"لا رحم ولا ترك رحمة الله تنزل"، هكذا يقول مسنّ بيأس حينما يوبّخ شخصًا لا يفعل الحسن ولا يترك الغير يفعله. وهم كذلك. فمن جهة أنهم لا يفعلون الحسن، فهم للخير شرًّا، وللعدل جورًا، وللحريّة أسرًا، وللأمن إرهابًا، وللصّوت كمامة.
هم يؤمنون بوحدانية المقاومة والممانعة وحصريتها، فلا مقاومة إلا همّ، ولا معنى للممانعة دونهم، وهي وحدانية تكفر بالإنسان الحرّ، وتلك هي المصيبة.
لا يمكن تحرير شبر واحد من أرضنا العربية المغتصبة وتأمينه دون تحرير أراضينا من سفاحيها وعملائها
قام هؤلاء اليوم، وهم جمع من الشبيحة والطحالب، بمحاولة إفساد مؤتمر حول استراتيجية مقاطعة الكيان الصهيوني، ينظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتونس، وذلك في ممارسة أصيلة لعادتهم العلنية في الترهيب، وإن كانت عاداتهم السريّة، حول موضوع التطبيع بالذات، لم تعد تخفى عن أحد، ففعلوا كما عاهرة انكشف حالها، فأبت إلا أن تضرب بنات مدينتها بالعهر.
يتقاطع الاغتيال الرمزي الذي أراد وكلاء محور المقاومجية والممانعجية في تونس ممارسته اليوم على المؤتمر الأكاديمي الذي اتخذ عنوانا "استراتيجية المقاطعة في النضال ضدّ الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي: الواقع والطموح"، مع حملات تحريض تمارسها دوائر النفوذ الصهيوني ولعلّ آخرها ما ورد بجريدة تيليغراف البريطانية. إذ لم يعد خافيا بأن الكيان الصهيوني بعدما كان يتعامل مع دعوات المقاطعة بشيء من عدم الاكتراث، باغتته في السنوات الأخيرة الاختراقات التي حققها هذه الدعوات خاصة في الأوساط العلمية والثقافية في أوروبا وأمريكا.
ولا مجال للشكّ بأن "نادي عشاق العسكرتارية والبوط" ممّن اتخذوا من قهر الشعب عادة، ومن إذلاله عبادة، ساءهم أن ملف "مقاومة الاحتلال الصهيوني" خرج من سوق المزايدة والكلمنجية إلى فضاء أرحب عمّده المواطن العربي بدمه، يتقاطع فيه مطلب حرية الإنسان مع تحرير الأرض.
يظنّ جمع الشبيحة والطحالب صدقًا أنهم يحاربون الحلف الصهيوأمريكي المدعوم من مجرّة كونية تتآمر على أنظمتنا العتيدة ومقاومتها المديدة، وأنه يتصدّى لهذه المؤامرة "الدكتور حافظ" وكذلك "منيّم أمريكا من المغرب" صديقنا السّيسي وقبلهما "القايد". هم يظنّون الكثير من الأشياء، ويتوهّمون الكثير من الحقائق، ولكّنهم خائبون، ويائسون، وبائسون، "يخرب بيتهم" كم كانت مصيبة أمتنا العربية عظيمة بهم وليس فيهم.
لازال هذا الجمع يؤمن بأن الأنظمة الاستبدادية التي خرج الشعب العربي لكنسها بعنوان الحرية والكرامة هي جدار صدّ للاحتلال الصهيوني، والحال أن الاحتلال هو الجدار الذي تتكئ عليه هذه الأنظمة منذ سنين. قالها الصهاينة سًرا وعلنًا أن أكبر خطر استراتيجي يهدّدهم هو تحقيق الثورة العربية المجيدة لأهدافها، فبها يتحرّر الإنسان العربي، ودونها تظلّ المقاومة قاصرة عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
ففي سوريا، أعلن الكيان الصهيوني منذ الأيام الأولى خشيته من سقوط نظام "الأسد"، فالمصلحة الوظيفية مشتركة بينهما، وهو ما جعل رامي مخلوف، شبيح القطب الاقتصادي النيوليبرالي في سوريا، يعلن حينها لصحيفة واشنطن بوست بأن "أمن إسرائيل من أمن النظام السوري، وإن أي مكروه يحصل للأسد سينعكس سلباُ على إسرائيل". وفي مصر، صعد "رجل الجيش الذي قهر العدوّ" وقيل جهرًا أن السيسي أوقف بانقلابه الدموي مؤامرة أمريكية صهيونية تتهدد الأمن القومي لمصر بالتواطئ مع الإخوان، لتتأكد لاحقا علاقة بين النظام الانقلابي والصهاينة تتجاوز التحالف الاستراتيجي بشكل قطعًا فاجئ الصهاينة أنفسهم.
لن تنبت زهرة المقاومة دون أن تُروى بالحرية المغتصبة والكرامة الموؤودة من أنظمة الفساد والإرهاب
وأما في ليبيا، يجتمع طحالب القذافي اليوم صفًا واحدًا عسكريًا وسياسيًا وراء خليفة حفتر، الصديق المفضل للنظامين المصري والأردني، والذي صرّح قبل قرابة سنتين لصحيفة "كورياري ديلا سيرا" الإيطالية، إنه لا يمانع دعم إسرائيل، إذا أرادت هي ذلك، على قاعدة "عدو عدوي صديقي".
أكدت الثورة العربية أنه لا يمكن تحرير شبر واحد من أرضنا العربية المغتصبة وتأمينه دون تحرير أراضينا من سفاحيها وعملائها، إذ لن تنبت زهرة المقاومة دون أن تُروى بالحرية المغتصبة والكرامة الموؤودة من أنظمة الفساد والإرهاب. تتأكد الحاجة يومًا بعد يوم لضرورة إسقاط الأنظمة القاتلة لشعوبها والمتاجرة بالمقاومة واستئصالها من نسيجنا الذي نخرته لعقود. وأما عن مقاطعة الاحتلال، فالمسيرة متواصلة بعيًدا عن ضجيج الشبيحة والطحالب الذين أساؤوا قطعًا في سنوات لقضيتنا الأمّ أكثر مما أفادوها طيلة عقود.