مقال رأي
تقول حنا أرندت في كتابها "أزمة الثقافة": "تصبح حرية الرأي مسخرة إذا كان الإخبار عن الوقائع غير مضمون... وإذا لم تكن الوقائع نفسها موضوعًا للنقاش". فما يميز المجتمع الديمقراطي ليس الحقيقة فقط ولكن أيضًا وخاصة التنوع، تنوع الآفاق التي ننظر منها إلى الواقع. نحن متعددون ومتنوعون نعيش في عالم مشترك ليس لأننا نشترك في النظرة نفسها للأشياء بل لأننا ننظر إلى الشيء ذاته من آفاق مختلفة. وعندما نصبح متماثلين في نظرتنا للأشياء نصبح، كما تقول أرندت، أعضاء لعائلة واحدة، الواحد منا امتدادٌ للآخر، وهذا التجانس هو مؤشر على مجتمع كلياني.
ما تزال تونس تتمايز في العالم العربي رغم الحالة الاستثنائية التي تعيشها والتي تم فيها حلّ البرلمان التونسي وتعليق الدستور واستئثار الرئيس التونسي قيس سعيّد بكل السلطات، بما يمكن أن نسميه "حرية الرأي العام"، أي بالإمكانات المتاحة للتونسيين جميعًا للتعبير عن آرائهم وإبداء مواقفهم إزاء القرارات التي يتخذها حاكم البلاد. وفي سياق حرية الرأي العام هذه تتشكّل دائمًا التأويلات المختلفة للأحداث لدى مناصري الرئيس. ولعل هذا الاختلاف في التأويلات هو ما يؤشّر على أن الحياة الديمقراطية لم تختفِ بعد تمامًا، رغم أن الكثير من الفاعلين السياسيين يعملون لتحقيق ذلك، بواسطة استراتيجيات الاستقطاب عبر تقسيم التونسيين بشكل يجعل منهم "طوائف" إيديولوجية متناحرة ومتباغضة، لا ترى بعضها البعض ولا تسمع بعضها البعض أو الاستثمار بالزعامة المشهدية وبالقيادة الحزبية الأبدية.
من الاستراتيجيات المتبعة لتقسيم التونسيين إلى طوائف متناحرة تزييف الوقائع والتلاعب بالأحداث والتضليل، ويهدف تزييف الوقائع إلى التلاعب وإفساد قدرة المواطنين على التفكير
ومن الاستراتيجيات أيضًا المتبعة لتقسيم التونسيين إلى طوائف متناحرة تزييف الوقائع والتلاعب بالأحداث والتضليل. يمثل الاختلاف في التأويلات والنظر إلى الوقائع في الحياة العامة من زاويا مختلفة ما يميز بما أنه مجتمع متنوع يكون فيه للأفراد الحق في التفكير بشكل مستقل عن الآخرين، دون الخضوع إلى سلطات عليا تفرض على الناس ما تشاء من الحجج. فالمجتمع الديمقراطي متعدد الأصوات Polyphonique ومتنوع الوجوه.
ويهدف تزييف الوقائع إلى التلاعب بهذا التنوع العفوي وبالتعدد الطبيعي إلى إفساد قدرة المواطنين على أن تكون لها القدرات على أن تتفكر العالم الذي تعيش فيه بشكل حر ومستقل ومتنور. في الأسبوع الأخير عاشت تونس منذ أيام على وقع عزل 57 قاضيًا وما لذلك من تداعيات ذلك على الحياة السياسية بل وعلى الحياة اليومية للتونسيين، بعد إعلان إضراب القضاة لأسبوع كامل. ولا شك أن التونسيين تعرضوا إلى سيول من المعلومات في الشبكات الاجتماعية وفي الصحافة وفي البرامج الإخبارية والحوارية متصلة بهذا الموضوع.
يقول رئيس حزب مساند للرئيس في برنامج تلفزيوني إن "القادة الجمعياتيين للقضاء ينشرون الأخبار الزائفة في حين تقول محللة سياسية (أو كرونيكوز) إن "عشرة قضاة على الأقل محل شكايات". وفي برنامج آخر تقول مقدمة البرنامج "على 55 قاضيًا الذين تم عزلهم "قلّك" ثم 5 بالحق على هوما ناس متعلقة بيهم تهم فساد" وردّ الضيف عليها "إنهم عشرة، وأنت تعرف أنهم قاموا بمصائب.. علينا أن نقول الحقيقة" ردت عليه مقدمة البرنامج "أوكي عشرة إذن...". في برنامج آخر نسمع "في القائمة هناك 45 قاضيًا وقاضية بلا ملفات منهم من هو مَضرب أمثال في النزاهة والاستقامة".
يبدو واضحًا هكذا أن هناك مشكل ما في المعطيات الموضوعية حول قائمة القضاة الذين تم عزلهم: هل تم فتح تحقيقات في شبهات الفساد المتصلة بهم، كم عدد الذين تم إعفاؤهم على قاعدة هذه الملفات؟ وهل صحيح أن البعض منهم (أو حتى الأغلبية) لا شبهات فساد تحوم حولهم وهل أن بعضهم مثال للنزاهة والاستقامة.
يتعرض داعمو الرئيس ومعارضوه يوميًا إلى معلومات وأخبار ينتقون منها ما يعزز آراءهم، بل إنهم يساهمون في نشرها حتى عندما تكون زائفة لا تقوم على معطيات موضوعية وينظرون بريبة إلى كل من يشكك أمامهم في صحتها
يثق بعض التونسيين ثقة عمياء في الرئيس وفي كل ما يقوم به ويعتقدون أنه يتصرف في كل الأحول لتطهير البلاد من "الأوباش" وإعادة بنائها بعد أن تم "تخريبها" طيلة العشرية الماضية وعلى التونسيين أن ينتظروا أن يقوم الرئيس بما يجب أن يقوم به، هؤلاء لا يحتاجون إلى أن يتأكدوا مما يقوله الرئيس. فهو على حق دائمًا.
قسم آخر من التونسيين يتعاملون بمنفعية ما مع الرئيس. فكل ما يقوله ويقوم به للتخلص من حركة النهضة ومن المتحالفين معها، "قوى الخراب" التي دمرت البلاد، لا يحتاج إلى تحر أو تمحيص أو إثبات. أما الصنف الثالث من التونسيين فهو معاد للرئيس، لا يثقون أبدًا في كل ما يقوله ويعتبرون ذلك في كل الأحوال مؤامرة على الديمقراطية وعلى الانتقال الديمقراطي، ولا شك أن هناك أعدادًا لا بأس بها من التونسيين لم تحسم بعد أمرها، مترددة ومحتارة.
يتعرض مناصرو الرئيس وأعداؤه يوميًا إلى المعلومات والأخبار وينتقون منها ما يعزز معتقداتهم وآراءهم، بل إنهم يساهمون في نشر هذه الأخبار والمعلومات حتى عندما تكون زائفة لا تقوم على معطيات موضوعية. وهم ينظرون بشك وريبة إلى كل من يتجرأ ويشكّك أمامهم في صحة المعلومات المتداولة عن فساد القضاة المعزولين أو عن براءتهم. ولا فائدة في النقاش معهم لأنهم سينتصرون دائمًا لأن طاقة اليقين التي تحركهم أقوى من طاقة العقلانية، يعتقدون أنهم على صواب وأن كل من يخالفهم الرأي على ضلالة: أغبياء لا يرفضون الحقيقة، حاقدون، انتهازيون.
تعمل قوى متعددة ومختلفة على "صناعة" رأي ما بقي من التونسيين خارج المناصرين والمعارضين بواسطة أساليب متعددة من المعلومات الزائفة ومن الدعاية والتزييف في مواقع التواصل الاجتماعي ولكن أيضًا خارجها. في الميديا حيث تحتل البرامج الإخبارية الحوارية مكانة أساسية (بحساب الزمن المخصص إليها) مقارنة بالمضامين الصحفية المحضة.
تعمل قوى متعددة ومختلفة على "صناعة" رأي ما بقي من التونسيين خارج المناصرين والمعارضين بواسطة أساليب متعددة من المعلومات الزائفة ومن الدعاية والتزييف
في هذه البرامج الإخبارية الحوارية تتمازج الصحافة بالاتصال السياسي وبالدعاية أحيانًا يظهر فيها باستمرار الفاعلون السياسيون وغيرهم من ممثلي الجمعيات والنقابات لعرض تأويلاتهم للأحداث بل للتلاعب بالوقائع نفسها. يشارك في هذه البرامج أيضًا معلقون بعضهم يعمل دون خجل على الترويج لهذه الروايات بل والانخراط في التلاعب بالوقائع بتزييفها.
إن المتأمل في الجدالات (وليس النقاشات) حول موضوع إعفاء القضاة يرى أن "الحقيقة" هي موضوع لاستراتيجيات متعددة، يعمل فاعلون متعددون على صناعتها والمتاجرة بها لأغراض إيديولوجية وسياسية أو حتى تجارية.
تزدهر في الشبكات الاجتماعية الروايات والتأويلات وتتنوع الوقائع. وفي المجموعات الرقمية (على فيسبوك) تكشف أن التونسيين يعيشون في عوالم تختلف عن بعضها البعض. لكل عالم أبطاله وأحداثه وأعداؤه وأخياره وأشراره وقائماته أيضًا من القضاة الفاسدين والنزهاء.
وفي هذه البيئة المسمومة ما تزال الصحافة التي جعلت من الحقيقة غايتها الأسمى عاجزة عن أداء رسالتها الأولى أي التحري والتحقيق في كل المعلومات التي يحتاجها التونسيون لإبداء رأيهم في الشؤون العامة، بسجنها في الوظيفة النقلية (في نشرات الأخبار) وتعطيل إمكاناتها في التحري.
تحول التلاعب بالحقيقة وحجبها استراتيجية معلومة لدى كل الفاعلين السياسيين، وهي الاستراتيجية الأهم منذ 2011 التي واظبوا على استخدامها حتى تشكل هذا الرأي العام المعادي لكل من يبحث عن الحقيقة
هكذا لا يتوفر لنا اليوم، نحن المواطنون، ما نحتاجه من معطيات دقيقة أساسية حتى ندرك ماذا يحصل في مؤسسة القضاء التونسي بما أنها مؤسسة أساسية تسهر على حق التونسيين في العدالة وحتى نتبيّن ما اتخذه الرئيس من قرارات في حق القضاة وحتى نتأكد من فسادهم أو من براءتهم.
لقد تحول التلاعب بالحقيقة وحجبها وتعطيل المؤسسات الساهرة على تأمينها للتونسيين، القضاء والصحافة، استراتيجية معلومة لدى الفاعلين السياسيين كلهم، وهي الاستراتيجية الأهم منذ 2011 التي واظب على استخدامها كل الفاعلين السياسيين حتى تشكل هذا الرأي العام المعادي لكل من يبحث عن الحقيقة: بدءًا بالصحافة نفسها التي يراد لهم أن تكتفي بالحدّ الأدنى من مهامها: النقل والتبليغ.
يمكن أن نقول إذن ونحن مقبلون على عملية الاستفتاء في الدستور، أن النقاش العام في السياق الذي يحكمه التزييف والتضليل والتلاعب بالحقيقة يكاد يتحول إلى مسخرة ما دام حق التونسيين في الحقيقة مهدورًا أو بما أن هدر حق التونسيين في الحقيقة استراتيجية الجميع في إدارة الشأن العام.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"