بعض اللحظات تكون فاصلة في حياة الفرد، بعضها عنوان موت وبعضها عنوان ولادة وبعضها الآخر برزخ ما بين الماضي والحاضر، بعض اللحظات قد تبعث الذكريات المنسية حية من جديد، ذكريات قد تظن أنها عصية على الذكرى ولكنها قد تتمرد وتقفز إلى ذهنك دون سابق إنذار مثلما هو الحال مع الناشطة في المجتمع المدني فريال شرف الدين.
فريال شرف الدين كانت تشاهد فيديو للفتاة المغربية، التي أغتصبت في المغرب وترك مغتصبوها وشومًا على جسدها، وهي تتأمل تفاصيل الضحية، تروي تجربتها.. لم يساورها الشكّ ولو للحظة بأنها ستتذكر حادثة تعود إلى أكثر من عشرين سنة، وفق حديثها لـ"الترا تونس".
لحظة مشاهدة فيديو المغربية خديجة كانت فاصلة في حياة الناشطة فريال شرف الدين، التي تذكرت حادثة وصفتها بالوشم الذي لم يمح من ذاكرتها رغم أنها لم تتوقع يومًا أنها ستتذكرها بعد مرور كل هذه السنين
اقرأ/ي أيضًا: ضحايا الاغتصاب في تونس.. قصص الوجع الدائم
مقطع الفيديو الذي لم تقم بمتابعته إلا لبعض الثواني، أثار في ذاكرتها حادثة تحرّش تعرضت لها وزميلاتها في الصف السابع من التعليم الأساسي من قبل تلاميذ يدرسون في الباكالوريا، إذ كانت المدرسة الإعدادية والمعهد الثانوي يقعان في نفس البناية حيث كان تلاميذ الباكالوريا ينتظرونهن عند انتهاء الدوام في السادسة مساء ويتحرشون بهن ويلمسون أجسادهن.
لحظة مشاهدة فيديو المغربية خديجة كانت فاصلة في حياة الناشطة فريال شرف الدين، التي تذكرت حادثة وصفتها بالوشم الذي لم يمح من ذاكرتها رغم أنها لم تتوقع يومًا أنها ستتذكرها بعد مرور كل هذه السنين، نفس اللحظة كانت فرصة لولادة حملة "وشمولي بالسيف" التي أطلقتها كرصاصة في قلب التحرش.
وفي حديثها لـ"الترا تونس"، تقول فريال شرف الدين إنها شاركت تجربتها مع التحرش منذ سنوات على صفحتها في موقع فيسبوك إلى جانب تجربة أخرى عايشتها شهر مارس/ آذار الماضي، إثر تعرضها للهرسلة والتحرش الالكتروني على خلفية مواقفها الداعمة لقضايا المرأة والحقوق والحريات.
ومنذ أن نشرت التدوينة التي اعترفت فيها بتعرّضها للتحرش، بنت جسرًا من الثقة بينها وبين رواد موقع فيسبوك من التونسيين وغيرهم، حيث تلقت عددًا من الرسائل التي تروي تجارب ضحايا التحرش حتى أنها لم تقدر على مسايرة الكم الهائل من الرسائل، وكانت الرسالة الأولى من صديقة لها حدّثتها عن تعرّضها للتحرش حينما كان عمرها خمس سنوات من قبل قريبها ذي العشرين سنة وعن عدم تحليها بالشجاعة الكافية لنشر تجربتها وطلبت منها تنزيلها على صفحتها دون ذكر اسمها، وفق رواية شرف الدين لـ"الترا تونس".
حملة "وشمولي بالسيف" لم تمس فقط ضحايا التحرش وإنما استقطبت أيضًا المتحرشين والشاهدين على حالات التحرش ممن خيروا الصمت سابقًا
اقرأ/ي أيضًا: قضية المغربية خديجة: تعاطف تونسي وحملات لتمكينها من العلاج في تونس
مطلقة حملة "وشمولي بالسيف" تعتبر أن الوشم لا يطال الجسد فقط وإنما الذاكرة والنفسية، وجعلت من الحملة متنفسًا لكل ضحايا التحرش إذ تلقت عديد الرسائل من بينها رسالة فتاة تقول شرف الدين إنها أرادت أن تتواصل مع الضحية التي تعرضت للتحرش في سن الخمس سنوات لأنها عاشت نفس القصة، أرادت أن تقاسمها تجربتها لأنهما عاشتا نفس الوجع، ومشاركة نفس التجربة مع شخص آخر قد تكون سببًا في تخفيف المعاناة وتجاوز الإحساس بأنك الوحيد الذي تعرض إلى حادثة مماثلة.
وعن التجائها لـ"تطبيق صراحة" لتلقي بعض الرسائل، توضح فريال شرف الدين أن انطلاقة الفكرة كانت حينما اتصلت بها فتاة تريد أن تروي تجربتها مع التحرش دون أن تحكيها مباشرة لها لأنها من معارفها، فكان أن نشرت رابط تطبيق صراحة ليشاركها من يحرصون على عدم كشف هويتهم تجاربهم لكنها لم تتوقع أن تتلقى كمًّا كبيرًا من الشهادات، وفق قولها.
وإن كان تطبيق صراحة في أذهان البعض مرتبطًا بغياب المصداقية، فإن شرف الدين تؤكد أنها لا تلعب دور القاضي لتحكم على الشهادات إن كانت صادقة أو كاذبة وأن المهم بالنسبة لها ان تمس الحملة أكثر عدد من ضحايا التحرش وتشجعهم على الحديث وتتيح لهم مجالًا ليعبّروا فيه عما يختلج أنفسهم.
وبعض القصص، بالنسبة إليها، تحمل صحّتها بين الأسطر وهي تعرف ذلك من خلال تجربتها في الاشتغال على العنف ضد المرأة والاغتصاب، وأما الحكايات التي تشك في مدى صدقيتها، فإنها أيضًا تنشرها لأنها وإن كانت مزيفة أو لا تشبه كثيرًا قصة حقيقية فمن المؤكد أن شخصًا ما على هذه الرقعة الجغرافية عاشها.
فريال شرف الدين (ناشطة بالمجتمع المدني) لـ"الترا تونس": تلقيت رسائل شتم على صفحتي بموقع فيسبوك وبتطبيق صراحة وهناك من هدّدني بالاغتصاب إثر إطلاقي حملة "وشمولي بالسيف"
وحملة "وشمولي بالسيف" لم تمس فقط ضحايا التحرش، وإنما استقطبت أيضًا المتحرشين والشاهدين على حالات التحرش ممن خيّروا الصمت، كما أن شهادات التحرش شملت رجالًا تعرضوا للتحرش من قبل رجال آخرين ومن قبل نساء، وأطفال تعرضوا للتحرش من الجنسين، إلى جانب نساء تعرضوا للتحرش من قبل رجال.
وعن مآل الحملة، تقول فريال شرف الدين إن الأشخاص يرسلون قصصهم مع التحرش لأن لديهم ثقة في شخصها وكل الرسائل تنطلق بـ"يا فريال"، مضيفة "في الحقيقة أنا تعبت نفسيًا من قراءة الرسائل وكثير منها لم أطلع عليه ذلك أن لي حياة خاصة بالتوازي مع الحملة لذلك أفكر أن تتبنى جمعية "كلام" المبادرة وننشئ منصة تفاعلية وننطلق في العمل على مشروع التوعية من التحرش ولكن ستواجهنا مشكلة الثقة لأن من كشفوا تجاربهم مع التحرش كشفوها لأني شاركتهم تجربتي لذلك نحن نحاول أن نجد صيغة تجعل الأشخاص يثقون في الجمعية، لأن الجمعية مجموعة من الأشخاص وليست فردًا رغم أنني من أسسها".
وفيما يتعلّق بالصعوبات التي واجهتها، تشير إلى أنها تلقت رسائل شتم على صفحتها بالفيسبوك وبتطبيق صراحة كما أن هناك من هدّدها بالاغتصاب، ناهيك عن مهاجمة الحملة من قبل أشخاص بعضهم لا يفقه شيئًا عن نفسية ضحايا التحرش ومن قبل بعض الفتيات اللاتي لم تستطعن كسر حجز الصمت ومصالح ذواتهن والحديث عن تعرضهن للتحرش، لأنه لا توجد فتاة لم تتعرض إلى التحرش، وفق قولها.
وبعيدًا عمن ناهضوا الحملة، تقول الناشطة النسوية إن الحملة تأخذ نسقًا تصاعديًا وإن عدد الشهادات يزداد يوميًا ورغم أن أصدقاءها أخبروها أنها لن تتجاوز ثلاثة أيام ولكنها اليوم تجاوزت الأسبوع.
وتبدو مبادرة "وشمولي بالسيف" التي رأت النور في لحظة أثارت فيها وشوم خديجة وشم التحرش في ذاكرة فريال شرف الدين، قد مثلت متنفسًا لضحايا تحرش لم يقدروا على كسر حاجز الصمت في الواقع، ولكن الحملة كانت بالنسبة إليهم فضاء لتعرية ظاهرة التحرش وربما انطلاقة حقيقية للتوعية ضده.
اقرأ/ي أيضًا: