مقال رأي
لا شكّ أن الهدف الأساسي لكل خطاب سياسي هو إعطاء المعاني الخاصة وفرض المضامين الذاتية للكلمات. ربما لا تكون هذه الذاتية المفترضة بالغريبة في زمن الفردانية، حيث صار للكل تقريبًا معانيه الخاصة ومضامينه التي يدافع عنها، لكل فرد تقريبًا معناه الخاص للحرية، الوطن، الحب والانقلاب... فما يراه فرد ما، أو مجموعة من الأفراد، تسلطًا وظلمًا، قد يراه آخرون فرضًا للنظام ودفاعًا عن الدولة.
وإلى هذا الحد، قد يبدو الأمر مقبولًا ولو نسبيًا وبتحفظ، طالما ظل في مستوى الأفراد وفي مدار حرية الاختلاف. لكن مهما تمططت حدود هذا الاختلاف، لا يمكن قبول تناقضات من قبيل: عبد حر، إذ لا تبدأ الحرية إلا برفع صفة العبودية عن فرد ما، كما لا يمكن أن يكون نظام ما ديمقراطيًا، فيما تحتكر السلطة السياسية كل السلطات: التشريعية، القضائية والتنفيذية.
لا يغيب عن أي متابع للشأن العام، استدعاء سعيّد للرمزيات، سواء المعنوية والمادية، في كل خطاباته بدءًا بالتحضير المادي لها كالخطاب من الثكنات، ما يوحي بالمساندة الضمنية من طرف القيادات الحاملة للسلاح لمضمون الخطاب
في هذا السياق تعيش تونس، فضلًا عن الأزمة المركبة، على وقع الشعارات الجوفاء والرمزيات المغتصبة، وآخرها: الإعلان عن بداية مشاورات الحوار الوطني المزعوم من مقبرة.
لا يغيب على أي متابع للشأن العام، استدعاء قيس سعيّد للرمزيات في كل خطاباته السياسية، سواء المعنوية والمادية، بدءًا بالتحضير المادي لها كالخطاب من الثكنات العسكرية والأمنية، ما يوحي بالمساندة الضمنية من طرف القيادات الحاملة للسلاح لمضمون الخطاب، ثم تأثيث مثل خطابات عبر استدعاء رمزيات مختلفة كبغلة عمر، أو حكايات ألف وليلة، واستعارة العبرة من رسالة المعري في تعليقه على محاولة تمرير التحوير الوزاري دون أداء اليمين: "ستي إن أعياكِ أمري، فاحمليني زقفونة".
ولئن كانت أكثر هذه الرمزيات محل تندّر من الشارع التونسي، فقد وُظّفت كما يوظّف مشاهير الصدفة عامل الفرجة لمزيد إثارة أسمائهم، أي لا يهم إن ذُكروا بخير أو بشر، المهم هو تداول أسمائهم على أوسع مدى ممكن. بهذا، صار سعيّد مركز الحديث العام ومحل الأنظار والترقب.
في أطروحته التأسيسية للدعاية "كيفية التلاعب بالرأي في الديمقراطية"، وضع إدوارد بيرنيز، حفيد فرويد، أسس التلاعب والهيمنة الناعمة: " الذين يفهمون التركيبة الذهنية والمركبات الاجتماعية للجماهير، هم الذين يملكون التلاعب بالضمير-العقل العام" يمكن وصف بيرنيز بمكيافيل العصر، ووجه الشبه المؤكد أن كليهما لا يخفيان ذلك.
لئن كانت أكثر الرمزيات التي يعتمدها سعيّد محل تندّر من الشارع التونسي، فقد وُظّفت كما يوظّف مشاهير الصدفة عامل الفرجة لمزيد إثارة أسمائهم. بهذا، صار سعيّد مركز الحديث العام ومحل الأنظار والترقب
أما عن التركيبة الذهنية لمجتمع كالذي نعيشه، فقد تعرضت لها المنظرة السياسية الأميركية حنا أرندت في أكثر من نص: "عن العنف (1969)"، "عن الثورة (1963)" و"أصول التسلطية (1951)"... حيث كتبت: "في عالم دائم التغير وغير مفهوم، بلغت الجماهير حد قبول تصديق وتكذيب كل شيء، والإيمان بأن كل شيء ممكن ولا شيء صحيح في ذات الوقت. أوضحت الدعاية الكمية أن الحشود كانت دومًا قابلة لتصديق الأسوء بغض النظر عن سخافته، ولم تعترض على خيبة الأمل لأنها كان متقبلة أن الخطاب كان كذبة على كل حال. بنى قادة الحشود الشموليين دعايتهم على مقاربة نفسية صحيحة، وهي أن القائد قادر على جعل الحشود تصدق أكثر الخطب حماسة وروعة، وإذا ما اكتشفت هذه الجماهير في اليوم الموالي زيف وخداع القائد، فستلجأ، بدل الإيقاع به، إلى السخرية والتندر كونها تعلم منذ البداية أن كل كلمة كانت كذبة، وسوف يبدون إعجابهم في ذات الوقت بتفوق الذكاء التكتيكي لقائدهم". أي سكيزوفرينيا بعد هذه؟
يدرك سعيّد حالة الفصام الجماعي التي يعيشها المجتمع، وتيه الهوية الذي سبق أن وظفته عدة حركات إيديولوجية قبله، فيعمد ككل شعبويّ إلى مخاطبة المشاعر الحزينة القابعة تحت دهور من الخيبات: تمثل للقوة ووعود بالنصر من خلال استحضار المعجم الحربي بقوة.
رمزيات أخرى مختلفة يوظفها سعيّد، لاعبًا على الأطراف الرقيقة للإيديولوجيات والثقافات الحاضرة في المجتمع: مرة من خلال التحدث باللغة الفرنسية، مخاطبًا الجالية التونسية بتونس كما قال أولاد حمد، ومرة باستعمال آيات قرآنية تقع في مدار الجهاد والحرب مراودًا السلفيين التائبين ممن حلموا يومًا بالخلافة، وتارة أخرى يقفز نحو الدارجة والأمثال الشعبية عندما يريد السخرية والتندر وتقزيم خصومه.
يدرك سعيّد حالة الفصام الجماعي التي يعيشها المجتمع، وتيه الهوية الذي سبق أن وظفته عدة حركات إيديولوجية قبله، فيعمد ككل شعبويّ إلى مخاطبة المشاعر الحزينة القابعة تحت دهور من الخيبات
هي مزيج فسيفسائي لشعبوية تائهة هي الأخرى خاوية من المضامين البناءة، عكس الشعبويات التي بنيت على رؤى وتصورات براغماتية وواقعية، كاليسارية التي نظّر لها المنظر الأرجنتيني أرنستو لاكلو وزوجته شانتال موف وتتحسس الخطى بيدي اليساريين الجدد في إسبانيا والشيلي، أو كاليمينية المحافظة، على غرار شعبوية أردوغان في تركيا ومودي في الهند.
ليس غريبًا خواء شعبوية أستاذ القانون الذي فعل بالقانون، والجمهورية ومؤسساتها، كما لم يفعل هولاكو ببغداد. فهو أحد تعبيرات الجامعة التونسية في مرحلة أولى، وبالمناسبة هو أول رئيس من صلب الجامعة، التي تعاني شللًا أكاديميًا في المحتوى والنوع، وصارت بمثابة مراكز التكوين الحرفي للصنائع بدل أن تكون منارات التفكير. وفي مرحلة ثانية، هو أوضح تمخّض عن مجتمع يعاني بشكل واسع فقر المعاني وهبوط القيمة، وما هي الفترة الحالكة التي تعيشها البلاد، إلا الحلقة الأخيرة من سلسلة الفشل المتواصلة منذ عقود.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"