26-أغسطس-2024
حكومة جديدة في فترة انتخابية.. حديث المؤامرة دائمًا

"تذكّرنا كلمة سعيّد في موكب أداء اليمين الدستورية باستدعاء ضمني لحالة الاستثناء التي سبق أن تم تقديمها

مقال رأي 

 

كان لافتًا للانتباه، في البداية، أن يختار رئيس الدولة رئيس حكومة جديد في بداية شهر أوت/أغسطس أثناء الفترة الانتخابية وفي خضم تقديم الترشحات للانتخابات الرئاسية المنتظرة يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول المقبل. الساعة ليست ساعة تغيير جوهري في السلطة التنفيذية وخاصة على مستوى رأس الحكومة وذلك في ساعة زمن انتخابي يفترض أن تكون الحكومة خلالها تواصل تسيير الأعمال في انتظار مآل الاستحقاق الرئاسي. ولكن وبعد نحو أسبوعين، يظهر أن رئيس الدولة قيس سعيّد أتى بغير ما جرت عليه الأعراف في الفترة الانتخابية، وهو تغيير شامل للحكومة قبل شهر ونصف فقط من تاريخ الانتخابات، شمل 19 وزيرًا و3 كتاب دولة. هي عمليًا حكومة جديدة.

تغيير شامل للحكومة قبل شهر ونصف فقط من تاريخ الانتخابات الرئاسية، شمل 19 وزيرًا و3 كتاب دولة، هي عمليًا حكومة جديدة

على المستوى الشكلي بداية، تضمّن البلاغ الرئاسي بلاغًا بإجراء تحوير حكومي تضمّن عرضًا لأعضاء الحكومة الجدد دون إشارة لأي دور لرئيس الحكومة كمال المدوري، والحال أن دستور الرئيس ينصّ أن تعيين أعضاء الحكومة يتم باقتراح من رئيسها. وتباعًا لم يظهر رئيس الحكومة خلال مراسم أداء يمين الوزراء وكتاب الدولة الجدد. فالرئيس وحده هو من يحتكر المشهد حتى في أبسط التفاصيل.

ولكن الأهم يظلّ السؤال الأوّلي والمشروع لأي ملاحظ هو الآتي: أي حاجة لتكوين حكومة جديدة قبل بضع أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية؟ الإجابة الرئاسية توضّحت في كلمة قيس سعيّد إبان مراسم أداء اليمين وعناوينها المفاتيح: الأمن القومي "قبل أي اعتبار" ودواليب الدولة التي "تتعطل كل يوم" وغياب الانسجام مع تشكل مراكز داخل أجهزة الدولة. حديث عن منظومة وراء الستار قامت باحتواء عدد من المسؤولين في ظل صراع بين نظام جديد ومنظومة فاسدة. اتهام مباشر لأعضاء مقالين في الحكومة لم يسّمهم بقوله إن "الوزير للمساعدة وليس وزرًا". وطبعًا حديث عن عدم تحمل مسؤولين مركزيين وجهويين لمسؤولياتهم والمثال الدائم للرئيس، وكالعادة، هو عدم تفطن مسؤولين لانقطاع المياه حينما يتصل بهم ليلًا.

لم يظهر رئيس الحكومة كمال المدوري خلال مراسم أداء يمين الوزراء وكتاب الدولة الجدد. فالرئيس وحده هو من يحتكر المشهد حتى في أبسط التفاصيل

الأمر إذن لا يتعلق فقط هذه المرة بحديث تواطؤ مسؤولين في الإدارة عن القيام بواجباتهم، بل الأمر ينسحب عن الوزراء بإشاراته الصريحة، على نحو بات كل الوزراء المُبعدين موضع شبهة في حديثه. الإشارة بخصوص مثال انقطاع المياه، مع ربط ذلك بما ظهر من تباين بين خطاب الرئاسة المؤامراتي حول هذا المشكل مقابل ما ظهر تمسك وزير الفلاحة عبد المنعم بلعاني بتقديم عوامله الموضوعية أظهره للعموم كأحد أبرز الوزراء المقصودين. وهو وزير مميّز من زاوية أنه ضابط قائد في الجيش برتبة فريق وكان يشغل المتفقد العام للقوات المسلحة، وكان لافتًا مؤخرًا عدم حضوره في الزيارات الميدانية للرئيس للسدود. إبعاده من التركيبة الحكومية لم تلغ تواجد منتمين للمؤسسة العسكرية بعد تعيين مستشار الرئيس مصطفى الفرجاني وزيرًا للصحة، وهو الذي تمت ترقيته من رتبة فريق إلى فريق أول قبل يومين من التعديل الحكومي.

وإجمالًا بالعودة للكلمة الرئاسية، ظهرت الانتخابات، في هكذا سياق، مجرّد تفصيل هامشي. الرئيس قالها صراحة فلو كان الحاجة تستدعي تغييرات حكومية حتى بعد فتح صناديق الاقتراع فهو لن يتردّد في القيام بها. حديث "الأمن القومي فوق كل اعتبار" وربط ذلك بحديث عن تعطل في عمل دواليب الدولة، يذكّرنا باستدعاء ضمني لحالة استثناء كان تم تقديمها لتأسيس مخالفة دستور 2014. البلد دائمًا في وضع استثنائي في ظل خطاب مؤامراتي قوامه أن منظومة فاسدة ما تحارب الشعب التونسي، هكذا.

توجد خشية من أن الخطاب الرئاسي الأخير يزيد من تخويف الموظفين العموميين من التعبير عن آرائهم ودعم مرشح رئاسي غير الرئيس لأن ذلك يجعلهم موضع شبهة تآمر

تحدث الرئيس، في هذا الإطار، عن أن "المنظومة" التي يتحدث عنها استطاعت احتواء مسؤولين، على نحو يفترض طرح السؤال عن مفهوم الاحتواء، وعن كيفيته، وإن ما كان الأمر يتعلّق بممارسة مسؤولين لحريتهم في الاختيار السياسي في الزمن الانتخابي وهو حق لا غبار بشأنه، أو بوجود تآمر حقيقي عبر استعمال أدوات غير شرعية لتعطيل خدمة عمومية لتأجيج الأوضاع واستهداف الرئيس وهو الأمر المستبطن في الحديث الرئاسي. تآمر إن كان جديًا يستدعي وجود تتبعات ليست إدارية فحسب ولكن أيضًا جزائية على أساس قرائن جديّة وقاطعة، وليس مجرّد تخمينات قد يغذّيها بالخصوص أنصار الرئيس من هنا وهناك ضمن صراع حول النفوذ داخل الدولة. الحقيقة، توجد خشية من أن الخطاب الرئاسي الأخير يزيد من تخويف الموظفين العموميين من التعبير عن آرائهم ودعم مرشح رئاسي غير الرئيس لأن ذلك يجعلهم موضع شبهة تآمر. وما أكثر قضايا التآمر على أمن الدولة اليوم في البلاد.

والواقع حديث المؤامرة الرئاسي يأخذ أحيانًا بُعدًا هزليًا. توجه الرئيس إلى وزير تكنولوجيا الاتصال الجديد بالتعليمات التالية: "يجب مواجهة هذه الحرب المسعورة التي تدار من الخارج عن طريق ما يسمى بشبكات التواصل الاجتماعي والصفحات المأجورة والمدعومة". ليست أولوية الوزير العمل على مواكبة الثورة التكنولوجية الجديدة، فالرئيس أصلًا يعتبر الذكاء الاصطناعي هو "اغتيال للفكر البشري". بل المطلوب أن يكون الوزير شرطي إنترنت ضد من يراهم الرئيس يقودون "حربًا مسعورة من الخارج".

الحكومة الجديدة تزيد من إشاعة المخاوف أن الرئيس غير معني جديًا بالاستحقاق الرئاسي من زاوية أنّه من المفترض أن يكوّن الحكومة في صورة تجديد انتخابه، فهو يشكلها منذ الآن، وبالتالي تتصاعد مخاوف مراقبين أن نتيجة الانتخابات هي في حكم المحسومة

الحكومة الجديدة هي حكومة فرضها الأمن القومي ومواجهة تعطل دواليب الدولة حسب الرئيس وذلك قبل شهر ونصف من الانتخابات. ولكن في الحقيقة هي تزيد من إشاعة المخاوف أن الرئيس غير معني جديًا بالاستحقاق الرئاسي من زاوية أن الحكومة المفترض أن يكوّنها في صورة تجديد انتخابه فهو يشكلها منذ الآن، وبالتالي تتصاعد مخاوف مراقبين أن النتيجة يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول هي في حكم المحسومة.

هي انتخابات لا تظهر تنافسية بالشكل الذي كان مأمولًا بعد عدم قبول هيئة الانتخابات لعديد الترشحات يؤكد أصحابها على سلامة ملفاتهم في انتظار الموقف النهائي للمحكمة الإدارية. انتخابات تجمع الرئيس مع زهير المغزاوي الداعم لما يسمى مسار 25 جويلية/يوليو والمرشح المستقل العياشي زمال الذي وإن فلت من غربال قبول الترشحات فقد بدأ يواجه متاعب قضائية بدوره لا يُعرف بعد منتهاها. فتاريخ 6 أكتوبر/تشرين الأول هو تاريخ استكمال حرب التحرر الوطني بحسب الرئيس، هو ليس موعد تنافس سياسي بل موعد حرب بين فسطاطيْن. تونس التي كانت منارة للانتقال الديمقراطي وتنظيم انتخابات رئاسية تنافسية ونزيهة إلى حد بعيد، باتت بالنهاية اليوم في مواجهة مشهد غريب الأطوار عن دربها بعد الثورة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"