15-سبتمبر-2015

يمثل مشروع قانون المصالحة الذي قدّمه السبسي أعلى درجات ممارسة الفساد (فرانس برس)

مقال رأي 

 

حامي البلاد "حرامي"، ومن يدّعي مكافحة الفساد فاسد، لذلك نقول إنه زمن الانقلاب، انقلاب في المواقع وانقلاب في المعاني. فرئيس تونس الباجي قايد السّبسي يفعل حاليًا ما تأتيه مومس في الليل وتحاضر عن الشّرف في النهار. ولعلّ مشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي قدّمه ليس إلا الشاهد الأخير عن مدى تمثّل السبسي كحام لبارونات الفساد في البلاد ومدافع عن مصالحهم، وهو بصدد إنقاذ رجال الأعمال الفاسدين، وهو منهم طبعًا وبالتالي فهو ينقذ نفسه كذلك.

تورّط السبسي في قضية فساد تتعلّق بإفلات شركة علي ملك، أحد أصهار بن علي، من المصادرة

حكايات السّبسي مع الفساد يطول فيها الحديث. الرّجل لم يكن معروفًا لدى الجيل الحالي فآخر منصب تولّاه كان رئيسًا لبرلمان بن علي قبل 25 سنة، ثم إثر هروب بن علي في 2011، استقدمه رئيس البرلمان المبزّع من الصفوف الخلفية ليتولّى رئاسة الحكومة الانتقالية. في السنة الأولى للثورة، حاول بكل ما أمكن كبح جماح رياح الثورة والتغيير عبر تعيينه لوزراء لم يكونوا من المتحمّسين للرياح الجارية، ولم يسع هو لمجاراة الرياح ومستلزماتها كما يُستوجب ذلك. 

أثناء رئاسته لهذه الحكومة الانتقالية لبضع أشهر، تورّط السبسي في قضية فساد شهيرة تناولها الموقع الاستقصائي "نواة". وتتعلّق القضية بإفلات شركة علي ملك أحد أصهار بن علي من المصادرة، بل وتمّ بيع أسهمها لشركة أخرى ممثّلها القانوني هو صلاح الدين السبسي شقيق الباجي وشريكه في مكتب المحاماة "قايد السبسي وشركاؤه". وعنوانها هو مكتب المحاماة نفسه. وتمّت العملية حينما كان السبسي رئيسًا للحكومة كما تمت إجازة عملية البيع من لجنة حكومية وهو ما يكشف عن تضارب مصالح صارخ واستغلال نفوذ من السبسي، رئيس الحكومة ومستشار شركة المحاماة للشركة المُحال إليها في نفس الوقت. أليس "حاميها حراميها"؟

وأثناء الحملة الانتخابية الرئاسية قبل سنة تقريبا، رفض السبسي نشر ممتلكاته للعموم، على عكس ما قام به الرّئيس السابق والمرشّح المنصف المرزوقي حينما قدّم جردًا لممتلكاته ونشره. ولا نعلم امتناع السبسي عن فعل ذلك هو خشية من الحسد أم خشية من كشف المستور. رفض السبسي كذلك المشاركة في مناظرة تلفزية مباشرة مع المرشح المرزوقي رغم كل الدعوات الشعبية والمبادرات الإعلامية، ربما لأنه لن يقدر على الإجابة على عديد الأسئلة ويفتضح أمر الكثير، ثمّ إن الرّجل تعوّد على الأسئلة الجاهزة والمعدّة مسبقًا. في هذا السياق، نستذكر حادثة مغادرة إبراهيم محلب رئيس الوزراء المصري المستقيل ندوة صحفية مع نظيره التونسي الأسبوع الماضي بسبب سؤال حول تورّطه في قضية فساد. وهذا هو الأصل المشترك بين الفاسدين، لا يُنتظر منهم مُحاولة للإجابة أو مجهودا لتقديم إجابة منمّقة، المهمّة شاقّة فعلًا لذا فالانسحاب هو دائمًا الخيار الأقل خطورة.

و"حاميها حراميها" لا تقتصر على شخص السبسي فقط، بل تمتدّ لقيادات حزبه وهنا القائمة بالعشرات على الأقل. فوزير المالية سليم شاكر تحوم حوله شبهة فساد مالي وتلاعب بالمال العام هي موضوع دعوى محلّ تتبّع من القطب القضائي المالي. وفي البرلمان، يتولّى رئاسة لجنة الطاقة النائب عن حزب نداء تونس المنصف السلامي وقد ورد اسمه في قائمة رجال الأعمال الذين تخلّفوا على سداد ديونهم للبنوك العمومية التي تعاني عجزا. وحسب تقرير لمنظمة "آي ووتش"، تبلغ الديون غير المستخلصة للسلامي 41 مليون دينار/ 20 مليون دولار. وفي نفس السياق، لم يقّدم بعد عدد هامّ من نواب البرلمان، رجال الأعمال تحديدًا، جردا لممتلكاتهم مثلما يستلزم القانون. الحديث عن الفساد في حزب السبسي، الواجهة الحزبية لمنظومة بن علي، كما الحديث عن رائحة كريهة مصدرها قمامة.

لا تقتصر عبارة "حاميها حراميها" على شخص السبسي فقط، بل تمتدّ لقيادات حزبه

ويمثل مشروع قانون المصالحة الذي قدّمه السبسي للبرلمان قبل شهرين أعلى درجات ممارسة الفساد في إطار ظاهره شرعي. يستهدف القانون تحقيق المصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين رغم وجود قانون خاص وهيئة مكلّفة بذلك في إطار العدالة الانتقالية. يقترح الباجي في قانونه اصدار عفو على موظفي الدولة الذين تورطوا في قضايا اعتداء على المال العام وبذلك فهو يكرس ثقافة الإفلات من العقاب. ويقترح أن تكون لجنة المصالحة حكومية بامتياز بما يعزّز فرص تضارب المصالح، فمثلًا وزير المالية المتورّط في قضية فساد سيكون ممثلًا في هذه اللجنة. عمليا، غالبية رجال الأعمال المتورّطين في قضايا فساد هم من ممولّي حزب السبسي ومن داعميه في حملته الانتخابية لذلك يتجلى هذا المشروع وضوحا كمشروع حماية "لجان الأحباء" من طبقة رجال الأعمال.

مشروع السبسي يتعارض تمامًا ومقتضيات الشفافية والقطع مع الفساد. يشير البنك الدولي في أحد تقاريره حول الفساد في عهد بن علي إلى أن "التشريعات والإجراءات التنظيمية نفسها قد وقع تعديلها في الواقع لتتماشى مع المصالح الشخصية والفساد". ويضيف "إن الامتيازات والأرباح المرتبطة بالنظام الحالي قد تغلغلت بشكل عميق وستعترض تلك اللوبيات بقوة ضد اية تغييرات تؤدي إلى الغاء امتيازاتهم ". يبدو إن هذين الخلاصتين التي أصدرهما البنك الدولي كاشفتان بشكل بيّن عن مدى تطويع القانون لخدمة المصالح الشخصية واللوبيات التي حاولت وما زالت تحاول صدّ رياح الثورة وغير قادرة على التفاعل مع مستلزماتها. الصورة كما في عهد بن علي والسّبسي يمارس نفس الدّور.

في كتابه حول الرئيس السابق بورقيبة، خصّص السّبسي فصلًا كاملًا حول علاقة بورقيبة بالمال وقال إنه لم يكن مهتمًّا بتكوين ثروة ولم يتورّط في أي قضية فساد وغادر السلطة دون غنائم مالية وهو أمر يتفق فيه فعلًا مؤيدو بورقيبة ومعارضيه. في المقابل، ممّا لا شكّ فيه سيُقدم أحدهم على تقديم كتاب حول السّبسي، وممّا لا شكّ فيه سيخصّص فصلًا عن علاقته بالمال، وممّا لا شكّ فيه كذلك أنه سيُذكر فيه بأن السبسي هو أقرب لبن علي منه إلى بورقيبة في علاقة بالفساد.

يبدو أن الباجي قائد السبسي لا يزال يمارس المهنة التي كان يقوم بها جدّه الذي كان عبدًا مملوكًا تم أسره في صقلية وجلبه لتونس، وأوكلت إليه حينها مهمة إعداد دخان النرجيلة للباي (السبسي باللهجة التونسية) الذي بات لقبا للعائلة. يبدو أن الباجي لا زال يمارس مهنة أجداده تلك بما أنه يعد قوانين تشرعن الفساد وتشجعه على طبق من ذهب لحماية رجال الأعمال ليكيّفهم كما يشتهون ويبغون. هو الآن عمليًا في مرحلة "رصّ السّبسي"، لم تبدأ بعد عملية الاستنشاق التي تعمل مختلف القوى السياسية والمدنية على صدّها صيانة للدستور وحماية لمسار الثورة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"