29-أكتوبر-2022
تونس

تمظهرات أزمة جدية في التوازنات الدولية العامة بما يمكن أن يعرض السلم الدولي إلى الخطر (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

نغرق أحيانًا في شأننا المحلي الصغير كأننا جزيرة معزولة. نغرق في شعورنا النرجسي الأصيل أننا مركز هذا العالم. بقدر ما هي البلد في قلب التقاطعات الدولية، في قلب المكان المتوسطي، في قلب التاريخ الحضاري طويل الأمد، بقدر ما هي نقطة في بحر جيوسياسي متلاطم الأمواج.

سنحاول هنا الخروج من قيود الخصوصية، قيس سعيّد، وانتخاباته وأحلامه حول النظام القاعدي "غير المسبوق"، ونوستاليجيا الستينيات، ثم الأشياء الأخرى مثل عجز الميزانية واتفاق الصندوق، ومعارك "السياسة" الصغيرة، معارك التموقع الوهمي.. والنظر إلى أنفسنا وسط مفترق الطرق التاريخي الذي يمر به العالم: التصدع العالمي الكبير في الجيوبوليتيك والاقتصاد والصراع الاجتماعي والديموغرافيا والطبيعة المناخية والتكنولوجيا واللوجيستيك والأنظمة السياسية بما يحمله من إمكانيات أزمة وفرص حلول.

تونس الآن هي تفصيل في مسار دولي معقد يستوجب انتباهًا مركزًا ويستوجب أن نتهيأ إلى العاصفة الضخمة القادمة

لا شك أن هناك سياق خاص، تجربة انتقال ديمقراطي معطبة، فشلت في اقتراح رؤية للإصلاح وفي تقديم حصيلة اقتصادية واجتماعية ولم تستطع التأسيس لديمقراطية جدية، شوهتها بتوافقات شكلية وأولوية التموقع على الإصلاح جعلت مسار ثورة مميزة مسارًا مغتربًا ومهمشًا، فرصة فرطنا فيها وسط السياسة الصغيرة الكلاسيكية وقصور الخيال السياسي.

 

 

لم يكن صعود الشعبويات "حادث طريق" ونتيجة "أخطاء تكتيكية". كان نتيجة خطيئة أصلية: احتقار جدية الفرصة التونسية أن تكون نموذجًا ديمقراطيًا في العمق، أي ثورة في السياسة والإصلاح الاقتصادي الاجتماعي.

مع كل الأهمية التاريخية الاستثنائية وفرصة 2011 التي لم نقدرها حق قدرها، حيث وجدنا أنفسنا في صدر منصة التاريخ الإنساني العميق، فرطنا في فرصة المساهمة في صناعة التاريخ واستخراج "الجديد"، مع كل ذلك، تونس الآن هي تفصيل في مسار دولي معقد يستوجب انتباهًا مركزًا. يستوجب أن نتهيأ إلى العاصفة الضخمة القادمة. أي عاصفة؟! حسنًا لنفصل في الأمر.

فرصة 2011 لم نقدرها حق قدرها في تونس، حين وجدنا أنفسنا في صدر منصة التاريخ الإنساني العميق، حينها فرطنا في فرصة المساهمة في صناعة التاريخ واستخراج "الجديد"

 

 

سأنطلق ربما بأكثر ملخص عميق للتحول التاريخي الكبير أو التصدع (disruption) الضخم الذي يقدم عليه العالم. نورييل روبيني (Nouriel Roubini) أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك، "الدكتور هلاك" مثلما يسميه البعض بسبب تنبؤه بالمصائب، من القلائل جدًا الذين توقعوا الأزمة العالمية سنة 2008، نشر هذا الشهر كتابًا أصبح بسرعة مرجعيًا: "المخاطر الضخمة" (Megathreats)، الصادر هذا الشهر. يحصرها في عشرة ومن أهمها:

  • أزمة دين غير مسبوقة بما في ذلك في الاقتصاديات المتقدمة سماها روبيني "أم كل أزمات الدين"، وستكون "غير مسبوقة" مثلما يقول وتأثيرها مضاعف بسبب وضع "الركود-التضخم" (stagflation)، أيضًا تهديد "الركود-التضخم" يبدو مستديمًا في ذاته بسبب أزمة الدين وبقية المخاطر الأخرى
  • ما يسميه بـ"القنبلة الديموغرافية الموقوتة" وهنا المطروح هو تهرم مجتمعات "الاقتصاديات المتقدمة" و"الليبرالية" و"الديمقراطية" مقابل شباب المجتمعات الحاملة لحكم أتوقراطي أو قيم غير متطابقة مع المنظومة الليبرالية الغربية
  • الحرب الباردة الجديدة لكن بأفق لا يحمل وضوحًا في قواعد اللعبة ويبلغ مستوى إيديولوجيًا دينيًا خاصة في الطرح الروسي، بما يفسر نوعًا من الهشاشة في وضوح الخطط الحمر "النووية" التي كانت واضحة في الحرب الباردة السابقة. والأهم هنا "الانفصال" (decoupling) بين واشنطن وبيكين ليس فقط من حيث المطامح الأمنية والعسكرية (خاصة قضية تايوان) بل أيضًا اقتصاديًا
  • قوة الدولار المضر ببقية العملات والتي تجعل أي دفاع أمريكي على الاقتصاد المحلي عاملًا يضعف العملات الأخرى بما فيها للمجالات الصديقة لواشنطن (اليورو واليان الياباني)
  • بلقنة شبكات الإمداد خاصة بعد أزمة الكوفيد والاتجاه المضاد للعولمة أو تفكيك العولمة (deglobalization) والذي يراه روبيني تهديدًا وجوديًا للراسمالية المعولمة
  • الموجات الشعبوية من "اليمين واليسار" التي تمثل تهديدًا لليبرالية الديمقراطية التقليدية
  • تفاقم أزمات الطبيعة (الاحتباس الحراري) والأوبئة بما يعمق بقية المخاطر، وأحيانًا ربما بشكل لم يعد من الممكن إصلاحه (خاصة في علاقة بالتغيرات المناخية).

التسلح بأكبر مقدار  من الصبر والتلاحم الداخلي وحده سيجعلنا ننجو من تهديدات جدية للسلم الأهلي، العاصفة الدولية التي نشهد بوادرها الأولية فقط الآن ليست وهمًا بل هي خطر حقيقي

في الحقيقة "نذر الشؤم" التي يركز عليها روبيني تعكس قلقًا غربيًا عميقًا لكن أيضًا هي إحدى تمظهرات أزمة جدية في التوازنات الدولية العامة بما يمكن أن يعرض السلم الدولي إلى الخطر. موضوع "التصدع" العظيم ليس جديدًا. تحدث عنه فوكوياما من زاوية ثقافية في أحد مؤلفاته آخر التسعينيات، لكن ما يشد انتباهي خاصة مؤلفات ومداخلات طوني صابا (Tony Saba) والتي ترى "التصدع" كأحد الملامح المتكررة في دورات التاريخ وليس كمؤشر سلبي.

في تونس ربما يرى الرئيس تصدعه الخاص بمعناه الإيجابي "الانفجاري". لكن تونس ليست مركز العالم بمعاني موازين القوى وقوة الأفكار رغم كل أمنيات الرئيس. التسلح بأكبر مقدار  من الصبر والتلاحم الداخلي وحده سيجعلنا ننجو من تهديدات جدية للسلم الأهلي، إذ أن العاصفة الدولية التي نشهد بوادرها الأولية فقط الآن ليست وهمًا أو إشاعة. هي خطر حقيقي.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"