطعها المجتمع برمّته من أجل قطف الرحيق. "العقل الرياضياتي" يشبه زهرة الحرية البعيدة التي تحدثت عنها الأساطير القديمة ولا بد من صعود قمّة الجبل من أجل قطفها.
وتونس منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي سنة 1956 راهنت بقوة على بناء العقول واعتبرت رهانها ذاك مدخلاً أساسيًا نحو الرقي والتحضر والتقدم. وكان ذلك بإرادة سياسية متينة سمّيت في تلك المرحلة التاريخية "ببناء المادة الشخمة" وبما أن التعليم هو المفتاح السحري لتلك العملية فإن حوالي 2500 مدرسة ابتدائية تم بناؤها في وقت وجيز بالأرياف والقرى التونسية من الشمال إلى الجنوب وكان الحرص شديدًا على الذهاب من التعليم الديني إلى التعليم النظامي من أجل إنجاح تلك الإرادة.
ومن الرهانات الفرعية داخل الرهان الكبير هو تركيز منظومة تربوية مرنة وذكية تحتوى مجموعة من الشعب العلمية تتوج مسارات التعليم الأساسي والثانوي وتؤدي إلى باكالوريات علمية مثل شعب العلوم التقنية والعلوم التجريبية وعلوم الإعلامية والاقتصاد والتصرف... لكن تبقى "شعبة الرياضيات" هي الأهم وربما المسلك الصعب، وعادة ما تكون ممثلة لنخبة التلاميذ والمنتمون إليها يحوزون أهم الاختصاصات بالجامعة التونسية ويتموقعون بعد ذلك في المجتمع ليشكلون بذلك قاطرات لاختصاصات صعبة في مجالات دقيقة تهم الاقتصاد والتكنولوجيا والصحة والفلاحة والطاقة والأمن والهندسة والاتصال.
إلى زمن قريب كانت "شعبة الرياضيات" مفخرة البكالوريا التونسية ويعدّ المنتمون إليها نخبة المدرسة التونسية لكننا نسجل في السنوات الأخيرة عزوف التلاميذ عن التوجه إلى عالم الرياضيات
إلى زمن قريب كانت "شعبة الرياضيات" مفخرة البكالوريا التونسية ويعدّ المنتمون إليها نخبة المدرسة التونسية ويوصفون بين الناس بأنهم عقول المستقبل وهذا تقريبًا ما يقال لهم أثناء عمليات التوجيه المدرسي والجامعي وهي الآلية المثلى لحمل التلاميذ على التوجه إلى الشعب العلمية وخصوصًا "كوكب الرياضيات"، لكن من الظواهر الغريبة التي يعيشها المجتمع التربوي التونسي في السنوات الأخيرة هي عزوف التلاميذ عن التوجه إلى عالم الرياضيات، إلى حد تعالت معه أصوات تصف الأمر بالخطير والذي يهدد في جوهره العقل الرياضياتي الذي يحتاجه المجتمع في كل وقت وفي كل حين تمامًا كما يحتاج الوقود.
وإذا قمنا بقراءة بسيطة للمعطيات المتعلقة بامتحان البكالوريا لسنة 2022 نجد أن عدد المرسمين في شعبة الرياضيات بين معاهد عمومية وخاصة قد تراجع بشكل ملحوظ من 10550 مرسمًا من مجموع 146158 مترشحًا لبكالوريا سنة 2021 إلى 8785 مرسمًا من جملة 134965 مترشحًا وتبقى شعبة الاقتصاد والتصرف هي المهيمنة من حيث العدد حيث سجلت بكالوريا السنة الماضية 45655 مترشحًا .
كل هذا يجعلنا نطرح سؤالًا واضحًا مفاده: هل ستندثر شعبة الرياضيات من تونس؟ "الترا تونس" بحث في الأسباب وتشوّف الحلول مع المختصين من أساتذة الرياضيات والمتفقدين والفلاسفة فكانت هذه آراؤهم.
أستاذ الرياضيات سفيان بن سعيد لـ"الترا تونس": تعرضت المدرسة التونسية للإهمال في عهد بن علي مثل إرضاء المجتمع بنسبة 25 % الشهيرة وأيضًا الإفراغ التام للبرامج البيداغوجية من محتواها العقلاني
أشار أستاذ الرياضيات بالمعاهد العمومية التونسية سفيان بن سعيد لـ"الترا تونس" مباشرة وبشكل صريح إلى تردي واقع الرياضيات في تونس موضحًا ذلك بمؤشرات المقاييس العالمية ومدى نفاذ طالب الرياضيات التونسي في العالم. وأرجع ذلك لعدة أسباب منها ما هو سياسي وخصوصًا الإهمال الذي تعرضت له المدرسة التونسية في عهد بن علي مثل إرضاء المجتمع بنسبة 25 في المائة الشهيرة وأيضًا الإفراغ التام للبرامج البيداغوجية من محتواها العقلاني، مضيفًا أن الإصلاح التربوي لسنة 2002 يبدو أنه قسم ظهر التربية في تونس وأعادها إلى الوراء... وأن ما نعيشه اليوم من أزمات تربوية هو نتيجة حتمية لسوء الإصلاح ذاك، وفقه.
كما بيّن سفيان بن سعيد لـ"الترا تونس" أن السنوات الأخيرة شهدت المزيد من التدهور لوضع الرياضيات بالمدرسة التونسية وربط ذلك بغياب التفكير الاستراتيجي التربوي الذي يجب أن يشارك فيه المجتمع التربوي التونسي بمختلف حساسياته وأن تكون نتائجه ملزمة، موضحًا أن بناء العقل الرياضياتي يبدو في ظاهره أنه مرتبط بالحساب والقدرة على ملاعبة الأرقام والأعداد لكنه في جوهره مرتبط بالخيال والخيال يبنى ضمن أطر نفسية ومادية خاصة وهذا ما يغيب عن التلميذ التونسي في الآونة الأخيرة.
أستاذ الرياضيات سفيان بن سعيد لـ"الترا تونس": وزراء التربية في حكومات ما بعد الثورة أغرقت مشاريعهم الإصلاحية في بحار المطلبية الفادحة لمختلف نقابات التربية (9 نقابات) كما كبلتهم جائحة كورونا لسنتين متواصلتين وتداعياتها
وأشار أستاذ الرياضيات إلى أن وزراء التربية في حكومات ما بعد الثورة أغرقت مشاريعهم الإصلاحية في بحار المطلبية الفادحة لمختلف نقابات التربية (9 نقابات) كما كبلتهم جائحة كورونا لسنتين متواصلتين وتداعياتها لأشهر طويلة مما أثر على كل المسارات وخصوصًا شعبة الرياضيات التي تبدأ رحلتها الحقيقية من المدرسة الابتدائية وطيلة التكوين الأساسي.
عبد الدائم المحمدي، هو أستاذ رياضيات لعقدين من الزمن بين الإعدادي والثانوي، وحاليًا هو مدير لمعهد ثانوي عمومي بالعاصمة، أكد لـ"الترا تونس" منذ البداية أن هناك بعض المؤسسات التربوية اندثرت منها شعبة الرياضيات تمامًا كما أن بعض الجهات التونسية وخصوصًا الخط الغربي لم تعد توجد بها شبعة رياضيات أصلًا وأن القلّة القليلة التي لا تزال تطلب هذه الشعبة يتم توجيهها إلى ولايات أخرى.
وقد ربط المحمدي ذلك بضمور التفكير الرياضياتي في المجتمع التونسي مقابل اكتساح التفكير الخامل الكسول، موضحًا أن التونسي يعيش الآن لحظة تاريخية غير مستقرة اكتسب منها ما يمكن تسميته بثقافة الجهد الأدنى، مضيفًا أن الثورة الاتصالية أسهمت هي الأخرى في نشر ثقافة الكسل الفكرى.
عبد الدائم المحمدي، أستاذ رياضيات ومدير معهد ثانوي، لـ"الترا تونس": ضمور للتفكير الرياضياتي في تونس مقابل اكتساح التفكير الخامل الكسول.. التونسي يعيش الآن لحظة تاريخية غير مستقرة اكتسب منها ما يمكن تسميته بثقافة الجهد الأدنى
وأكد أستاذ الرياضيات أن "ثورة الرياضيات" التي انتهجتها عدة شعوب مثل كوريا الجنوبية واليابان تعتبر حًلا من الحلول الأكيدة للمجتمع التونسي حتى ينافس بقية المجتمعات على التقدم والتطور، موضحًا أن بناء هذه الثورة يمس كل مفاصل الشؤون التعليمية وخصوصًا التعليم الأساسي.
رضا صراصرة، أستاذ مادة الرياضيات لقرابة الأربعة عقود من الزمن بالمعاهد العمومية والخاصة وعضو لجان تفكير تهم الإصلاح التربوي عمومًا ومادة الرياضيات على وجه الخصوص وهو متقاعد منذ شهر، عبّر لـ"الترا تونس" عن انشغاله بالوضع السيء لمادة الرياضيات وشعبتها الرفيعة المتوجة بأهم باكالوريا في تونس ويمكن أن تطلبها الجامعات التونسية والعالمية على حد السواء.
وحسب تقييمه الشخصي فإن الأمر مرتبط بما يحدث في التعليم الأساسي وحتى التعليم ما قبل المدرسي لأن الشبكات العصبية التي يستخدمها الإنسان في تفكيك الشيفرات الرياضياتية يتم تدريبها بعناية حتى تحافظ على لياقتها وهذا التدريب يخضع لمواصفات علمية وثقافية، مشيرًا إلى أن التعليم الأساسي في تونس مفتوح على الكثير من العبث التربوي وخصوصًا تكوين الفاعلين فيه، موضحًا أن نسبة لا يستهان بها من المدرسين بالتعليم الأساسي في مرحلته الابتدائية لم يتلقوا تكوينًا في علوم التربية بل هم أساتذة طالت بطالتهم فشغلتهم الدولة بالمدارس كحل اجتماعي في حين أن الأمر تشوبه بعض الخطورة لأن مدرس الابتدائي له مواصفات معينة لا نجدها تتوفر الآن بمدارسنا فتكون النتيجة كارثية على مستوى التأهيل وعلى مستوى جودة العقول التي ستنتجها المدرسة التونسية فيما بعد ويتجلى الأمر جلياً في شعبة الرياضيات التي تبدو أنها ستندثر تمامًا من تونس.
رضا صراصرة، أستاذ رياضيات، لـ"الترا تونس": التعليم الأساسي في تونس مفتوح على الكثير من العبث التربوي وخصوصًا تكوين الفاعلين فيه، نسبة لا يستهان بها من المدرسين بالتعليم الأساسي في مرحلته الابتدائية لم يتلقوا تكوينًا في علوم التربية
توفيق الرزقي أستاذ الرياضيات بالمعاهد العمومية التونسية أوعز تراجع شعبة الرياضيات في تونس والعزوف الذي تشهده داخل المعاهد التونسية إلى الأزمة التي يعيشها التوجيه المدرسي والجامعي الذي لا يزال يعمل بأساليب متقادمة، موضحًا أن عدد المستشارين المختصين في التوجيه المدرسي والجامعي قليل جدًا ، فهو لا يتجاوز 400 مستشار أمام آلاف التلاميذ الحالمين... لقد حان الوقت أن يكون لكل معهد مستشاره الخاص الذي يتابع مع التلاميذ اختياراتهم ويرافق توجهاتهم العلمية.
كما تحدث الأستاذ الرزقي عن الحرمان اللاّمرئي الذي تتعرض له بعض الجهات وبعض الضواحي بالعاصمة أو بالمدن الكبرى، مشيرًا إلى أن تلاميذ هذه الجهات لا يحظون بالتمييز الإيجابي سواء في مستوى البنية التحتية التربوية أو الأنشطة الثقافية أو اختيار الفاعلين التربويين من مدرسين وقيمين وعملة... وهذا الأمر له تأثيرات سلبية على مردودية المدرسة بما في ذلك رواق الرياضيات.
توفيق الرزقي أستاذ الرياضيات، لـ"الترا تونس": على وزارة التربية أن تصرح بالمعطيات والمؤشرات الحقيقية بخصوص مادة الرياضيات وأن تنشرها للعموم وأن يطرح الأمر لنقاش علمي وجدي
واقترح أستاذ الرياضيات توفيق الرزقي أن تصرح وزارة التربية بالمعطيات والمؤشرات الحقيقية بخصوص مادة الرياضيات وأن تنشرها للعموم وأن يطرح الأمر لنقاش علمي وجدي والبحث مع المختصين عن حلول عاجلة.
أما الدكتور كريم الطرابلسي، أستاذ الفلسفة والباحث بالجامعة التونسية، فقد أشار منذ البداية إلى أن العلوم الصحيحة بما في ذلك الرياضيات كانت إلى حد قريب ابنة مدللة للفلسفة لأن الرياضيات ليست قمة التجريد كما يعتقد البعض بل هي أجود ما أنتجه العقل الفلسفي فهي قمة الخيال وقمة حلم بالنسبة للإنسان لذلك حررتها الفلسفة وجعلت لها أجنحة تمكنها من الطيران في سماء التفكير الواسعة.
وأوضح أستاذ الفلسفة أن إنتاج العقول الرياضياتية ليس من مهام المدرسة وومنظومة التعلم لوحدها بل إن المهام مشتركة والأدوار متقاطعة ومترابطة بين أهل الرياضة والثقافة والحضارة والتاريخ والقيم والفنون... وهذا ما لا نجد له صدى في مجتمعنا وحتى إن وجد فإن إخلالات ما تحصل في الأثناء.
كريم الطرابلسي، أستاذ الفلسفة والباحث بالجامعة لـ"الترا تونس": إنتاج العقول الرياضياتية ليس من مهام المدرسة وومنظومة التعلم لوحدها بل إن المهام مشتركة والأدوار متقاطعة ومترابطة
كريم الطرابلسي، عند حديثه لـ"الترا تونس"’، عن الحلول أكد أن "التلميذ التونسي في مستوى مؤهلاته الطبيعية لا ينقصه شيء، بقي الأمر متعلقًا بالمكتسبات الأخرى التي يتلقاها في فضاء العائلة والفضاء الثقافي والفضاء المدرسي... وهنا مكمن الداء خاصة عندما يغيب التناغم والتنسيق الجدي بين تلك المؤسسات"، وفقه.
لقد اتضح أن العزوف عن الرياضيات من قبل الشباب التلمذي بتونس وإمكانية زوال شعبتها من المعاهد الثانوية التونسية مرده عدّة عوامل رئيسة منها السياسي ومنها التفكير الاستراتيجي وتأخر الإصلاحات الجوهرية ووضع مدونة قيم وأهداف تكون منطلقًا لكل تدخل داخل المدرسة وغياب تأطير ومرافقة أحلام التلاميذ...
لقد حان الوقت أن تقود وزارة التربية التونسية عملية إصلاح خاصة بكوكب الرياضيات وأن تفرده بإدارة خاصة يسهم فيها الفنانون والفلاسفة ورجال الأعمال والجامعيون والشعراء وذلك إلى جانب أساتذة الرياضيات بالمعاهد الثانوية والجامعة التونسية.