05-فبراير-2019

من عرض الافتتاح (دار الثقافة ابن رشيق)

 

ما معنى أن يكون الفن "ملتزمًا"؟ وما هو الالتزام في حدّ ذاته؟ هل الالتزام مرتبط بلحظة تاريخية ما لجماعة معينة؟ أليس حريًا بالفنّ كفعل وجود أن يكون بطبعه ملتزمًا بحثّ العقول والقلوب على التفكير والتغيير؟ أسئلة عديدة تنبت من المعلقة الإشهارية، على واجهة دار الثقافة ابن رشيق، للدورة الأولى للمهرجان العربي للموسيقى الملتزمة الذي ينتظم من 4 إلى 8 فيفري/شباط 2019.

ينتظم المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة في دورته التأسيسية من 4 إلى 8 فيفري 2019 ويتضمن عروضًا موسيقية من تونس وبقية الوطن العربي

لم تثن زخّات المطر الجمهور من الحضور بكثافة لاكتشاف فحوى هذه التظاهرة الثقافية الوليدة من رحم فعل فني قديم منشقّ عن السائد المهادن والسطحي.

فعل فني أطلقه فنانون وشعراء، فرادى ومجموعات، وقفوا عراة على ذرى الحرية وصدحوا بأعلى حناجرهم في وجه الدكتاتوريات المتجبرة وفي وجه القبح والتجبر والعنف، ومن بين هؤلاء: سيد درويش، والشيخ إمام، والهادي قلة، ومحمد بحر، وآمال الحمروني، وحمادي العجيمي. واُصطلح على وصف هذا الفن بـ"الملتزم" لأنه التزام بالدفاع عن الانسان عبر الفن فقط وخاصة عبر الموسيقى كلمة ولحنًا.

اقرأ/ي أيضًا: منور صمادح.. شاعر الحرية الذي ظلمته دولة الاستقلال

بديعة بوحريزي.. صوت ينحت في صخرة الحرية

حفل افتتاح المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة، الذي دام أكثر من ساعة ونصف من الزمن وواكبه "ألترا تونس"، أثثته فنانة تونسية لمع اسمها بعد الثورة وهي بديعة بوحريزي التي تكنى أيضًا بكنية بربرية وهي "نيساتو" وذلك رفقة عازفة القيتار الفرنسية فلوي كروشي.

الحفل كان كهروموسيقيًا أي بلا عازفين وتم التعويل فيه بذكاء وخبرة على التكنولوجيا الحديثة من أجل أن تصل الموسيقى للآذان والأفئدة عبر خيوط التناسق والترابط اللحني.

الجزء الأول الذي قدمته فلوي كروشي كان بحثًا يشبه الغوص في أغوار الموسيقى من خلال آلة "الباص" التي اختصت فيها هذه الفنانة وتقوم ببحوث بخصوصها في الهند مهد هذه الآلة التي تعطي صدى لأي لحن. حملت العازفة الفرنسية جمهور "دار الثقافة ابن رشيق" نحو استكشاف دروب منابت الموسيقى بطريقة أثيرية جذّابة، فكان عرضها نوعًا من السباحة نحتاجها أحيانًا كلّما أعيتنا الرتابة والقتامة.

وفي الجزء الثاني من الحفل، تقف الفنانة بديعة بوحريزي كفراشة على الركح، حافية القدمين، لينهمر صوتها التونسي هادئًا وخفيفًا يشبه الرذاذ خارج قاعة العرض. هو صوت مختلف لم نعهده من قبل، تسكنه اختلاجات رفض السائد الفني والموسيقى والثقافي.

من حفل بديعة بوحريزي في افتتاح المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة

اقرأ/ي أيضًا: وثائقي "عطاشى تونس".. عن المواطن والدولة وكذبة العدالة

تنبت في صوت بوحريزي غابات الثورة بين المجتمعي والسياسي، ويذهب بعيدًا في اتجاه الانساني والكوني خاصة عندما تغني للحرية. وتُعلى من قضايا الشعوب ومنها قضية الشعب الفلسطيني فتتحول أشعار فدوى طوقان إلى صوت مضيء يخرج من الحنجرة التونسية.

يبدو صوتها فلسفيًا خاصة عندما يناقش لحنيًا قضايا الوجود والموت والنسيان والذاكرة والقبح والحرب، ومن هنا يتأتى فعل التغيير الذي يقوم به الفن. من أرض هذا الصوت ينبت الالتزام بالجمال وبإنسانية الانسان بعيدًا عن تطويقات السياسة ودمار الشعوب.

صوت بديعة بوحريزي هو صوت مقاومة لكل قبح في هذا العالم ونحت متواصل في صخرة الحرية. وقد بدا امتدادًا لحناجر تونسية ناضلت من أجل الحرية والفن والجمال في أزمنة قاسية، هي الأصوات الخالدة لكل من مجموعات "الحمائم البيض"، و"البحث الموسيقى"، و"أجراس"، و"أولاد المناجم" و"أمازيغن"، و"الشمس الموسيقي"، و"أصحاب الكلمة"، و"ثلاثي ابن رشيق" إضافة لنجوم الفن الملتزم أمثال الهادي قلة، والزين الصافي، والأزهر الضاوي ومحمد بحر.

مدير الدورة لـ"الترا تونس": نريد تكريم الأغنية البديلة ورموزها

التقى "ألترا تونس"، على هامش حفل الافتتاح، مدير الدورة الأولى للمهرجان العربي للموسيقى الملتزمة سفيان القاسمي الذي أكد، في بادئ حديثه معنا، أن هذه التظاهرة هي امتداد تاريخي لأنشطة الموسيقى الملتزمة التي كانت تحدث في دهليز "دار الثقافة ابن رشيق" في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وخاصة أنشطة الفنان الهادي قلة صاحب رائعة "بابور زمر شق البحر" ومجموعتي" خماسي ابن رشيق" و"ثلاثي ابن رشيق".

الجمهور المواكب للحفل الافتتاحي للمهرجان العربي للأغنية الملتزمة (دار الثقافة ابن رشيق)

 

وأضاف أن تونس عرفت تظاهرات وحضورًا للأغنية الملتزمة في الثمانينيات من بينها مهرجان حمادي العجيمي للأغنية البديلة سنة 1985 إضافة لمشاركات متميزة لكبار فناني الالتزام الموسيقي في العديد من المهرجانات الصيفية.

لكن يعتقد القاسمي، في حديثه، أن هذه الموسيقى أُهملت وهُمشت قصدًا، وانقطعت سبلها لأنها لم تلق هوى لدى النظام النوفمبري القائم واعتبرها ثورية ومقلقة ومفسدة للذوق بالنسبة له حسب تعبير محدثنا. وأشار، في هذا الجانب، لتضييق السلطة إعلاميًا بالخصوص على تظاهرة "اتجمعوا العشاق" التي أطلقها مسرح "التياترو" إحياءً لذكرى رحيل الشيخ إمام، أحد رموز الأغنية والموسيقى الملتزمة في الوطن العربي.

سفيان القاسمي (مدير المهرجان): همش النظام النوفمبري الموسيقى الملتزمة وتعمد إهمالها لأنها موسيقى ثورية ومقلقة له

وبين القاسمي أن تونس التي تعيش لحظة الحرية آن لها أن تستعيد كل ما له علاقة بالحرية ومن ذلك التظاهرات المتصلة بالموسيقى والأغنية الملتزمة، مؤكدًا أن هيئة المهرجان التي تتكون من فنانين خبروا هذا الفن، ومنهم عمار القاسي من مؤسسي فرقة " الحمائم البيض"، تريد تكريم الأغنية البديلة ورموزها تونسيًا وعربيًا.

يُذكر أن أنشطة المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة تتوزع على أربعة فضاءات وهي دار الثقافة ابن رشيق، ودار الثقافة ابن خلدون، والنادي الثقافي الطاهر الحداد بالمدينة العتيقة، وفضاء "كارمن".

وإلى جانب عرض "إسكندرلا" من مصر و"تردستان" من المغرب، تحتوي البرمجة على عروض موسيقية أخرى من تونس إضافة لندوة علمية بعنوان "الأغنية الملتزمة والتحولات الاجتماعية " على طيلة يومي 5و6 فيفري/شباط 2019، فضلًا عن معرض وثائقي يقدم لمحة تاريخية عن الموسيقى والأغنية الملتزمة بتونس.

برنامج المهرجان العربي للأغنية الملتزمة

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرعب في "دشرة".. عن السحر والشعوذة والهلاك المؤجّل

مسرحية "كاليغولا" للفاضل الجزيري: أسئلة في الحب والحرية والإرادة