مقال رأي
لا شك أن قيس سعيّد ليس أفضل حالاً مما كان عليه في 25 جويلية 2021. هو يفقد مساحات واضحة، وإصراره على "نجاح الاستشارة" والتعرض إليها صباحًا ومساء ويوم الأحد مؤشر آخر على وعيه بأنه لا يتقدم بالشكل الذي كان يتوقعه، وأن الاستشارة ليست محطة ناجحة في خارطة طريقه.
داخليًا التحدي القائم من جهتين: الخطاب المتصاعد للاتحاد خاصة فيما يتعلق بمفاوضات صندوق النقد، والسؤال الفعلي هل الخطاب ستتم ترجمته في تصعيد فعلي إلى الأقصى؟ وورقة العودة "الافتراضية" للبرلمان عبر عقد جلسة عامة "تشاورية" عن بعد (غير حضورية) يوم الأربعاء لأول مرة منذ 25 جويلية في أول خطوة تجمع ضمنياً أطرافاً سياسية في شقي المعارضة على قاعدة عدم ترؤس راشد الغنوشي للجلسة. فهل أن التراجع الواضح لقيس سعيّد يعني أنه فقد موقع "صاحب القرار" (the decision maker)؟
الاتحاد لن يكون طيعًا في يد الرئيس التونسي ومجرد طرف اجتماعي ينظر من بعيد للسياسة، ولن يكون أيضًا رأس حربة منظومة ما قبل 25 جويلية
أصبحت خطب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي بمناسبة مؤتمرات الاتحادات الجهوية أحد محاور حياة سياسية أصبحت راكدة في الأساس. خطب الطبوبي بعد المؤتمر العام للاتحاد أصبحت أكثر وضوحًا لكنها في استمرار مع عناصر خطاب بدأت تظهر من شهر سبتمبر/أيلول الماضي: الاتحاد لن يكون طيعًا في يد الرئيس التونسي ومجرد طرف اجتماعي ينظر من بعيد للسياسة مثلما كان قبل الثورة، ولن يكون أيضًا رأس حربة منظومة ما قبل 25 جويلية وخاصة التحالف الذي قادته وتقوده حركة النهضة. هذا "الموقع الوسط" في الأساس يرغب في الدفاع عن موقع للاتحاد في "صناعة القرار".
ربما من أهم الجمل التي قالها الطبوبي في خطبه، هي في رأيي في مؤتمر الاتحاد الجهوي في القصرين يوم الأحد: "الاتحاد ما تعديوش بيه الوادي… وتخلويه يتعارك حديد في حديد". يرد هنا الطبوبي ضمنيًا على الضغط المسلط على المنظمة النقابية للإمضاء على اتفاق "الإصلاحات الموجعة" مع صندوق النقد، ومن ثمة تركه في مواجهة ضغط قواعده النقابية.
تصور الطبوبي لموازين القوى هو أن الاتحاد ليس في موقع أن يكون مجرد "صاحب إمضاء"، بل هو يستطيع الحفاظ على الموقع الأثير الذي احتله بعد الثورة وخاصة بعد "الحوار الوطني" أي موقع "صاحب قرار"، بمعنى مشارك في صناعة القرار، بما في ذلك التعيينات في المواقع العليا من الحكومة إلى المؤسسات العمومية وإلى الإدارة العمومية. بل الطبوبي يصر في خطبه الأخيرة على التذكير بتموقع الاتحاد إبان الاستقلال كطرف اقتراح رئيسي، مما جعله يذكر ابن الاتحاد المغضوب عليه الفقيد أحمد بن صالح مرارًا في الوقت الذي لا تضع قيادة الاتحاد صورته في قاعاته الرسمية.
تصور الطبوبي لموازين القوى هو أن الاتحاد ليس في موقع أن يكون مجرد "صاحب إمضاء"، بل هو يستطيع الحفاظ على الموقع الأثير الذي احتله بعد الثورة وخاصة بعد "الحوار الوطني" أي موقع "صاحب قرار"
في المقابل، كيف يتصرف قيس سعيّد؟ من جهة، يصر الرئيس التونسي على التذكير بخلفية تميل إلى موالاة التموقع الاجتماعي للاتحاد، بمعنى "مناصرة" الفئات الاجتماعية الهشة، لكنه أيضًا يتصرف من موقع الرافض لدور متقدم سياسيًا للاتحاد وخاصة دوره في الترتيبات السياسية "الفاسدة" التي يؤسس لتموقعه بالتضاد معها، ومنها "الحوار الوطني" ومعاني "التوافق" تحديدًا. ويقف بالضد أيضًا للتموقع القوي للاتحاد داخل الدولة خاصة الإدارة والمؤسسات العمومية ومن هنا يأتي قرار المنشور 20 الذي يحد من إمكانية التفاوض المباشر بين المديرين العامين والقيادات النقابية القطاعية والجهوية.
من الواضح أن الحكومة توافقت مع صندوق النقد على أن "المشكل" هو رفض الاتحاد "للإصلاحات" مما جعل الطبوبي يرد في خطاباته بشكل علني على هذه الاتهامات المتداولة في الكواليس، مقابل الصمت (غير الشجاع حقيقة) لمنظمة الأعراف التي يبدو أنها تريد أن تبقي على علاقة جيدة مع الاتحاد مقابل تسليط الضغط على الاتحاد.
يصر سعيّد على التذكير بخلفية تميل إلى موالاة التموقع الاجتماعي للاتحاد لكنه أيضًا يتصرف من موقع الرافض لدور متقدم سياسيًا للاتحاد وخاصة دوره في الترتيبات السياسية من ذلك "الحوار الوطني" ومعاني "التوافق" تحديدًا
لكن التوافق الحالي بين الحكومة وصندوق النقد لا يعني التوصل إلى اتفاق بل يعني أساسًا أن الاتفاق مع الصندوق معطل، يضاف إلى ذلك الوضع السياسي الضبابي. إضافة إلى خارطة طريق مترهلة ولم تصدر بعد في مراسيم رسمية ومن غير الواضح من سيشرف على تنفيذ محطتيها (الاستفتاء والانتخابات)، فإن الرئيس سعيّد نفسه لا يبدو متحمسًا للمصادقة بوضوح على اتفاق "الإصلاحات الموجعة"، ويتصرف هو نفسه كمعارض ضمني للاتفاق.
إذ أن المجلس الوزاري الذي أقر "برنامج الإصلاح الهيكلي العميق" المزمع تقديمه لصندوق النقد كان من المجالس الوزارية النادرة التي لم يشرف عليها الرئيس، واكتفى بالمقابل باستقبال رئيسة الحكومة لتقديم ما يشبه النصائح بكيفية التفاوض مع الصندوق. وضع يشبه لقانون الميزانية عندما اقترب من التبرؤ منه. عوض أن يتصرف الرئيس بصفته مالك كل السلطات بشكل صريح وشفاف ويعرض الوضع الصعب والخيارات المتاحة ويتحمل بوضوح المسؤولية يبدو أنه يرتب لأخذ مسافة من الاتفاق.
ومن الواضح أن الطبوبي لا يرغب أن يمسك بـ"جمرة الاتفاق مع صندوق النقد" دون أن يمسكها قبل ذلك قيس سعيّد. المشكل أن الاتحاد ليس في أقوى حالاته خاصة بعد أن تعرض إلى "تهرئة" كبيرة مثلما تعرض أغلب الطيف الذي ساد في العشر سنوات الأخيرة.
من الواضح أن الطبوبي لا يرغب أن يمسك بـ"جمرة الاتفاق مع صندوق النقد" دون أن يمسكها قبل ذلك قيس سعيّد
في الجهة الأخرى القصية، يوجد ما تبقى من الطيف السياسي بشقوقه المختلفة. والذي يبدو مرتاحًا أنه غير معني بشكل مباشر بتحمل مسؤولية إمضاء الاتفاق مع صندوق النقد. الأكثر طرافة وضع حركة النهضة التي تصر على التصرف كطرف معارض لم يكن معنيًا أصلاً بالسلطة. ومن الطرائف أن أحد عناصرها والذي عينته في ديوان المشيشي كـ"مستشار اقتصادي" وكان في قلب المفاوضات مع صندوق النقد وعمل تحت إشراف الوزير السابق أنور معروف المشرف على ما يسمى "مركب الحكم" (أحد هياكل حركة النهضة القيادية) خلال حكومة المشيشي خرج للإعلام في الأسبوع الماضي ليقول إن "النهضة لم تكن في الحكم، ورفضنا أي تعيينات لها في الحكومة".
الأطياف المختلفة للمعارضة، خاصة الممثلة في البرلمان المعلقة أشغاله، يبدو أنها توافقت على عقد جلسة عامة الأربعاء 30 مارس/آذار الجاري قبل أن تدخل البلاد في السبات الرمضاني المعتاد.
الاتفاق على عقد جلسة عامة في 30 مارس يبدو كأول نقطة التقاء بين أطراف اتفقت على الاختلاف والتباين. وشرط الاتفاق عاد لعرض تمت مناقشته منذ شهر أوت/أغسطس الماضي والمتمثل في تراجع راشد الغنوشي وسميرة الشواشي (تحالف حكومة المشيشي) عن ترؤس الاجتماع وترؤسه في المقابل من قبل النائب الثاني طارق الفتيتي.
الاتفاق على عقد جلسة عامة في 30 مارس يبدو كأول نقطة التقاء بين أطراف اتفقت على الاختلاف والتباين وشرط الاتفاق ترؤس الاجتماع من قبل النائب الثاني طارق الفتيتي
من الواضح أن الاتفاق الضمني (الذي يقاطعه حزب عبير موسي) يعكس حالة الإرهاق التي تواجه النهضة مما جعلها تتنازل وأيضًا إرهاق الأطراف الأخرى التي تواجه صدًا من قبل قيس سعيّد ولا تملك مساحة واسعة للمناورة السياسية مما يجعلها تخاطر بالتواجد في منطقة تماس مع النهضة.
يبقى الآن مضمون أجندة الجلسة العامة التشاورية والذي يرجح أن يحافظ على سقف منخفض. في كل الحالات نحن إزاء "جلسة افتراضية" لا يمكن أن تعيد فعليًا وواقعيًا البرلمان، ومن ثمة لا يمكن أن تجعل قراراته ذات فاعلية لكنها تعكس أيضًا تراجعًا في وضعية قيس سعيّد مما جعل خصومه يتقاربون.
قيس سعيد المتشبث بنسقه الزمني الانعزالي والمنفصل عن تطورات أساسية ومنها الوضع الاقتصادي والاجتماعي ويصر على مسار هاجسه الوحيد الذهاب إلى استفتاء يغير النظام السياسي نحو "النظام القاعدي" باستعمال آليات الدولة. ولأنه لا يملك خيارات أخرى لتمويل ميزانية الدولة سوى مفاوضات صندوق النقد فإن الطرف الخارجي خاصة الغربي بقيادة واشنطن سيواصل ضغطه لتغيير مساره.
من الواضح أن الاتفاق الضمني حول جلسة 30 مارس يعكس حالة الإرهاق التي تواجه النهضة مما جعلها تتنازل وأيضًا إرهاق الأطراف الأخرى الذي جعلها تخاطر بالتواجد في منطقة تماس مع النهضة
الزيارة الأخيرة لمساعدة وزير الخارجية الأميركي والتي كان من أحد هواجسها وضع فرامل على أي قانون يحد من التمويل الأجنبي للجمعيات، ستواصل ضغطها عمومًا باستعمال ورقة صندوق النقد من أجل "عقلنة" مسار ما بعد 25 جويلية.
الطرح الغربي لا يعارض الاستفتاء لكنه يصر على استفتاء بإشراف هيئة الانتخابات (التي زارتها مساعدة وزير الخارجية الأمريكي) وأيضًا على نظام سياسي لا يغادر التعريف المتداول للديمقراطية الليبرالية.
إلى حد الآن وبسبب موازين القوى الداخلية والتي لا يزال ينتصب فيها قيس سعيّد كـ"صاحب قرار" لا تزال تتصرف الأطراف الغربية مع قيس سعيّد كطرف مقابل للتفاوض. الطرف الوحيد القادر على تغيير المعادلة، ومثلما قلنا مرارًا، هي تحركات اجتماعية واسعة، أمام اهتراء النخبة السياسية والاجتماعية السائدة قبل 25 جويلية. مأزق حقيقي للجميع وخطير على وضع بلد في الأساس هش.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"