"قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل".. قانون مُلازم لكل الحكومات في تونس تقريبًا منذ ثورة 2011 لكنه لم ير النور إلى حد الآن. تختلف صياغته والطرف المتقدم به، لكنها تغييرات بسيطة أما جوهره فيقول الجميع ـ تقريبًا ـ إنهم متفقون حوله لكنه يأبى أن يحظى بمصادقة برلمان أو إمضاء رئيس.
إبان معركة "طوفان الأقصى" والتطورات الأخيرة في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، عاد قانون تجريم التطبيع للظهور للعلن من جديد، هذه المرة من خلال مبادرة 97 نائبًا في البرلمان التونسي الحالي بطلب استعجال النظر فيه ليمر للجلسة العامة قصد المصادقة عليه.
إبان معركة "طوفان الأقصى" والتطورات الأخيرة في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، عاد قانون تجريم التطبيع للظهور للعلن في تونس، من خلال مبادرة 97 نائبًا بطلب استعجال النظر فيه
بالتزامن مع هذا الطلب، أصدرت كتلة برلمانية تطلق على نفسها مسمى "كتلة الخط الوطني السيادي" بيانًا دعت فيه مكتب مجلس النواب وكل نواب الشعب إلى التسريع بعرض قانون تجريم التطبيع على الجلسة العامة وكانت قد تقدمت به في جوان/يونيو الماضي.
واعتبرت الكتلة المذكورة في بيانها أن "جولة 7 أكتوبر 2023 ـ تقصد معركة طوفان الأقصى التي انطلقت في هذا التاريخ ـ ما هي إلا حلقة ناصعة في تاريخ طويل من النضال والصمود ستنتهي حتمًا بتحرير فلسطين الذي نراه قريبًا ويرونه بعيدًا"، وفق تعبيرها. ودعت، في ذات البيان، "كل جماهير شعبنا العربي إلى دعم هذه المقاومة بكل الأشكال والأساليب المتاحة والتصدي لكل محاولات التطبيع وفضح الداعين لذلك أنظمة وجماعات وأفرادًا".
ومقترح القانون المذكور كانت قد تمّت إحالته في وقت سابق إلى لجنة الحقوق والحريات بالبرلمان. وإبان المطالبة باستعجال النظر فيه، عقدت لجنة الحقوق والحريات، الأربعاء 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، جلسة استماع لكتلة الخط الوطني السيادي، باعتبارها جهة المبادرة في ما يخص مشروع قانون تجريم التطبيع.
وفي بيان للجنة الحقوق والحريات في البرلمان التونسي، ثمّن أعضاء اللجنة مقترح القانون وأكدوا، أثناء النقاش، "ضرورة تجويد الصياغة القانونية، وتعميق النظر في العقوبات المطروحة ضمن مشروع القانون لتكون متناسقة مع المجلة الجزائية، إضافة إلى عدم خضوع جريمة التطبيع إلى السقوط بمرور الزمن مثلما هو معمول به في الجرائم الإرهابية".
وتمّ التأكيد خلال هذا الاجتماع، وفق ذات البيان، على أن "تجريم التطبيع يهم فقط العلاقات الطبيعية مع الكيان الصهيوني مباشرة أو بواسطة". وقرّرت اللجنة في ختام أشغالها، يوم الأربعاء الماضي، عقد سلسلة من الاجتماعات حول مقترح القانون المعروض، مع تأكيد الإسراع في استكمال النظر فيه لعرضه على الجلسة العامة في أقرب الآجال.
لجنة الحقوق والحريات بالبرلمان التونسي تنظر أوليًا في مشروع قانون لتجريم التطبيع وتتجه لعقد سلسلة من الاجتماعات الأخرى قبل عرضه على الجلسة العامة "في أقرب الآجال"
وفي سياق متصل، قال مقرر لجنة الحقوق والحريات بالبرلمان لإذاعة موزاييك المحلية إن اللجنة نظرت الأربعاء في مشروع القانون وستستمع في قادم الأيام إلى جهات أخرى ومن بينها ممثلين عن وزارة الخارجية والرئاسة التونسية ليتم لاحقًا صياغة التقرير النهائي للجنة وإحالته على مكتب البرلمان وهو الذي يعيّن جلسة عامة للنظر في مقترح القانون".
أما عن محتوى مشروع القانون في نسخته الحالية فيتضمن عقوبات سجنية ومالية لمرتكب "جريمة التطبيع" إذ نقلت وكالة الأنباء التونسية الرسمية أنه ورد في أحد فصوله أن "يعاقب مرتكب جريمة التطبيع بالسجن لمدة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات وبغرامة تتراوح بين عشرة آلاف دينار ومائة ألف دينار"، وينص الفصل المذكور أيضًا أن "تعتبر المحاولة في جريمة التطبيع موجبة لنفس العقوبة".
يتضمن مشروع القانون المطروح الآن للنقاش عقوبات سجنية ومالية لمرتكب "جريمة التطبيع" ومنها السجن لمدة تتراوح بين سنتين و5 سنوات وغرامة تتراوح بين 10 آلاف دينار و100 ألف دينار"
ويعرف الفصل الأول "الكيان الصهيوني" ويوضح الثاني "جريمة التطبيع" التي يعد مرتكبًا لها "كل من قام أو شارك أو حاول القيام بعدد من الأفعال من بينها الاتجار والتعاقد والتواصل بكل أنواعها التجارية والثقافية والرياضية بمقابل أو دونه بصفة عرضية أو متواترة وبشكل مباشر أو عبر وساطة من قبل أشخاص معنويين أو طببيعيين من ذوي الجنسية التونسية مع كل الأشخاص المعنويين الذين ينتمون للكيان الصهيوني". كما جرم نفس الفصل "المشاركة بأي شكل من الأشكال المشاركة في الأنشطة والفعاليات والتظاهرات بأنواعها السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والرياضية التي تقام على الإقليم الذي تحتله أو تتحكم فيه سلطات الكيان الصهيوني"، وفق ما نقلته وكالة الأنباء التونسية الرسمية.
وينص الفصل 4 من مشروع القانون على أنه "يعد مشاركًا في الجريمة وتنطبق عليه مقتضيات أحكام الفصل 32 من المجلة الجزائية كلّ من ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في المساعدة في ارتكاب الأفعال الواردة بالفصل 2 من هذا القانون". ويفرض الفصل الخامس أن "يختصّ وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس دون سواه بإثارة الدّعوى العمومية وممارستها في الجرائم المنصوص عليها بهذا القانون" و"تختص المحكمة الابتدائية بتونس دون سواها من المحاكم العدلية والعسكرية بالنظر في الجرائم المنصوص عليها بهذا القانون"، وفق فصله السادس.
يرى متابعون للشأن التونسي أن الظروف والملابسات لم تكن يومًا، منذ سنوات، أكثر ملاءمة لإصدار هذا القانون في تونس والمصادقة عليه، إذ يحظى بتأييد واسع في الشارع التونسي تُرجم بوضوح في الشعارات التي رُفعت في مسيرات كبرى في العاصمة التونسية، يومي الخميس والجمعة 12 و13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، كما أن الموقف الرسمي في البلاد، عبر تصريحات وبيانات، الرئاسة والخارجية التونسية يبدو من الأكثر راديكالية عبر التنصيص على "التطبيع كخيانة عظمى"، وعلى الحق الفلسطيني وغير ذلك.
يرى متابعون للشأن التونسي أن الظروف والملابسات لم تكن يومًا، منذ سنوات، أكثر ملاءمة لإصدار قانون تجريم التطبيع في تونس، إذ يحظى بتأييد واسع في الشارع تُرجم بوضوح في عدة مسيرات إضافة للموقف الرسمي
ومقترح القانون هذا له ماض تليد في تونس، نحاول في هذا التقرير العودة لأبرز المبادرات لتفعيله منذ أكثر من عقد من الزمن والتي كللت جميعها بالفشل.
مشروع القانون له ماض تليد في تونس، نحاول في هذا التقرير العودة لأبرز المبادرات لتفعيله منذ أكثر من عقد من الزمن والتي كللت جميعها بالفشل
- الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي سنة 2011.. وثيقة العهد الدستوري
لو عدنا إلى بدايات سنة 2011، تزامنًا مع اندلاع شرارة الثورة التونسية، لتذكرنا تكرر المطالب بتجريم التطبيع مع إسرائيل في تونس وقد صادقت حينها الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي (هيئة أسست في 15 مارس/آذار 2011 وكان هدفها الإشراف على مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، أنهت أعمالها في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 أيامًا قليلة قبل تنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي)، على وثيقة العهد الجمهوري، وهي وثيقة تتضمن مبادئ أساسية التزمت بها الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي التونسي حينها ومما تضمنته "مناهضة الصهيونية والتصدي لكل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني".
- المجلس الوطني التأسيسي.. دستور الثورة
تجددت المطالب لتضمين تجريم التطبيع، خلال فترة عمل المجلس الوطني التأسيسي 2011 ـ 2014، ضمن دستور الجمهورية الثانية/دستور الثورة كما أطلق عليه أو في قوانين خاصة، كان الهدف في البداية أن ينص الدستور التونسي على ذلك لكن لم يحظ المقترح بموافقة أغلبية برلمانية ورفضته كتلة النهضة، الكتلة الأكبر حينها بالمجلس الوطني التأسيسي. أما الحجة فهي أن الدستور يهم الشأن الداخلي للبلاد وأن تجريم التطبيع يفضل أن يفرد بقانون خاص.
في هذا السياق، اقتصر دستور 2014 على ما جاء في نهاية توطئته ".. وانتصارًا للمظلومين في كل مكان، ولحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولحركات التحرر العادلة وفي مقدمتها حركة التحرر الفلسطيني، ومناهضة لكل أشكال الاحتلال والعنصرية..".
تكررت المحاولات للتنصيص على تجريم التطبيع في تونس سواء في الدستور أو في قانون خاص انطلاقًا من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي سنة 2011 مرورًا بدستور 2014 ثم بعدة مشاريع قوانين
- مقترح كتلة الجبهة الشعبية سنة 2015
في أواخر سنة 2015، قدمت كتلة الجبهة الشعبية بالبرلمان التونسي حينها (يسار) مشروع قانون يتعلق بتجريم التطبيع مع إسرائيل، لكنه لم يمرر للمصادقة عليه أبدًا في جلسة عامة.
وهو ما حصل أيضًا سابقًا عندما تم اقتراح مشروع قانون في نفس السياق خلال فترة عمل المجلس الوطني التأسيسي ولكنه لم يمرر للمصادقة إلى نهاية فترة أشغال المجلس التأسيسي.
- "لجنة القدس وفلسطين" البرلمانية سنة 2018
في وقت لاحق، وتحديداً في ماي/ آيار 2018، أعلن البرلمان التونسي حينها إحداث "لجنة القدس وفلسطين"، وأدان وقتها تطورات الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة من اعتداءات لقوات الاحتلال الإسرائيلي لكن لم تصدر أي معلومات أكيدة عن أنشطة هذه اللجنة خلال فترة عملها.
- مقترح "الكتلة الديمقراطية" نهاية سنة 2020
تزامنًا مع الذكرى السنوية الرابعة لاغتيال محمد الزواري، وتحديدًا في 15 ديسمبر/كانون الأول 2020، كانت قد قدمت الكتلة الديمقراطية في البرلمان حينها (ضمت أساسًا نواب حركة الشعب والتيار الديمقراطي)، مشروع قانون لتجريم التطبيع وكان ذلك بالشراكة مع عدد من النواب غير المنتمين إلى كتل.
ويُذكر أنه إثر اغتيال الزواري في منطقة صفاقس جنوب تونس، أعلنت حماس انتماءه لكتائب الشهيد عز الدين القسام وإشرافه على مشروع تطوير طائرات دون طيار متهمة إسرائيل باغتيال الزواري عبر جهاز "الموساد".
تزامنًا مع الذكرى السنوية الرابعة لاغتيال محمد الزواري، كانت قد قدمت الكتلة الديمقراطية في البرلمان حينها مشروع قانون لتجريم التطبيع وكان ذلك بالشراكة مع عدد من النواب غير المنتمين إلى كتل
تضمن مقترح القانون ذلك ديباجة و8 بنود تعرف جريمة التطبيع في مختلف المجالات السياسية والرياضية والفنية، ونص على عقوبات على المطبعين تتراوح بين سنتين وخمس سنوات سجناً وبغرامات مالية تصل إلى 100 ألف دينار تونسي.
ما ميز تلك المبادرة في نهاية 2020، أنها برزت إثر موجة تطبيع عربية، انطلقت مع اتفاق لتطبيع كامل للعلاقات بين إسرائيل والإمارات في منتصف أوت/أغسطس، وفي منتصف سبتمبر/ أيلول من ذات السنة، كان البيان الثلاثي البحريني- الأمريكي- الصهيوني، الذي ينص على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البحرين وإسرائيل، ثم انضمت السودان نهاية أكتوبر/تشرين الأول ثم ركب المغرب قطار التطبيع في ديسمبر/كانون الأول 2020، ليصبح البلد الرابع في العالم العربي الذي يعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في ذات السنة، توقيعه اتفاقية تطبيع كامل.
ومع العلم أيضًا أن هذه الخطوات التطبيعية الأربع كانت في سياق مختلف من ناحية أنها ليست اتفاقيات سلام فعليًا، ولم تأت بعد مواجهات عسكرية، وإنما تتعلق أكثر بصياغة رسمية لنمط من التحالف تسعى له إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية تدريجيًا، وكانت تتجه نحو تدعيمه من خلال اتفاقيات تطبيع مع دول عربية أخرى انتشر الحديث عنها مؤخرًا.
كانت تونس، لعقود زمن بن علي وما بعده، صديقة فلسطين البعيدة جغرافيًا والقريبة شعبيًا لكنها لا تُقدم أكثر من الشعارات والبيانات والاستنكار والتنديد
تتعدد المبادرات التشريعية لتفعيل قانون لتجريم التطبيع على امتداد أكثر من عقد، لكنها بقيت في أدراج البرلمان مما يدعم الشكوك حتى الآن في إمكانية المصادقة عليه رغم ما يبدو ظاهريًا من إجماع واسع حول القضية الفلسطينية تونسيًا، شعبيًا ورسميًا.
كانت تونس، لعقود زمن بن علي وما بعده، صديقة فلسطين البعيدة جغرافيًا والقريبة شعبيًا لكنها لا تُقدم أكثر من الشعارات والبيانات والاستنكار والتنديد. لا تقيم تونس علاقات دبلوماسية مع الكيان وتحرص دائمًا على توجيه المساعدات للشعب الفلسطيني لكنها لا تغضب الدول الغربية ولا تجازف، في انتظار تبيّن مآلات مشروع القانون الأخير المقترح والذي قد يغيّر هذه المعادلة.