16-نوفمبر-2023
رضّع مجمّع الشفاء الطبي في غزة والكرامة العربية المهدورة

تظلّ معاينة صورة رضيع يبكي في مشفى محاصر مع عدم القدرة على الإغاثة والإنجاد، موجعة وقاتلة (getty)

مقال رأي 

 

مشاهد الأطفال الرضّع والخدّج في مجمّع الشفاء المحاصر في شمالي غزة، وهم خارج حضّاناتهم يبكون مع غياب أبسط وسائل رعايتهم وإعاشتهم، هي المشاهد الأكثر كثافة ليس لتوحّش المحتلّ الصهيوني فقط، بل أيضًا لاستباحة الإنسانية، وكذا لحالة الهوان العربي. هذه المشاهد التي تستصرخ الضمائر، ستظلّ محفورة في الأذهان لأجيال. أطفال وجرحى ونسوة ومدنيين عمومًا محاصرون مجوّعون تحت القصف، ولا يقدر العرب قاطبة على إنجادهم برغيف خبز أو قطرة ماء أو دواء إلا بالقدر الذي يحدّد المحتلّ زمانًا ومكانًا. العمق هنا أخلاقي قبل أي اعتبارات أخرى.

أطفال وجرحى محاصرون مجوّعون تحت القصف، ولا يقدر العرب قاطبة على إنجادهم برغيف خبز أو قطرة ماء أو دواء إلا بالقدر الذي يحدّد المحتلّ زمانًا ومكانًا

إغاثة الملهوف وإنجاد المستضعف طالما ظلّتا من مكارم الأخلاق عند العرب ومن الشيم التي امتدحوها في مآثرهم وأشعارهم. هذا الموروث القيمي المثقّل في الوجدان الجمعي لا أثر له اليوم عند الأنظمة العربية التي تتزايد، يومًا بعد يوم، قطيعتها مع الشعب العربي الغاضب. من اللزوم، في هذا الموضع، التمييز. خرج الشعب في جلّ الأقطار العربية متظاهرًا محتجًا ومتضامنًا، وأطلق حملة مقاطعة للمنتجات التي تدعم شركاتها الكيان الصهيوني، أثبتت على الميدان فاعليتها. ولكن الصورة متباينة رسميًا. معبر رفح هو معبر حدودي بين قطاع غزة المحتلّ ومصر، إغلاقه ومن ثم فتحه وفق شروط يحدّدها بل يفرضها الكيان الذي يحدّد نسق إدخال المساعدات الإنسانية بعد إخضاعها لتفتيشه الأمني، هي إساءة لا يمكن تبريرها لأي سبب كان.

 في حرب غزة عام 2012، لم تنتظر الحكومة المصرية وقتها موافقة سلطات الاحتلال لفتح معبر رفح الذي كان شريانًا ليس فقط للإمداد بالمساعدات بل لاستقبال المتضامنين من خارج القطاع أيضًا. الحكومة المصرية حينها المنبثقة من أول انتخابات ديمقراطية بعد الثورة عكست الإرادة الشعبية العامة. يتخالف راهنًا السلوك الباهت للحكومة المصرية في المستوى الإنساني البحت مع الدفع الشعبي للإسناد. أيضًا، قامت دول من أمريكا اللاتينية مثل فنزويلا وكولومبيا بطرد سفراء الكيان الصهيوني، ولكن الدول العربية المطبّعة، مثل الإمارات والمغرب، لم تقم حتى بدعوة سفير الكيان لديها للاحتجاج.

إغلاق معبر رفح ومن ثم فتحه وفق شروط يحدّدها بل يفرضها الكيان الذي يحدّد نسق إدخال المساعدات الإنسانية بعد إخضاعها لتفتيشه الأمني، هي إساءة لا يمكن تبريرها لأي سبب كان

حرب غزة الآن هي تأكيد جديد على القطيعة بين النظام الرسمي العربي الصّامت والمتردّد والشعب العربي الذي وظف أسلحته الممكنة للمقاومة. وهذه القطيعة تحفّز المزاج الشعبي العام في مواجهة الأنظمة التي تحترف قمع مواطنيها وتوظّف الفساد السياسي لحماية مصالحها. لا ريب أن الخيبة من تواطؤ ما تسمى "دول الاعتدال" في حرب غزة نهاية عام 2008 زادت من تخفيض شعبيتها وتحفيز إسقاطها باندلاع الثورة العربية.

ومع التأكيد على محورية المطلبية الاجتماعية والديمقراطية في الثورة، فإن سقفها الإقليمي لم يكن إلا عربيًا فلسطينيًا على نحو الذي عكسه رفع العلم الفلسطيني في عديد المظاهرات المحليّة. فاتجاهات الرأي العام العربي المختلفة منذ أول استطلاع للمؤشر العربي الذي يعدّه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية عربيّة، وليست قضية تخصّ الشعب الفلسطيني وحده.

حرب غزة الآن هي تأكيد جديد على القطيعة بين النظام الرسمي العربي الصّامت والمتردّد والشعب العربي الذي وظف أسلحته الممكنة للمقاومة

في خضمّ كل هذه المركزية للقضية الأمّ، في الوجدان العربي، ليست مشاهد قتل الإنسان الفلسطيني في غزة وتجويعه وتهجيره وإبادته إلا باعثة للشعور بالقهر والعجز وقيلة الحيلة لدى الإنسان العربي الذي يعاين، كل يوم، بني جلدته وأمّته ودينه محاصرون ومهانون يلاحقهم الموت في كل مكان. يتحفّظ البعض على أنّ هذه المشاهد تحوّل مآسي الإنسان إلى مشهدية يومية للإنسان الآخر غايتها التجييش العاطفي. هي قطعًا ليست عرضًا سينمائيًا مباشرًا. صور جثامين الشهداء ودماء الجرحى وبكاء الأطفال وصياح النساء، هي صورنا وليست صور الآخر. 

المقاومة الفلسطينية التي تواجه لوحدها الغطرسة الصهيونية هي الباعثة على النخوة، تلك هي مفارقة غزة، تشعر معها بأن الكرامة مهدورة ولكنها تمنحك الكرامة أيضًا

بين الإنساني والقومي والديني، في جملة هذا المشترك، الضحايا أيضًا هم نحن. هي ليست محاولة لتقليص شعور العجز أو مراوغة نفسية لتخفيف الحمل، وقطعًا ليست اصطناعًا لبطولة غير موجودة. هم الضحايا والأبطال. ولكن نحن، الذين نقاوم بالكلمة، مغلوبين. توجد لحظات لا ترى المقاومة ناجعة إلا متى كانت مسلّحة وليس في ذلك من تبخيس لبقية أشكال المقاومة. فبنهاية المطاف، إن الدفاع عن النفس وعن الأرض هي الصورة الطبيعية والأصلية للمقاومة في مواجهة أي احتلال استيطاني.

وفي العمق، تظلّ معاينة صورة رضيع يبكي في مشفى محاصر مع عدم القدرة على الإغاثة والإنجاد، موجعة وقاتلة. شعور متفاقم أن كرامتنا مهدورة. ولكن المقاومة الفلسطينية التي تواجه لوحدها الغطرسة الصهيونية هي الباعثة في المقابل على النخوة. فلم يكن "طوفان الأقصى" في الأصل إلا ردًا للاعتبار وانتصارًا للكرامة العربية. أرض غزّة هي منكوبة واليوم، ولكن أيضًا حرّة وثائرة من أجل كرامتها، وهي كذلك ربّما أكثر من أي أرض عربية أخرى. تلك هي مفارقة غزة، تشعر معها بأن الكرامة مهدورة ولكنها تمنحك الكرامة أيضًا.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"