22-يناير-2019

التعليم العمومي يعرف تحديات جدية في تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

لفظ "المدرسة" في العلوم الإنسانية هو كناية قصوى عن مفاهيم وبراديغمات التربية والتعليم. وقد كانت المدرسة في تونس من الرهانات المجتمعية الأكيدة منذ الاستقلال، حيث توخت الدولة الفتيّة آنذاك توجهات نشر التعليم بكثافة من الشمال إلى الجنوب، إيمانًا منها بأن المدرسة هي رمز رقي المجتمع وعنوان تحضره ورأس ماله وثروته الدّائمة وصمّام أمانه أمام تأثيرات الجهل والتّخلّف وتأصيله في بيئته الحضارية، وذلك على غرار المجتمعات الأوروبية المتقدمة.

ذهبت تونس لذلك نحو إلغاء التعليم التقليدي الذي كانت تديره لقرون من الزمن مؤسسة جامع الزيتونة وجعلت دور الجامع الأكبر مقتصرًا على الجانب الديني لا غير. وأنشأت التعليم النظامي العصري وجعلته عموميًا وإجباريًا على جميع أبناء الشعب التونسي، وهو ما أوردته في دستور الجمهورية الأولى.

يبدو أن المشهد التربوي التونسي قد هبت عليه رياح شديدة القسوة حيث أصبحت المدرسة في العراء بلا سند سياسي وعاد من جديد شبح الخوصصة

لكن ما أقدمت عليه دولة الاستقلال من قرارات تتعلق بالتعليم وخاصة حول عموميته ومجانيته، وصفه البعض بالمغامرة السياسية من قبل الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية التونسية و"أب التعليم" كما يلقبه العديد. قرارات لا تزال تبعاتها جليّة إلى اليوم لأن عمومية التعليم تكلّف الدولة تقريبًا ما يفوق 20 في المائة من ميزانيتها السنوية، وهو ما جعل العديد من السياسيين الذين تحملوا حقائب وزارة التربية والتعليم العالي والتكوين المهني يقرون بالعديد من الصعوبات جرّاء العمومية والمجانية بما فيهم وزراء من حكومات ما بعد الثورة.

منذ تولّى زين العابدين بن علي الحكم بعد الانقلاب الطبي على الحبيب بورقيبة وانتهاجه لخيارات تنموية واقتصادية جديدة تقطع مع مفهوم الدولة الراعية وتتلاءم مع ضغوطات الجهات الدولية المانحة، قامت الدولة التونسية منذ بداية التسعينيات وخاصة مع ما عرف بإصلاح محمد الشرفي (وزير التربية والتعليم العالي بين 1989 و1994) بإحداث تعديلات جزئية أحيانًا تكون لا مرئية في قطاع التربية والتعليم.

اقرأ/ي أيضًا: على ضوء أزمة التعليم الثانوي: هل هو موسم الهجرة إلى التعليم الخاص؟

ومن بين التعديلات المُحدثة الذهاب في اتجاه خوصصة العديد من الجوانب في المنظومة التربوية منها ما يتعلق بفسح المجال واسعًا للمستثمرين حتى ينشئوا مدارس ابتدائية خاصة (إلى حدود سنة 1987 بُعثت حوالي 200 مدرسة)، والتخلي تمامًا عن الانتداب المباشر للمدرسين في التعليم الثانوي وظهور مناظرة الكفاءة البيداغوجية المعروفة بـ"الكاباس" في أواسط التسعينيات.

كما بات الانتداب عن طريق التعاقد، وضعفت ميزانية صيانة المؤسسات التربوية مع التخلى عن وجه اجتماعي تضامني هام كانت تنهض به المدرسة التونسية من مأكل وملبس وإيواء، وهي كلها اشارات دالّة تبين قلق الدولة من ثقل مصاريف المدرسة. وقد تصدت لهذه التحويرات وبكل شراسة نقابات التعليم التي كانت تفضح النظام السابق الذي كان دائم الجاهزية والتوثب في اتجاه منح القطاع الخاص المزيد من جغرافية التعليم العمومي.

لكن في ظل المزيد من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع التونسي منذ 2008 إلى اليوم، يبدو أن المشهد التربوي التونسي قد هبت عليه هو الآخر رياح شديدة القسوة حيث أصبحت المدرسة في العراء بلا سند سياسي، وعاد من جديد شبح الخوصصة (125 ألف تلميذ يدرسون بالقطاع الخاص إلى حدود سنة 2014) وذلك رغم تحذيرات أنصار وأبناء المدرسة العمومية من خطورة ما يحدث ومن ضبابية تلوح في أفق قطاع التعليم في تونس.

لاحت في السنوات الأخيرة أخطار محدقة بالتعليم التونسي يمكن تلخيصها في مصطلح "الموازي المدرسي"

فإلى جانب خطر الخوصصة، لاحت في السنوات الأخيرة أخطار أخرى محدقة قد يصعب معاينتها أحيانًا من شدة تكيفنا معها، أخطار يمكن تلخيصها في مصطلح "الموازي المدرسي"، وهو مصطلح يتأتى من ثقافة "الموازي" التي سرت في المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة وتريد أن تتموقع في سلم القيم اليومية وقد مست كل القطاعات وخاصة الاقتصادية منها حينما يأتي الحديث عن "الاقتصاد الموازي" الذي يسيطر على 52 في المائة من النسيج الاقتصادي العام سنة 2018 في مؤشر خطير.

ومن مفاهيم "الموازي" إجمالًا إدارة المسائل وتفاصيل الحياة خارج الشروط القانونية وخارج الالتزام الاخلاقي تجاه الذات والمجتمع.

"الموازي المدرسي" يمسّ كامل أركان المنظومة المدرسية

طال "الموازي المدرسي" بالأساس الأدوات المدرسية كالكتاب المدرسي والكرّاس وأقلام ووسائل تكنولوجية مختلفة، وأيضًا هناك الجوانب البيداغوجية وعلى رأسها مسألة الدّروس وما شابها من تجارة تتمثل في الدروس الموازية التي وصفت بالسرطان الذي استبد بالجسد التربوي.

تعتبر مؤسسة المركز الوطني البيداغوجي المنبعثة سنة 1972 والتابعة لوزارة التربية هي الجهة الوحيدة الموكول لها قانونيًا نشر الكتاب المدرسي ودعم سعره من قبل الدولة وتوفيره بالمكتبات ليكون على ذمة التلميذ، وهي مكلفة أيضًا بنشر الوثائق البيداغوجية التربوية ومراقبة جودة الكراس المدرسي.

اقرأ/ي أيضًا: فوضى وامتحانات غير مراقبة: أيّ مصداقية للتعليم العالي الخاص؟

لكن يبدو أن هذه المؤسسة التي تطبع سنويًا ما يفوق 260 عنوانًا وذلك في أكثر من 13 مليون نسخة، وفق إحصائيات 2018، لم يعد يلبي منتوجها الشغف المدرسي، فنشطت بالتالي تجارة الكتاب الموازي عبر كتب معتمدة بالمدارس الخاصة لم تقرّها البرامج الرسمية بوزارة التربية، وذلك عدا عن انتشار الكتب المساعدة على فهم الدروس.

غزت هذه الكتب الموازية المكتبات ومعارض الكتب بشكل لافت للانتباه، ودفعت إليها العائلة التونسية دفعًا فباتت تقتطع من ميزانيتها من أجل شراء الكتاب الموازي في ظل غياب شبه تام لجهاز التفقد البيداغوجي التابع لوزارة التربية وهو الجهة الوحيدة المخول لها تأشير كل الكتب المدرسية والشبه مدرسية المروجة في تونس. تحول بذلك سماسرة الكتاب المدرسي الموازي إلى جهة متنفذة وقويّة قادرة على ايصال مادتها التجارية الى كل مكان في تونس وبشتى الطرق.

أما الكرّاس المدرسي، فهو الآخر يخضع لرقابة المركز الوطني البيداغوجي ويقوم بدعمه حتى يكون في متناول كل فئات المجتمع، لكن بات هذا الكراس خارج دائرة الرقابة طيلة السنوات الثلاث الأخيرة لتحصل انفلاتات واضحة. ففي مفتتح السنة الدراسية 2018-2019، نشطت حركة الاحتكار فتم إخفاء الكراس المدرسي المدعم وبيع جزء منه في السوق السوداء وعلى الأرصفة وعُوّض بـ"الكراس السوبر" غير المدعم وهو ما خلق بعض الفوضى في السوق وسط تذمّر ملحوظ في أوساط العائلات التونسية. حصل ما حصل أمام أعين الدولة التي باتت عاجزة على حماية ركائز المنظومة التربوية العمومية.

باقي الأدوات المدرسية من أقلام وأدوات زينة ومواد تكنولوجية أصبح أغلبها يأتي مهرّبًا من الصين ودول أخرى في إطار التجارة الموازية التي باتت تنخر الاقتصاد الوطني، وهي تباع علنًا على الأرصفة والأسواق الأسبوعية بكامل البلاد وحتى بالمغازات ومحلات بيع الأدوات المدرسية المرخصة وذلك في ظل غياب تام لأجهزة الرقابة الاقتصادية.

أغلب هذه الأدوات المدرسية مصنوع بطريقة رديئة ومن مواد مسرطنة، ودائما ما تحذر وزارة الصحة العمومية من خطورة هذه الأدوات على صحة مستعمليها لكن يبدو أن لا حياة لمن تنادي، إذ أصبحت هذه الادوات الموازية أمرًا واقعًا إذ يستعملها المدرسون بل تقتنيها أيضًا المؤسسات الرسمية لتزويد الادارات بالمواد المكتبية.

الدروس الموازية.. تجارة تكرس التفرقة في المجتمع

استفحلت الدروس الموازية في جسد المجتمع التعليمي بطريقة سرطانية رغم الأوامر الوزارية المنظمة للمسألة ومنها الأمر 676 لسنة 1988 المؤرخ في 25 مارس 1988 المتعلق بضبط شروط تنظيم الدروس الخصوصية، والأمر عدد 1619 لسنة 2015 المؤرخ في 30 أكتوبر 2015 المتعلق بضبط دروس الدعم والدروس الخصوصية داخل فضاء المؤسسات التربوية.

أصبحت الدروس الموازية تجارة تكرس التفرقة بين طبقات المجتمع وتحدث تفاوتًا بين الفئات والجهات وتضرب مفهومي المجانية والعمومية

إذ لازالت الفوضى هي المسيطرة بدل تطبيق القوانين، وبات من الملاحظ ابتزاز التلاميذ من قبل بعض المدرّسين سواء بالابتدائي أو الثانوي من أجل الدفع بهم في خانة الدرس الموازي. ورغم تحركات الأولياء في اتجاه وزارة التربية وفي اتجاه القضاء أحيانًا، لازالت ظاهرة الدروس الموازية آخذة في الاستفحال.

أصبحت الدروس الموازية، بذلك، تجارة تكرس التفرقة بين طبقات المجتمع وتحدث تفاوتًا بين الفئات والجهات، وتضرب مفهومي المجانية والعمومية الذين انبنت عليهما المدرسة التونسية منذ نشأتها بداية ستينيات القرن العشرين.

حسب تقارير المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك في هذا الشأن، يبلغ معدل مصاريف المجتمع التونسي من أجل الدروس الموازية بجميع أشكالها مليون دينار، أما معدل ما يصرفه التلميذ التونسي على الدرس الموازي فإنه يصل إلى 50 دينارًا في الشهر على الأقل.

تتهدد المدرسة التونسية التي تعلقت بها همة المجتمع التونسي سريان ثقافة الموازي اليوم، كما تهددها أخطار أخرى محدقة تمسّ من سلم المنظومة التربوية، وهو ما يتطلب تحمل المسؤولية من مختلف مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة لإنقاذ أحد الرساميل المعنوية للشعب التونسي.

اقرأ/ي أيضًا: التلقيح الإجباري ضد التهاب الكبد الفيروسي "أ".. تلاميذ تونس ينتظرون!

باحث في علوم التربية: المدرسة التونسية أصبحت سوقًا

حمل "ألترا تونس" هذه الهواجس المتعلقة بـ"الموازي المدرسي" للمختص في علوم التربية والباحث في فلسفة التربية بالمعهد العالي للعلوم الانسانية بتونس عماد العباسي الذي أكد، في بادئ حديثه معنا، أن "خيط أريان المقدس انقطع من باب المدرسة، وهو الخيط الرفيع غير المرئي والذي كان يفصل التلميذ عن الواقع ويحمله على بساط أثيري نحو عالم المدرسة حيث مختبر صناعة الإنسان وأجنحة التزوّد بالمعارف والعلوم والقيم الضرورية للحياة، ويكون الجزاء في النهاية هو ركوب المصعد الاجتماعي لتغيير الحياة الخاصة والعامة بشكل نوعي".

عماد العباسي (باحث في علوم التربية):  صورة التلميذ المثابر والصبور تغيرت وأصبحت بدلها صورة موازية لتلميذ متعصب للجمعيات 

ويشدد الباحث في فلسفة التربية على ما يسميه انهيار الجدران في الواقع وفي المخيّلة حيننا لم تعد المدرسة الفضاء المغري المليء بالوعود والأمل، مضيفًا أن المدرسة عمومًا والمدرسة التونسية خصوصًا أصبحت "سوقًا" على حد عبارة الفيلسوف الفرنسي بيار بورديو فداخلها تعرض الماركات العالمية بجميع أنواعها ومن هذه الشقوق الصغيرة واللامرئية تتسرب ثقافة الموازي، حسب تعبيره.

ويقول إن هذا "الموازي" يتمثل في كتب موازية للمقرر الرسمي، ودروس موازية للساعات الرسمية، وفضاء أنترنت يتحول إلى مصدر مواز للمعلومة، وذلك أحلام موازية للتغيير منها "الحرقة" (الهجرة غير النظامية) والألعاب الربحية (البلانات والبروموسبور).

ويضيف الاستاذ العباسي أن القدوة أو "الليدرز" تغير داخل المجتمع حيث لم يعد التلميذ يتشبه بالعالم أو لكاتب أو الشاعر أو الرياضي أو الموسيقي، بل أصبح قدوته "الرابور" (مغني الراب) وأمراء التهريب ومشاهير لاعبي كرة القدم.

ويذهب محدثنا بعيدًا بالقول إن اللغة نفسها أصبح لها ما يوازيها وذلك عبر الحروف اللاتينية لمحتوى عربي، كما ولدت مصطلحات جديدة من روح ثقافة الموازي. ويشير أن صورة التلميذ المثابر والصبور قد تغيرت وأصبحت بدلها صورة موازية لتلميذ متعصب للجمعيات والسفر الافتراضي، لتستفحل أزمنة المعنى داخل المدرسة التونسية وفق تعبيره.

ويختم عماد العباسي المختص في علوم التربية حديثه لـ"ألترا تونس" قائلًا: "نحن فعلًا في زمن الموازي أو "الكلاندستان"، يجب على المجتمع لتونسي أن يبحث لمدرسته عن حلول قبل أن تغرقها تسونامي الموزاي".

اقرأ/ي أيضًا: صيانة المؤسسات التربوية في تونس: انتفاضة المجتمع المدني وجدل التطوع والمصلحة

باحث في علم الاجتماع: الليبرالية المتوحشة تدفع نحو ثقافة الموازي

توجهنا أيضًا لطرح السؤال حول أزمة التعليم العمومي في تونس إلى الباحث في علم الاجتماع ممدوح عز الدين الذي أكد لنا بداية أن الأطر الموجودة حاليًا في تونس لم تعد تمنح معنى للوجود بدءًا من العائلة وإلى المدرسة مرورًا بالدولة نفسها وذات الشيء بالنسبة للأحزاب السياسية.

ويضيف في حديثه لـ"ألترا تونس" أن ما يقع اليوم في تونس هو نتيجة حث الخطى نحو الليبرالية المتوحشة "وما إنجرّ عنها من توسع دائرة المتروكين والمتخلى عنهم من قبل الدولة وسائر مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي من المفترض أن تمنح لأفرادها أدوارًا واضحة تساعدهم على الاندماج والإحساس بالحماية والأمان".

ممدوح عز الدين (باحث في علم الاجتماع):  القيم الموازية المرتبطة بالنجاح الفردي متطابقة مع توجهات النيوليبرالية التي تحتفي وتعلي من قيم المتعة والاستهلاك

ويقول ممدوح عز الدين: "إن الفرد في تونس لم يعد محميًا بالمعنى الرمزي للكلمة بل عليه أن يتدبّر ذاته على كل المستويات بما في ذلك القيمي وبالتالي يصبح الموازي غير الخاضع للمأسسة الشكلية هو الحل لمواجهة مؤسسات مفككة لا تمنح للمنتمين اليها أي معنى ومن ثمة الالتجاء للقيم الموازية المرتبطة بالنجاح الفردي المتطابقة مع توجهات النيوليبرالية التي تحتفى وتعلى من قيم المتعة والاستهلاك والبحث عن الخلاص الفردي بكل الوسائل والسبل ومهما كانت درجات المخاطرة عالية حتى لو كان عبر الذهاب إلى الأقصى أي إلى الموت عبر ركوب قوارب الموت نحو الضفة الشمالية حيث الحلم بالفردوس الارضي الموهوم".

ويختم المختص في علم الاجتماع حديثه مهنا بالتأكيد بأن المدرسة باعتبارها مؤسسة مجتمعية تسرب إليها الموازي كما تسرب إلى أركان المجتمع، معتبرًا أن الأخطار التي تهدد سريان ثقافة الموازي هي نفسها تهدد المدرسة باعتبارها قاربًا للنجاة.

بالمحصّلة، إن ما يحدق بالمدرسة التونسية من مخاطر وانفلات بالتوازي مع غياب حزام مساند لهذه المؤسسة المجتمعية التي لا غنى عنها، يدفعنا، بالنهاية، نحو سؤال حارق: متى ننقذ مدرستنا من زوال بدأت بوادره تلوح في الأفق البعيد؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

حراس المدارس.. أمناء على التلاميذ أم مغتصبون؟!

من الكابتن ماجد إلى "الأيباد": كيف أصبح الطفل وحيدًا؟