31-يوليو-2024
حملة انتخابية باهتة بسبب مقاطعة جزء مهم من المشهد السياسي (ياسين محجوب/Nuurphoto)

خيّمت الانتخابات الرئاسية على المشهد منذ بداية 2024 باعتبارها سنة انتخابيّة (صورة أرشيفية/ ياسين محجوب/ Nurphoto)

مقال رأي 

 

لم يكن متوقعًا أن يُحدث الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقررة ليوم 6 أكتوبر/تشرين الأول القادم كلّ هذه الديناميكية في مشهد سياسي أنهكته ثلاث سنوات من حالة الاستثناء والأزمة الماليّة والاقتصاديّة والحكم الفردي المطلق. وتشير بعض التوقعات إلى أنّ نسبة المشاركة في اختيار رئيس للجمهوريّة ستكون عالية قياسًا إلى المقاطعة شبه الكاملة التي عرفتها الدعوة إلى الاقتراع العام في خمس مناسبات نظمتها سلطة الانقلاب.

ولا حديث اليوم إلاّ عن جمع التزكيات وهويّة المرشّحين وقدرتهم على تخطي ما وضع أمامهم من عقبات في ظلّ سؤال عن سبل الخروج من الأزمة يلخّص توتّر المشهد بين الأمل في الخروج منها والخوف من تفاقمها والتردّي فيها؟

  • حسْمُ الجدل

خيّمت الانتخابات على المشهد منذ بداية 2024 باعتبارها سنة انتخابيّة. وكان الموقف الضمني الغالب في صفوف المعارضة الديمقراطيّة هو المقاطعة. وبدا الأمر شبه محسوم. وأمام فشل الحركة الديمقراطيّة في استعادة الديمقراطية بالشارع كان انتفاء شروط الانتخابات الحرة والنزيهة كافيًا لمقاطعة الاستحقاق. ولم يمنع هذا الموقف الضمني الحركة الديمقراطيّة من الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، وذلك في إطار ما تقدّمه من عرض سياسي، من حين لآخر، للخروج من الأزمة المركبة التي تعصف بالبلاد وبما بقي من مقومات الدولة والسياسة فيها.

عندما تبيّن للحركة الديمقراطيّة أنّها معنيّة قبل غيرها باستحقاق الانتخابات الرئاسية، ميّزت بين الموقف المبدئي بالمشاركة، والموقف العملي المحكوم بقدرتها على توفير الشروط المطلوبة

ومع تتالي الأحداث وتطوّرها، انتبهت الحركة الديمقراطيّة إلى التهافت في موقفها وإلى المفارقة التي تشقه، فالتقابل حادّ بين دعوتها إلى انتخابات سابقة لأوانها وميلها القوي إلى موقف المقاطعة. وكان إمعان السلطة في تجريف الحياة السياسيّة باستهداف الحريّات العامة والخاصة يؤشر على استحالة شروط الانتخابات الديمقراطية. وعندما تبيّن للحركة الديمقراطيّة أنّها معنيّة قبل غيرها بهذا الاستحقاق، كان منها تمييزٌ بين الموقف المبدئي بالمشاركة، والموقف العملي المحكوم بقدرتها على توفير الشروط المطلوبة.

وكانت قيادات في الحركة الديمقراطيّة، ومنها قيادات في جبهة الخلاص، عبّرت عن وعيها بأنّها لن تطلب توفير شروط انتخابات حرّة ممّن ألغى الدستور وهدم المؤسسات، وأنّها هي من سيعمل على توفير هذه الشروط. وفي هذا السياق تشكل الوعي بأنّ الانخراط في ديناميكيّة الاستحقاق الانتخابي هي مجال فعلها الوحيد الذي سيمكّن من توفير الشروط المطلوبة. ويجد مَنْ مازال مصرًّا على مقاطعة الانتخابات من داخل الحركة الديمقراطيّة صعوبة في الإجابة عن السبب الذي يدفع بالسلطة إلى ملاحقة من أعلنوا عن نيتهم بالترشّح بملفات قضائيّة تمنع ترشحهم. وقد أفضى هذا التوجه إلى اعتقال البعض منهم وإيداع البعض الآخر في السجن. فهل يعقل أن يلاحِق هؤلاء وهو يدرك أنّ مشاركتهم ستكون سببًا في تزكيته وإكسابه شرعيّة عجز تحقيقها بخطابه الشعبوي وأدائه المتهافت رغم ما بين يديه من سلطات مطلقة؟

عرف الصراع بين الانقلاب والحركة الديمقراطيّة حالة استقرار وصفت بكونها حالة توازن الضعف بين الجهتين

وبذلك صار قرار المشاركة في الاستحقاق الانتخابي هو الموقف الغالب على الحركة الديمقراطيّة، ودخَل المشهد السياسي بقوّة في "الزمن الانتخابي" والاستعداد لموعد 6 أكتوبر/تشرين الأول الحاسم.  

  • أكثرُ من موقف

عرف الصراع بين الانقلاب والحركة الديمقراطيّة حالة استقرار وصفت بكونها حالة توازن الضعف بين الجهتين. وكانت قيادات في جبهة الخلاص تشدّد على أنّ المطلوب من الحركة الديمقراطيّة هو توسيع نقاط الاشتباك مع السلطة القائمة وتفعيلها مع ربطها بالعنوان الرئيسي المتمثّل في استعادة الديمقراطيّة. وكانت تقدّر بأنّ توازن الضعف لن يستمرّ إلى ما لا نهاية له. وأنّ التحوّل في المشهد سيكون نتيجة انقسام داخل أحد الطرفين يفضي إلى إعادة نظر في المشهد برمّته بحوار قد يفتح أفقًا لتسوية كبرى بين ما بقي من جهتي الاعتدال في الصراع. وهذا شبه قانون مطّرد في تجارب الانتقال الديمقراطي المقارن.

عرف الانقلاب فشلًا في مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة، وحاول التغطية على فشله بتجريف واسع للحريّات استهدف قيادات الحركة الديمقراطيّة وكلّ أصحاب الرأي

وفي بلادنا عرف الانقلاب فشلًا في مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة، وحاول التغطية على فشله بتجريف واسع للحريّات استهدف قيادات الحركة الديمقراطيّة وكلّ أصحاب الرأي. وكانت الأداة المرسوم 54 وبواسطته تمّ قمع المعارضة الديمقراطيّة وبه كانت سياسة تكميم الأفواه، ولكن عشريّة الحريّة وسقوفها العالية وما أتاحته من دخول الجموع إلى المجال العام والمشاركة السياسيّة والاجتماعيّة والحقوقيّة، أسعف المعارضة الديمقراطيّة بالقدرة على الدفاع عن القليل من مربعات الحرية والنضال السياسي تحت عنوان استعادة الديمقراطيّة.

هذا الوضع الاجتماعي المحتقن والحياة السياسيّة المعلّقة والأفق شبه المسدود غير منفصل في جانب منه عن فشل "مسار التصحيح" وقد جعل تفاقمه من شاركوا في محاولة غلق قوس الانتقال أمام حقيقة مأزقهم.

الرئيس قيس سعيّد لا يتردّد في الالتزام بموعد 6 أكتوبر الانتخابي ولكنّه يثير غبارًا من الشك حول درجة الالتزام بنتائجه السياسيّة حين يقول بأنّه لن يسلّم البلاد إلاّ لوطنيين حقيقيين

وكانت ندرة المواد الأساسيّة في السوق ورحلة التونسي اليومية اللهاث وراء والزيت والدقيق والحليب ورغيف الخبز من أبرز مظاهر لم تعرفها البلاد في ظل دولة الاستقلال. ومثّلت المالية العمومية وافتقادها أدنى شروط التوازن مشكلًا حقيقيًّا.

ومن شأن الفشل، ولا سيما إذا كان تامًّا مثلما هو عليه وضعنا أن يثير غبارًا من الشك بين المسؤولين عنه والمساهمين في تفشّيه. وأن تعرف صفوفهم انقسامات مبكّرة. ولم يبق من أفق إلاّ التراجع عما أدّى إلى تفاقم الأوضاع وتردّي الأحوال. وفي عالم السياسة لا يكون التراجع والاعتراف بالفشل صريحًا. ولو حقق الانقلاب درجة معقولة من النجاح في مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة الموروثة وتمّ بناء مؤسسات بديلة بنسب مشاركة في انتخابها معقولة لطويت صفحة الانتقال الديمقراطي نهائيًّا، ولما كانت هناك حاجة إلى انتخابات 2024.

ومن جهة أخرى فإنّ ما تركته العشريّة الديمقراطيّة من تقاليد ومن بقايا روح فيما تواصل من مؤسسات، مثّل نقطة دفاع ذاتي مهمة وصمود مثير رغم شراسة الحملة التي استهدفت شروط الديمقراطية ومحاولة استعادتها. 

كان منتظرًا أن تكون الانتخابات فرصة للتقارب بين مكونات المعارضة الديمقراطيّة، وأن تستعدّ للالتقاء حول مرشّح مشترك، ولكن الأمور باقية على حالها ولم يتسنّ تخطّي حالة الاستقطاب السابقة

  • اليوم التالي

عرف المشهد سيلًا من إعلانات الترشح للانتخابات الرئاسيّة. ولئن كانت الهبّة جزءًا من روح دبّت في مشهد سياسيّ مجرّف فإنّها قد لا تكون بعيدة عن جهة من دوائر في الحكم ترى في الترشحات غير الجادّة ترذيلًا للاستحقاق المزعج وإساءة إلى من تقدّم له من الشخصيات السياسيّة والوطنيّة الوازنة أكثر ومن شأن ذلك أن يزهّد في الترشح والمشاركة في الانتخابات.

أشرنا إلى أنّ هذا يفتح بابًا على علاقة سلطة 25 جويلية/يوليو بهذا الموعد الانتخابي وإلى ما يشقها من اختلافات وحول حصيلة ثلاث سنوات من الفشل، وحول سبل الخروج من هذه الأزمة التي باتت تهدّد وحدة الدولة واستمراها. وتمثّل واجهة الانقلاب حالة توتر في الحكم مع الموعد الانتخابي. فالرئيس قيس سعيّد لا يتردّد في الالتزام بموعد 6 أكتوبر/تشرين الأول الانتخابي ولكنّه يثير غبارًا من الشك حول درجة الالتزام بنتائجه السياسيّة حين يقول بأنّه لن يسلّم البلاد إلاّ لوطنيين حقيقيين. وفي آخر كلمة له انتهى إلى أنّ المرحلة القادمة لن تدار بشرعيّة أسقطها الشعب. ولا يعلم إن كان يعني مرجعيّة دستور الثورة أم أنّه يشير إلى نتائج الاقتراع.

من خلال الأسماء المترشحة عن المعارضة الديمقراطيّة فإنّ نجاح أحدها قد يكون عامل انقسام حادّ داخل هذه المعارضة

وفي هذا السياق يأتي وضع العراقيل في وجه المترشحين من داخل هيئة الانتخابات ومن خارجها من خلال التضييقات الأمنيّة على المترشحين وتعطيل جهود أنصارهم في جمع التزكيات.

كان منتظرًا أن تكون الانتخابات فرصة للتقارب بين مكونات المعارضة الديمقراطيّة ولا سيما بين ما اصطلحنا عليه في مقالات سابقة بـ"تيار استعادة الديمقراطية" (جبهة الخلاص) و"تيار المراجعة" (الخماسي وما عرفه من تحولات). وأن تستعدّ للالتقاء حول مرشّح مشترك. ولكن الأمور باقية على حالها ولم يتسنّ تخطّي حالة الاستقطاب السابقة.

يبدو أنّه لا ضير من تعدّد الترشحات في الدور الأول ففي ذلك تشتيت لأصوات منافسها الرئيسي الذي يشاركها في جانب من قاعدتها الانتخابيّة، وربما منعه من العبور إلى الدور الثاني

هناك شخصيات معروفة من المعارضة ترشحت للانتخابات الرئاسيّة وهي تتحرّك تقريبًا داخل الخزان الانتخابي نفسه، وتمثّل حركة النهضة عمقه. ويبدو أنّه لا ضير من تعدّد الترشحات في الدور الأول ففي ذلك تشتيت لأصوات منافسها الرئيسي الذي يشاركها في جانب من قاعدتها الانتخابيّة، وربما منعه من العبور إلى الدور الثاني. غير أنّ وجود مرشّح قوي ينتسب إلى النظام القديم سيعيد وضعًا سابقًا انقسمت فيه القوى المحسوبة على الثورة (هي المعارضة الديمقراطيّة) مما أتاح للقديم بقيادة الباجي قائد السبسي أن يكون حكمًا بينها. ومن خلال الأسماء المترشحة عن المعارضة الديمقراطيّة فإنّ نجاح أحدها قد يكون عامل انقسام حادّ داخل هذه المعارضة.

سيناريو المرحلة التأسيسيّة قد يتكرّر فيكون اللقاء في الدور الثاني على مرشح من المنظومة القديمة، إذا ضمن الشرطين المطلوبين من الحركة الديمقراطيّة في كل مترشّح: فريق كفء في الموضوع المالي الاقتصادي ببرنامج إنقاذ مرحلي بقيادة رئيس يضمن الوصول بالمشهد إلى استعادة الديمقراطيّة ومسارها.

ويبدو لنا هذا هو الاحتمال الأقرب، فالوضع السائد غير قابل للاستمرار وهو ما يجعل من مهمة الرئيس الجديد إعادة الدولة إلى مجال الشرعيّة باستعادة "دولة التعاقد" على قاعدة المشروع الديمقراطي.  

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"