مقال رأي
من الصعب أن نجد لحظة مماثلة للوضع الراهن، من حيث تواجد تونس في قلب شد وجذب دولي بهذه الأهمية، في قلب الرحى الجيوسياسي دوليًا، على الرادار الدولي بهذا القدر، باستثناء ربما لحظة الثورة في 2011.
من روما إلى بروكسال إلى واشنطن فالجزائر، تونس وتحديدًا ملف قرض صندوق النقد على طاولة المباحثات الدولية والمحاور والضغط واللوبيينغ، وليس سرًا بل علنًا وعلى الملأ
من روما إلى بروكسال إلى واشنطن فالجزائر، تونس وتحديدًا ملف قرض صندوق النقد الدولي على طاولة المباحثات الدولية والمحاور والضغط واللوبيينغ، وليس سرًا بل علنًا وعلى الملأ. لا شك أن الحكومة الإيطالية في قلب هذه العملية، لكن واشنطن على الخط كذلك وأيضًا الجزائر، ويبقى السؤال هل أن ما يحصل ضغط أم "لوبيينغ" أم خليط من الاثنين؟
كان أسبوعًا مليئًا بـ"انهيار وشيك في تونس، سينجر عنه انفلات الهجرة غير النظامية ولهذا يجب توقيع اتفاق صندوق النقد حالاً". هذه الفكرة تم تبنيها بشكل عام في العواصم الغربية وترديدها بشكل واسع. قائدة الأوركسترا كانت السلطات الإيطالية وخاصة رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني، التي أصبح هذا الملف مركزيًا لديها إلى حد وصف صحيفة "الفوليو" الإيطالية بأنها أضحت "هاجسًا" (obsession).
جورجيا ميلوني أصبحت هذا الأسبوع قاطرة "لوبيينغ" لمصلحة الرئيس التونسي قيس سعيّد ومن ثمة الدولة التونسية، شرقًا وغربًا، من دبي إلى قطر إلى تل أبيب مرورًا ببروكسال ثم إلى واشنطن الدولة ولكن أيضًا حتى أبسط موظفي صندوق النقد من الجنسية الإيطالية. "ماكينة" حقيقية.
جورجيا ميلوني أصبحت هذا الأسبوع قاطرة "لوبيينغ" لمصلحة قيس سعيّد ومن ثمة الدولة التونسية، شرقًا وغربًا
ربما أوضح تصريحات إيطالية وأهمها هي التي صدرت آخر هذا الأسبوع من قبل وزير الخارجية الإيطالي تاياني حين أعلن: "لقد تقدمت باقتراح خلال اجتماع مجلس الشؤون الخارجية الأوروبي، يتمثل بـ”البدء بتقديم المساعدة لتونس، فدعونا ندفعها لإجراء الإصلاحات، ولنمنحها 300 مليون يورو على الفور، ثم بعد أن نتحقق من الإصلاحات، نعطيها 300 مليون أخرى، ثم 300 أخرى”.
ذلك مهم للغاية إذ أنه يشمل نقطتين أساسيتين: الأولى أنه وحتى "اللوبيينغ" الإيطالي فهو مشروط بالإصلاحات المضمنة في اتفاق الخبراء ومن ثمة ما يقوم به الإيطاليون هو "لوبيينغ" مع ضغط على الطرف التونسي. والنقطة الثانية أن إيطاليا تدفع نحو ملء فراغ التمويل الثنائي المالي خاصة من قبل دول الخليج وتعويضه بتمويل أوروبي جزئيًا على الأقل، وهو الشرط الآخر لصندوق النقد.
"اللوبيينغ" الإيطالي مشروط بالإصلاحات المضمنة في اتفاق الخبراء ومن ثمة ما يقوم به الإيطاليون هو "لوبيينغ" مع ضغط على الطرف التونسي
المسألة الأخرى، هي إشارة تاياني إلى أن دعمهم لقيس سعيّد هو أيضًا للوقوف أمام أي بديل إسلامي: “لا يمكننا إضاعة الوقت، وإلا فإننا نجازف بمحاباة الإخوان المسلمين”. وأوضح "من الضروري أن لا نقلل من شأن المخاطر، فعلينا واجب مساعدة تونس”، التي “ينبغي عليها أن تجري الإصلاحات في الوقت نفسه”.
اللوبيينغ الإيطالي متأت طبعًا من منسوب القلق الإيطالي الأكبر من أي طرف غربي آخر في علاقة بالهجرة غير النظامية، كما هو معلوم، وأيضًا من عوامل أخرى من أهمها التناغم المتزايد على الأقل في الخطاب تجاه الهجرة مع قيس سعيّد، ليس في خصوص الجمل العنصرية بقدر ما هو في السياسات العامة، خاصة التوجه نحو الطرد في خصوص المهاجرين غير النظاميين كخطوة أساسية للعب دور جدار الصد الأول.
التناغم والتداخل بين تونس وإيطاليا وصل حتى لمستوى اقتراح سياسة التأشيرات التونسية. مثلما هو واضح في تصريحات وزير الخارجية الإيطالي أمام لجنتي الخارجية في مجلسي الشيوخ والنواب الإيطاليين أنه أوضح لنظرائه الأوروبيين "سهولة اختراق الحدود التونسية"، مبرزًا حاجة تونس لطلب تأشيرة دخول للقادمين من ساحل العاج ودول إفريقيا جنوب الصحراء.
إيطاليا أيضًا في حلف استراتيجي طاقيًا وإقليميًا مع جزائر تبون، الحليف الأقرب للرئيس قيس سعيّد
إيطاليا أيضًا في حلف استراتيجي طاقيًا وإقليميًا مع جزائر تبون، الحليف الأقرب للرئيس قيس سعيّد. للتذكير الرئيس الجزائري اعتبر في حواره الأخير على قناة الجزيرة أن "هناك مؤامرة على تونس" ملمحًا إلى دور مغربي فيها، وأنه يدعم سعيّد "أحب من أحب وكره من كره".
في كل الحالات، خلقت إيطاليا حالة استنفار أوروبية تجسمت في اجتماع مجلس أوروبا منذ أسبوع الذي جمع ممثلي الحكومات وفرضت عمليًا نقطة تونس في جدول الأعمال. وتمددت آثار حالة الاستنفار الإيطالية إلى الجانب الأمريكي، بدءًا من مكالمة سكرتير وزارة الخارجية الإيطالي Riccardo Guariglia مع نائبة وزيرة الخارجية الأمريكية Wendy Sherman يوم 17 مارس/آذار الماضي، والتي أشارت بوضوح إلى توافق على الانتباه لخطورة الوضع المالي في تونس.
يبدو الطرف الأمريكي أقل تسامحًا ربما من الطرف الإيطالي تجاه قيس سعيّد، لكن هناك حتى الآن على الأقل إجماع على أن تونس يجب أن تنفذ الإصلاحات التي التزمت بها
وهو ما تكرر في حديث وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في جلسة استماع الكونغرس مع إشارة واضحة لضرورة عقد اتفاق صندوق النقد وربطه بتنفيذ الإصلاحات، وربط كل ذلك بخطورة انفلات الهجرة غير النظامية. ثم كانت التصريحات الأهم بعد زيارة باربارا ليف، نائبة وزير الخارجية الأمريكي، إلى تونس يوم الخميس الماضي، والتي تحدثت فيها خاصة عن أن قرار تونس بتنفيذ الإصلاحات التي اقترحتها على صندوق النقد الدولي "قرار سيادي.. وإن قرروا ألا يفعلوا ذلك، فنحن حريصون على معرفة ما هي الخطة "ب" أو الخطة "ج"".
يبدو الطرف الأمريكي أقل تسامحًا ربما من الطرف الإيطالي تجاه قيس سعيّد، لكن هناك حتى الآن على الأقل إجماع على أن تونس يجب أن تنفذ الإصلاحات التي التزمت بها. حتى الأطراف الخليجية تبدو مترددة حتى الآن، وهو ما يبدو واضحًا في تكرر المكالمات الهاتفية بين الرئيس التونسي وأمير دولة قطر، وهو ما يشير إلى تردد قطري في التمويل الثنائي الذي يقدره موقع "البورصة" الإخباري التونسي بقيمة 500 مليون دولار.
هل لسعيّد خطة "ب"، أم أنه ببساطة يبحث عن تكتيك حافة الهاوية، بمعنى إما أن تقبلوا بشروطي أو تنهار المالية العمومية وينفتح تمامًا باب الهجرة غير النظامية
السؤال الأكبر هنا: هل لسعيّد خطة "ب"، أم أنه ببساطة يبحث عن تكتيك حافة الهاوية، بمعنى إما أن تقبلوا بشروطي أو تنهار المالية العمومية وينفتح تمامًا باب الهجرة غير النظامية.
في المقابل سيتوضح اتجاه الريح الغربية عندما ستقوم رئيسة الوزراء الإيطالية بزيارتها المرتقبة إلى تونس والتي ستحمل معها على الأرجح حزمة الشروط الدقيقة التي يجب على السلطات التونسية تنفيذها وستمثل على الأرجح في ذلك موقفًا أوروبيًا موحدًا، حيث أن التوافق الإيطالي الفرنسي بعد اللقاء الأخير بين ماكرون وميلوني هو دليل على أن روما لم تعد تتكلم بمفردها بل بشكل متناغم مع البقية خاصة الغريمة باريس.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"