يتخوف الكثيرون من نتائج الانتخابات القادمة وأن لا تكون منصفة لتطلعاتهم الشخصية لكن قد يكون أكثر ما يثير الخشية حقيقة، من منظور أشمل ويخص البلد وانتقاله الديمقراطي بشكل عام، هو أن تأتي هذه الانتخابات بسيناريو "محيّر" للجميع قد لا يُتيح الحكم لأحد، مجلس نواب غير قادر على الاتفاق والمصادقة على أي قرارات مع عدم القدرة على تنفيذ برنامج حكومي واضح المعالم.
القانون الانتخابي المعمول به حاليًا في تونس لا يمكّن أي حزب منطقيًا من الأغلبية وبالتالي من الحكم منفردًا. وما لم يتغير، تتجه نتائج الانتخابات نحو نسب متباينة طورًا ومتقاربة طورًا آخر بين مختلف الأحزاب والمستقلين والائتلافات، ينجر عنها غالبًا، وكما عرفت تونس إثر انتخابات 2011 و2014، تحالفات لتكوين الحكومة وتسيير دواليب البرلمان، لكن ماذا لو لم يكن عقد هذه التحالفات على ضوء انتخابات 2019 ممكنًا؟
أكثر ما يثير الخشية في تونس مؤخرًا هو أن تأتي الانتخابات القادمة بسيناريو قد لا يُتيح الحكم لأحد، مجلس نواب غير قادر على الاتفاق مع عدم القدرة على تنفيذ برنامج حكومي واضح المعالم
يعتبر متابعون أن النهضة أكثر من يتخوف من هذا السيناريو، بالنظر إلى نتائج سبر الآراء منذ بداية هذه السنة والتي تمنحها أسبقية مريحة في الانتخابات التشريعية القادمة مقارنة بكل منافسيها. يبدو أن الأخيرة ضمنت، ولو مبكرًا جدًا، ظفرها بنسبة مهمة من مقاعد البرلمان القادم لكن هاجسها الأكبر صار حول الشريك القادم بعد حزب نداء تونس. يُفسر هذا التخوف استحسان الحركة ذات المرجعية الإسلامية، في مناسبات عدة، لأي بوادر تقارب أو التقاء بين حركتي نداء تونس وتحيا تونس، أملاً في مشاركتهما الحكم معًا. تتخوف حركة النهضة أن لا يحظى أيًا منهما بمفرده بعدد مقاعد كاف في التشريعية، يُخوّل له تحصيل أغلبية مريحة للحكم معها.
في ذات السياق، يعلم الباجي قائد السبسي، رئيس الجمهورية، أن "خلاص" حزبه الذي أسسه، نداء تونس، يمر عبر لعب ورقة "الحزب الذي لا يزال قادرًا على توحيد صفوف العائلة الوسطية الحداثية الديمقراطية في مواجهة الإسلام السياسي"، الورقة الوحيدة تقريبًا القادرة على إسناد مكان من جديد في الساحة السياسية لحزب عرف انشقاقات واضطرابات وحملات تشويه وفضائح لم يسبقه أحد إليها من أحزاب البلاد. حاول قائد السبسي الأب مؤخرًا لعب هذه الورقة من جديد عساها تعيد الحزب من بعيد إلى السباق الانتخابي وإلى جزء من "مجد انتخابات 2014".
لا يمكن تبرير دعوته رفع التجميد عن عضوية يوسف الشاهد داخل نداء تونس، خلال مؤتمر الحزب الذي انعقد نهاية الأسبوع الأول من الشهر الماضي، إلا في إطار لعب ورقة "الحزب الكبير الموّحد". ففي ذلك المؤتمر نزل قائد السبسي الأب بكل ثقله وبآخر أوراقه غالبًا ليعيد صورة "النداء الكبير التاريخي".
فتح ذراعيه لأكثر من خرج عن طوعه من حزبه لينقل رسالة أن لا إقصاء لأحد ضمن "العائلة الوسطية الحداثية الديمقراطية" حتى لأبرز من تمرد أمامه وكان سببًا في تحجيم سلطة قائد السبسي خلال السنة الأخيرة من حكمه ولخلافات كثيرة بين رأسي السلطة التنفيذية، وقد جاء في اللائحة السياسية للمؤتمر أن حركة نداء تونس "تتبنى القطع فقط مع الأحزاب ذات المرجعية الدينية" في إشارة لحركة النهضة ولإحكام لعب ورقة "النداء التاريخي" وما بقي عنه في أذهان المصوتين سنة 2014.
خلال كلمته في ذات المؤتمر، قال قائد السبسي إنه "لا يريد حزبًا مثل بقية الأحزاب"، تحدث عن إلغاء تجميد عضوية الشاهد وغير ذلك من إشارات، أراد من خلال كل ذلك أن يقول للتونسيين إن هذا الحزب ـ نداء تونس ـ لا يزال قادرًا على التجميع وتوحيد الصف، أنه قادر على خلق التوازن أمام الإسلام السياسي، أي أنه لا يزال قادرًا على الحكم وأنه يستحق من جديد صوتهم.
"الحزب الذي لا يزال قادرًا على توحيد صفوف العائلة الوسطية الحداثية الديمقراطية في مواجهة الإسلام السياسي"، هي الورقة الوحيدة تقريبًا القادرة على إسناد مكان من جديد لنداء تونس في الساحة السياسية
لا يأمل الباجي في مرتبة أولى في التشريعية القادمة بالضرورة. في انتخابات 2014، كانت استطلاعات الرأي في معظمها تؤكد تقدم قائد السبسي وحزبه، ولم تعد هذه الأخيرة تقدم ذات النسب والاستنتاجات أشهرًا قليلة قبل انتخابات 2019. يبدو أن السياسي المحنك صار يلعب ورقة أن يحصل حزبه على نسبة تصويت محترمة أو أن يكون الأول في إطار "عائلته السياسية"، فقد يمكن ذلك نداء تونس من فرصة للحكم من جديد ضمن ائتلاف معيّن ويبعدها عن شبح ما حصل مع شركاء النهضة السابقين (المؤتمر والتكتل) خلال انتخابات 2014.
الآن صار الجميع عليمًا بمخرجات مؤتمر نداء تونس، لا نعلم إن كانت هذه المخرجات ضمن سيناريوهات قائد السبسي الأب والإبن، لكنها، بكل تأكيد، لم تكن السيناريو المفضل وقد تكون قصفت بكل ما رغب فيه مؤسس الحزب وما حرص أن يوصله خلال كلمته في اليوم الافتتاحي للمؤتمر وبالتالي عبثت بأوراقه الأخيرة.
أما عن ورقة قائد السبسي التوحيدية فلم يكن الوحيد الذي "لعبها"، فالكل تقريبًا صاروا مؤخرًا يدعون "القدرة على توحيد الصفوف ضمن العائلة الوسطية" أملًا في الفوز بأصوات روادها ومن بينهم الدستوريين. تحيا تونس، الحزب المتكون حديثًا والذي لم يتم بعد فعاليات مؤتمره التأسيسي، أحد أبرز المراهنين على قدرته التوحيدية. الحزب الذي يُنتظر أن يترأسه قريبًا رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد، بدأ منذ فترة مفاوضات مع عدد من الأحزاب، من بينها أحزاب المبادرة ومشروع تونس والبديل. وتُصرح قياداته أن المشاورات متقدمة لدخول الانتخابات القادمة ضمن اتحاد قادر على استقطاب أصوات عديد التونسيين. وتُدعم ذلك بإعلان أرقام متزايدة يوميًا عن عدد منخرطي الحزب الوليد والتي تجاوزت 100 ألف منخرط، حسب بعض القيادات، في فترة وجيزة.
لكن الصور القليلة التي خرجت للعموم من الحفل الختامي للمؤتمر التأسيسي لتحيا تونس والذي وقع إرجاؤه إلى مساء يوم الأربعاء 1 مايو/ آيار الجاري كشفت عن حضور محتشم وقليل جدًا لمؤتمري ومناصري الحزب، لا يعكس الأرقام المتداولة عن عدد المنخرطين كما لا يعكس أيضًا قدرة توحيدية أو منافسة جدية في الانتخابات التشريعية القادمة. وقد شاع إثر هذه الصور، أن مشاكل داخلية وخلافات حول المناصب وغيرها انطلقت في الحزب حديث الولادة، وإن نفتها أو قللت من قيمتها بعض قيادات تحيا تونس.
لم يخرج النداء بعد مؤتمره متماسكًا بل أكثر تشتتًا من ذي قبل ولا يبدو حزب الشاهد بعد مؤتمره أيضًا بحال جيدة. فلمن سيمنح التونسيون ثقتهم داخل الأحزاب التي تؤكد الانتماء للتيار الوسطي ويُجمع كل طرف منها تقريبًا أنه الأجدر؟
"زعيم تحيا تونس"، رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد، كان قد توجه للشعب بكلمة منتصف الشهر الماضي تقريبًا، خلت من أي جديد غير تأكيد أنه لن يستقيل كما طالبه البعض، من معارضة وأحزاب في الحكم، في حالة قرر الترشح للانتخابات القادمة، معتبرين أن في بقائه في منصبه إلى موعد الانتخابات توظيفًا لمنصبه الحالي واستغلالًا ممكنًا لسلطاته وموارد الدولة.
أكد الشاهد، خلف الكلمة أيضًا، ترشحه للانتخابات القادمة والأغلب أنه اختار الرئاسية منها فالرجل يدرك تمامًا أن الرهان على المواصلة في القصبة غير مضمون وهو يحتاج من أجل ذلك لـ"ماكينة انتخابية" جاهزة تدعمه وهذا غير متوفر حاليًا. خلال كلمته، انتقد الشاهد المعارضة والنقابات واعتبر أن "التشنج السياسي الذي تعيشه البلاد مردّه الحملات الانتخابية المبكرة والمطلبية المشطة لبعض النقابات والغرف"، كان يحاول تبييض حصيلة حكمه للسنوات الثلاث الأخيرة لا محالة، وقارن بعض المعطيات الاقتصادية حاليًا بحالها قبل استلامه رئاسة الحكومة، في تصور يفيد، وفقه، تحسنًا لبعض المؤشرات الاقتصادية.
لكن محاولات قيادات النداء وتحيا تونس الإيهام بصورة "الموحدين، المجمعين، والمسيطرين" لم ترافقها تأكيدات على أرض الواقع. لم يخرج النداء بعد مؤتمره متماسكًا بل أكثر تشتتًا من ذي قبل ولا يبدو حزب الشاهد بعد مؤتمره أيضًا بحال جيدة. فمع من قد تحكم النهضة؟ لمن سيمنح التونسيون ثقتهم داخل الأحزاب التي تؤكد الانتماء للتيار الوسطي ويُجمع كل طرف منها تقريبًا أنه الحزب الأجدر، وقد كانوا كثيرين في التصويت لنداء تونس سنة 2014؟
في الكواليس، يروج حديث متصاعد عن إمكانية "عجز" متوقع عن تكوين أغلبية قادرة على الحكم بعد الانتخابات القادمة، ما قد يفتح الأبواب أمام سيناريو انتخابات مبكرة (انتخابات استثنائية بعد ستة أشهر)
في الأثناء، تعارض الأحزاب التي تحتل المراتب الموالية في نسب تصويت التونسيين المرجح للانتخابات القادمة، حسب نتائج سبر الآراء، التحالف مع حركة النهضة أو هذا ما تركز عليه في خطاباتها على الأقل إلى حد الآن وهي أساسا أحزاب الدستوري الحر، الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي. ولا تحظى هذه الأحزاب بنسب تصويت عالية فمعظمها متقارب ولا يتجاوز 10 في المائة مما يعني صعوبة أن تحكم بمفردها أو حتى أن تتوافق فيما بينها لخلافات غير هيّنة في توجهاتها وخياراتها.
كان ما سُمي "توافق الشيخين" بعد انتخابات 2014، السيناريو الذي حكم تونس طيلة السنوات الخمس الأخيرة، وهو سيناريو يحمل الكثيرون تحفظات عدة حوله لكنه في ذات الوقت جعل من تونس، حسب آخرين، "الاستثناء في منطقتها" خاصة في عيون الخارج والقوى الإقليمية. فبأي سيناريو سيُحكم البلد ما بعد انتخابات 2019؟ وماذا لو لم يحكم أحد؟
في الكواليس، يروج حديث متصاعد مؤخرًا عن إمكانية "عجز" متوقع عن تكوين أغلبية قادرة على الحكم بعد الانتخابات القادمة، ما قد يفتح الأبواب أمام سيناريو انتخابات مبكرة (انتخابات استثنائية بعد ستة أشهر) مثلًا، لا تتحمل أوضاع تونس السياسية والاقتصادية عبئها بكل تأكيد.
اقرأ/ي أيضًا: