اكتسبت "دار المقرون" في مدينة سوسة شهرتها وذاع صيتها كدرّة معمارية أنشأت خلال أوائل القرن الماضي ولكنها كانت أيضًا مقرًا للسلطة ومنبعًا للقرارات الكبرى في الساحل التونسي، من بين جدرانها الصماء كان الفرنسيون يصدرون أوامر جيشهم باعتبارها مقرًا للقيادة العسكرية الفرنسية بسوسة وبعد ذلك صارت مقرًا "لدار العمل" باعتبارها مركزًا للقيادة الإدارية للجهة بعد الاستقلال ثم أصبحت مقرًا للحزب الحاكم في سوسة باعتبارها لجنة تنسيق الحزب الاشتراكي الدستوري ومن بعده التجمع الدستوري الديمقراطي في الحقبة النوفمبرية حتى ثورة 14 جانفي/يناير 2011 فصودرت ثم انتهت بين يدي وزارة الثقافة التونسية، كمقر للتفقدية الجهوية للتراث بالساحل وأنهت مرحلة طويلة من "الاغتصاب" السلطوي.
أي مكان هذا الذي يتماهى مع قصور القيادة والسلطة؟ "دار المقرون" نسبة إلى عائلة المقرون العريقة تم تشييدها بقوة المال الوفير والسلطة المعنوية والسطوة الاجتماعية فأدارت الرقاب إليها لأنها أشاعت هيبة تلك العائلة وزادتها أرستقراطية في ذلك العهد بما تملكه من عقارات وغابات مترامية الأطراف.
ترتبط تسمية هذا المعلم بعائلة المقرون التي كان لها شأن في رسم السياسات وقيادة البلاد تحت سلطة البايات وكانت الدار محلّ الأطماع على مرّ الزمان
سمعنا روايات عن تلك العائلة تؤكد دماثة أخلاقها وتجذرها الاجتماعي في الساحل التونسي وكان لها شأن في رسم السياسات وقيادة البلاد تحت سلطة البايات كما تناهى إلى مسامعنا دور المال في إحكام قبضة السلطان فغنمت من الدسائس والأحقاد وأدران الصراع على السلطة المدنية والعسكرية بما كان لها من شأن وجاه، وكانت الدار محلّ الأطماع على مرّ الزمان حتى أن صاحبها قد تخلى عنها بالبيع في ظرف وجيز.
يقع معلم "دار المقرون" في تقاطع شارع محمد علي ونهج الفيلات في سوسة، وترتبط تسميته بعائلة المقرون بعد بروز نجمها مع شخصية حسين المقرون الذي شغل مناصب عسكرية خلال فترة الدولة الحسينية، وينسب له أيضًا معلم "سراية المقرون" بمدينة مساكن، الذي يعود تاريخه إلى سنة 1829 وشيّد بإذن من صاحب الطابع.
ومن هذه العائلة ينحدر "الهذيلي المقرون" الذي قام ببناء دار المقرون بمنطقة واد نوّار بسوسة، وتاريخيًا ثبت أن هذه البناية كانت في الأصل منزلاً متهالكًا تم هدمه سنة 1933 وأشرف على بناء المنزل الحالي مهندس أصيل مدينة سوسة، كان يعيش في سوريا وتعاقد مع "الهذيلي المقرون" لإنجاز الأشغال وبعد استقرار هذه العائلة بالمنزل جدّ خلاف بينهما وبين القايد طيب السقا، نتج عنه توتر في العلاقة وخوف من سلطة هذا الحاكم، فكان الحل التوجه نحو كراء الطابق العلوي لجنرال فرنسي لضبط الأمن.
بعد خروج الضباط الفرنسيين منه خصصت دار المقرون لتكون مقر "دار العمل" ثم تحولت إلى مقر حزبي وإثر أحداث الثورة عام 2011 بقي المعلم مغلقًا إلى حين تصفية وضعيته
وخلال أحداث الحرب العالمية الثانية غادرت عائلة المقرون، وخصص المنزل للضباط الفرنسيين فيما بين 1943 و1944، أما بعد خروج الفرنسيين فقد خصصت دار المقرون من طرف القايد طيب السقا لتكون مقر "دار العمل" بعد أن رصدت الدولة ميزانية بناء مقر جديد ثم اقترح على الباي شراء المعلم وتجنب مصاريف البناء، فوافق الباي على الاقتناء وخلال تلك الفترة تواصلت الوظيفة الإدارية للدار إلى حدود سنة 1961 لتتحول دار المقرون إلى مقر حزبي (الحزب الاشتراكي الدستوري/التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل).
وإثر أحداث الثورة عام 2011 بقي المعلم مغلقًا وسعت مصالح المعهد الوطني للتراث للحفاظ عليه نظرًا لأهميته التاريخية والمعمارية وتم إجراء سلسلة من الاجتماعات في مقر ولاية سوسة مع وزارة أملاك الدولة ولجنة تصفية أملاك التجمع كلّلت بالتحوز وتخصيص المعلم لفائدة وزارة الشؤون الثقافية لضمان الحماية القانونية وتم بالتماهي مع الإجراءات السابقة إعداد ملف ترتيب عرض على أنظار اللجنة الوطنية للتراث قوبل بالموافقة ونشر بالرائد الرسمي بتاريخ 4 جويلية/يوليو عام 2016 بمقتضى أمر حكومي عدد 861 لسنة 2016 وتم افتتاحه من جديد كمقر للتفقدية الجهوية للتراث بالساحل يوم 30 أوت/أغسطس 2024.
باحث لـ"الترا تونس": دار المقرون هو من أهم المعالم السكنية بمدينة سوسة تم تشييده سنة 1933 وتم استغلاله خلال الحرب العالمية الثانية كمقر للضباط الفرنسيين
وفي حديثه مع "الترا تونس" عن دار المقرون، قال الباحث محمد علي الخرشفي المكلف بالإشراف العلمي في ولاية سوسة: "هو معلم قديم جديد تمت عملية إنشاء وترميم وتهيئة طابقه الأول في قسط أول تكلف 100 ألف دينار في انتظار افتتاح القسط الثاني لإتمام الأشغال في المعلم الأثري والتاريخي المرتب كتراث وطني".
وبشأن أهمية هذا المعلم، أكد الباحث محمد علي الخرشفي لـ"الترا تونس"، أنه "أهم المنازل السكنية بمدينة سوسة إذ كان الاهتمام منصبًا على داخل المدينة العتيقة في حين لدينا معالم رائعة خارجها ومنها منزل المقرون أو منزل الهذيلي المقرون الذي تم تشييده سنة 1933 وتم استغلاله خلال الحرب العالمية الثانية كمقر للضباط الفرنسيين ثم أصبح بعد الاستقلال مقرًا حزبيًا".
وأضاف أنه "بعد سنة 2011 أغلق المعلم وتراجعت حالته الإنشائية وفي الأثناء قام المعهد الوطني للتراث بإعداد مشروع لترميمه وتقديم طلب لتخصيصه، وقوبل بالموافقة من طرف لجنة تصفية أملاك التجمع الدستوري الديمقراطي المصادرة وتم تخصيصه لفائدة المعهد الوطني للتراث".
وتابع الخرشفي لـ"الترا تونس": "معلم جميل وقد عملنا على جانبين لتملّكه الجانب الإداري والحماية القانونية وانتقلنا إلى جانب الترميم واخترنا أن يكون مقرًا للتفقدية الجهوية للتراث بالساحل ليكون هذا المعلم ضامًا لأحد أهم الإدارات الفاعلة بجهة الساحل ككلّ".
باحث لـ"الترا تونس": دار المقرون معلم مميّز جدًا إذ نتفحص فيه البصمة المعمارية الأوروبية ونلحظ فيه استعمال السيراميك أو الخزف الذي انتشر في الحقبة العثمانية كما نلمس فيه التأثير الموريسكي الأندلسي
وفي الجانب المعماري يقول محمد علي الخرشفي: "معماريًا هذا المعلم مميّز جدًا فنتفحص فيه البصمة المعمارية الأوروبية وهو يشبه معلم دار الباي في المدينة العتيقة بسوسة ونلحظ فيه استعمال السيراميك أو الخزف الذي انتشر في الحقبة العثمانية كما نجد فيه الديكور الجصّي فنلمس التأثير الموريسكي الأندلسي، وهو من أول المنازل المبنية بالإسمنت المسلّح الذي كان اكتشافًا في ذلك الوقت".
لفت إلى أن "المبنى يضم طابقًا سفليًا وطابقًا أرضيًا وطابقًا علويًا وكان أول منزل مجهز بنظام تدفئة مركزي وقد حافظنا على تجهيزاته القديمة ليقع تثمينها، أما من ناحية الزخرفة نجد العديد من أنواع الخزف أهمه خزف مدينة نابل الذي يتبع النمط المورّق أو الزخرف النباتي ونلاحظ استعمال الجليز الأصفر الذي يسمى "عفسة الصيد" وهو أحد أنواع الجليز الذي ظهر خلال الفترة العثمانية ويميز المباني التونسية" وفق قوله.
وفي وصفه لمعلم دار المقرون يقول الباحث محمد علي الخرشفي لـ"الترا تونس": "كل غرف دار المقرون جدرانها موشحة بالجليز وحتى أرضية الغرف مزينة بالرخام الإيطالي المستورد مع العديد من الديكورات المرسومة يدويًا مزدانة بالألوان الذهبية الساطعة المشعّة، وهذا يدل على الأهمية العمرانية والمعمارية وقيمة عائلة المقرون التي تمكنت من تشييد صرح من ثلاثة طوابق سفلي وأرضي وعلوي، ويعتبر الطابق العلوي الأكثر أصالة ومازال يحافظ على شكله الأصلي وأهم ما فيه الإضاءة الطبيعية التي تشع بالألوان الصفراء والزرقاء المتدرّجة بما يتناغم مع الجدران الرخامية واللوحات الخزفية".
من جهته أشار الباحث في التاريخ عادل بن يوسف الذي أسهم في التأثيث العلمي لتاريخ "دار المقرون" إلى أن "هذا المنزل يعود إلى عائلة عريقة، إذ كان الجد الأول من كبار العسكريين وساهم في انتفاضة علي بن غذاهم عام 1864 ضد نظام محمد الصادق باي".
وأضاف في تصريحه لـ"الترا تونس"، أن "المنزل كان على ملك معمّر فرنسي فتم اقتناؤه منه وإعادته بالكامل وقد استغرقت الأشغال 3 سنوات وساهم فيها كبار النقاشين من إيطاليا وإسبانيا"، ونوه بن يوسف إلى أن "الهذيلي المقرون المالك للمنزل كان قد عرض على قايد سوسة الطيب السقا بيعه للدولة واقتنته الدولة بأمر من الباي بقيمة 30 ألف دينار في ذلك الوقت وظلت مقر "دار العمل" إلى غاية سنة 1974 حيث كانت أكبر القرارات تخرج من هناك".