"جادك الغيث إذا الغيث همى *** يا زمان الوصل بالأندلس".. من موشحة ابن الخطيب
لم يتعرض مؤرخو الهجرة الموريسكية، التي امتدت لثلاثة قرون وعرفت أوجها في القرن السابع عشر إلى تفاصيل وجزئيات الآلام النفسية والوجدانية التي شعر بها آلاف المهجّرين من مسلمين ويهود عزّل وهم يركبون قسرًا زوارق متداعية وبأشرعة بالية في مشاهد شبيهة بما يحدث في زمننا اليوم من مغامرات في اتجاه الضفة الشمالية للمتوسط نشدانًا لحياة هانئة سالمة، وذلك بعد تعسفّ وترهيب يسمّيه مؤرخو تلك الحقبة "باللاريكونكيستّا"، وهو مطالبة العرب المنهزمين بالتحوّل الديني من قبل القوميين والمتشددين الإسبانيين الذين سيطروا بالكامل على الممالك الأندلسية العربية الإسلامية التي سادت لما يقارب الثمانية قرون من الزمن.
تعدّ تستور الأشهر والأكثر ذيوعًا من باقي القرى الأخرى من حيث أصول أهلها الموريسيكية، بل هناك من يعتبرها عاصمة المورسكيين في تونس
لم يكن البحر هادئًا أيام قطع العباب. لقد كانت الأمواج تنثر زخّاتها على وجوه النساء والأطفال لتختلط بحبات الدموع المنسكبة على الخدود. لقد بدأت الديار تبعد عن العيون الشاخصة وبدأ النأي القاسي، وبدأت حدائق الذكرى في التشكل لتوّها، وقد قيل إن البحر ازداد ملوحة من فرط البكاء الصامت للمهجّرين. وكانت عيون الرجال تودع ضفاف الأندلس بأسى وشجاعة.
اقرأ/ي أيضًا: مكثر.. هل تبقى المعالم الأثرية شاهدة على حضارات مرت من هنا؟
أنت في الطريق إلى تستور تمرّ بمدينة مجاز الباب في اتجاه ولايتي باجة والكاف، تلمحها من بعيد كخال على خدّ أميرة
وكلّما توغّلت الزوارق والمراكب إلا وتحسّس البعض مفاتيح منازلهم في غرناطة وإشبيلية وطليطلة ومالقة وبلنسية وقشتالة. إنه الرّحيل الكبير فرارًا من "محاكم التفتيش" التي أقامها الإسبان بعد سقوط غرناطة آخر مملكة عربية مسلمة في شبه الجزيرة الإيبيرية سنة 1492. لقد وقف الأمير أبو عبد الله محمد مذهولًا على شرفات قصر الحمراء لم يصدق ما حصل من خسارة جيشه في معارك "كوفادونجا". وتذكر كتب التاريخ الإسبانية أنه في تلك الوقفة كان يبكي بكاء مرًّا حتى أنّ أمه قالت له قولتها الشهيرة والقاسية "إبك كالنّساء ملكًا لم تحافظ عليه كالرجال".
وأنت تتجول في تستور تنجذب من حيث لا تشعر إلى أزقتها الصغيرة وواجهات منازلها المتقشفة الجمال ودكاكينها الصغيرة المتراصة
توزعت زوارق ومراكب المورسكيين الفارّين من جحيم المتشددين الإسبان على شواطئ شمال إفريقيا. ورست بتونس في أواخر العهد الحفصي وبداية الحكم العثماني، وبشكل متقطع في الزمن، عشرات المراكب الحاملة لآلاف المهجّرين فاستقبلهم التونسيون بكل حبّ وتضامن ومنحهم عثمان داي حريّة إنشاء قرى وأحياء خاصة بهم فتوزعوا على ما سمي فيما بعد بـ"الطريق الموريسكي" الذي يمتد من المدينة العتيقة لحاضرة تونس التي أسسها الحفصيون، مرورًا بقلعة الأندلس والعالية ورفراف من ولاية بنزرت ومجاز الباب والسلوقية وتستور من ولاية باجة وصواف والزريبة من ولاية زغوان، وصولًا إلى سليمان من ولاية نابل. وهنا يقول المؤرخ أحمد بن أبي ضياف في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان": "قدمت وفود الأندلس فارّين بدينهم فأحسن عثمان داي قراهم وأنس غربتهم وعظّم مقدّسهم وأقطعهم ما اختاروا من أرض" .
لكن تعدّ تستور الأشهر والأكثر ذيوعًا من باقي القرى الأخرى، بل هناك من يعتبرها عاصمة المورسكيين في تونس.
بتستور معالم أندلسية عديدة تنتشر بالمدينة العتيقة التي بدأت تفقد بعض ملامحها جراء زحف البناءات العصرية لعل أشهرها زاوية سيدي نصر القرواشي
وأنت في الطريق إليها تمرّ بمدينة مجاز الباب في اتجاه ولايتي باجة والكاف تلمحها من بعيد كخال على خدّ أميرة. إنّها تستور متوسّدة للضفة الغربية للوادي الكبير، لقد كان "مجردة" بداية الحنين إلى أرض الأندلس المفقودة ووجهًا من وجوه الرثاء الأخير ووردًا من أوراد التذكار لمدائن الأرجوان.
الجماعة الموريسكية الوافدة اختارت هذا المكان القديم الذي استوطنه البربر وسموه "تيشيلاّ" ومن بعدهم الرومان وأطلقوا عليه اسم "تاكيلاّ " ومعنى الكلمة هو العشب الأخضر. لقد اختاروا هذه الأطلال و"في البال أغنية يا أخت عن بلدي" والجيوب ملأى ببذور الورد والحبوب والكروم، ومفاتيح منازلهم بالأندلس البعيد مغروسة في أعالي الروح. هناك في شرفات الأمل بالعودة إلى "أم البدايات".
أنت تتجول في تستور تنجذب من حيث لا تشعر إلى أزقتها الصغيرة وواجهات منازلها المتقشفة الجمال ودكاكينها الصغيرة المتراصة في مشهد فيه الكثير التدثّر والتضامن
كانت تلك الهضبة صغيرة على ضفة "مجردة" مغرية للمورسكيين الوافدين من "قشتالة " و"أراغون" سنة 1609 لتدبر أمرهم الجديد، متغلبين بذلك على الشتات الذي ألمّ بهم وغمر مشاعرهم لسنوات. لقد كانت الأفئدة تقول صمتًا "سنظلّ نسمع في الظلام نداءها". وولدوا من تسمياتها القديمة اسمًا جديدًا، " تازاتور"، ليتحول مع الأيام إلى تستور. لقد رسموها على مقاس الذكريات القاسية، إنها تلخيص للفردوس المفقود.
وأنت تتجول في تستور تنجذب من حيث لا تشعر إلى أزقتها الصغيرة وواجهات منازلها المتقشفة الجمال ودكاكينها الصغيرة المتراصة في مشهد فيه الكثير التدثّر والتضامن. وفجأة ينخطف بصرك نحو تحفتها المعمارية، إنه الجامع الكبير الذي أسسه محمد تاغارينو الذي وفد على تونس في سنة 1609.
الجامع الكبير بتستور
لقد كان هذا الرجل مسكونًا بجمال المعمار الطليطلي فهندس الجامع الكبير على نفس الطراز وكانت سنة 1627 هي سنة التشييد. فطهي القرميد الأحمر المقوس على الطريقة الطليطلية خصيصًا للجامع وجلبت الحجارة من المواقع الأثرية الرومانية المتاخمة. وبنيت صومعة يلخص شكلها المذاهب الدينية السائدة والتآخي الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي. وركزت بالصومعة ساعة فريدة من نوعها في العالم، ظلت تعمل ميكانيكيًا لقرون طويلة ثم تعطلت لتعود للعمل سنة 2016 بإرادة أبناء تستور بعد توقف دام ثلاثة قرون كاملة وفرادة هذه الساعة أن عقاربها تشتغل عكسيًا، لكأنّ المورسكيين الأوائل عدّلوا ساعتهم على الزمن الأندلسي الضائع.
تستور التي ظلت وفية لذكريات الأندلس القابع في بقعة ضوء خفي في أقاصي الروح تحلم ويحلم أهلها الآن بأن تكون علامة دالّة في مسلك سياحي خاص
اقرأ/ي أيضًا: عندما ينبض الفنّ من رفراف...
بتستور معالم أندلسية عديدة تنتشر بالمدينة العتيقة التي بدأت تفقد بعض ملامحها جراء زحف البناءات العصرية ولعل أشهرها زاوية سيدي نصر القرواشي التي بنيت سنة 1733 و مقام اليهودي الربّي الفرّاجي ودار المطربة والراقصة اليهودية التونسية التي ذاع صيتها في النصف الأول من القرن العشرين الفنانة حبيبة مسيكة، وهي دار فريدة في شكلها وزخرفها ونقائشها ورخامها الإسباني. كانت هدية من عشيقها المتيم الصائغي التستوري اليهودي إلياهو ميموني .ونجد أيضًا جامع حمودة أبّيس وجامع عبد اللطيف، وأكثر من مائة دكان كانت ومازالت تنهض بالحياة الاقتصادية للتستوريين.
تستور التي ظلت تصلّي بالإسبانبة وتتكلمها في قرنها الأول وتمارس رياضة مصارعة الثيران ( الكورّيدا)، كما القشتاليين والأراغونيين، وتطبخ "البناضج" و"الكيساليس" و"السفنج" و" كعك الورقة"، كانت تحسن استعمال مياه الوادي الكبير فأسست لفلاحة متطورة لم تعهدها أرض تونس من قبل بنواعير مائية عملاقة وتخطيط علمي فكثرت بساتين القوارص والرّمان والمشمش. أما الزيتون فكان نبراسًا لسفوح الهضبة التستورية النائمة على خدّ "مجردة" الهادر.
المساء ببطحاء "الرحيبة" ينسدل مفعمًا بنسائم تذكّر المورسكيين التستوريين بالديار البعيدة في الأندلس المفقود
المساء ببطحاء "الرحيبة" ينسدل مفعمًا بنسائم تذكّر المورسكيين التستوريين بالديار البعيدة في الأندلس المفقود، تفوح رائحة المساء مع شاي منعنع ومشاميم ياسمين تيجانية الشكل لا نجد لها مثيلًا في مكان تونسي آخر. وبين رشفات الشاي يتحسس التستوري مفتاح منزله الأول بإشبيلية أو غرناطة أو طليطلة، وتغمر عقله الشارد أبيات أبو البقاء الرندي وهو يرثي الأندلس قائلًا:
" لكل شيء إذا ما تم ّ نقصان ** فلا يغرّ بطيب العيش إنسان "
" هي الأمور كما شاهدتها دول ** من سرّه زمن ساءته أزمان " .
قرية تستور ظلتّ عائلاتها الشهيرة، الكوندي وزبيس ومركيكو والرياحي ومريسكو وفيليبو والجيس، تغني المالوف بموشحاته الأندلسية على الطريقة الإشبيلية إلى اليوم فأسست سنة 1976 مهرجانًا دوليًا للمالوف والموسيقى التقليدية العربية بات قبلة عشاق المالوف في العالم.
تستور التي ظلت وفية لذكريات الأندلس القابع في بقعة ضوء خفي في أقاصي الروح تحلم ويحلم أهلها الآن بأن تكون علامة دالّة في مسلك سياحي خاص ضمن ما يسميه المؤرخون بـ"الطريق الموريسكي".
اقرأ/ي أيضًا:
جولة في رحاب تستور وعين تونقة ودقة: حينما تبوح حجارة المكان بأسرار التاريخ