بدا واضحًا أنّ عقلي عاجز عن التفكير في شعار المعرض الوطني للكتاب التونسي والذي اختار له منظّموه عبارة "خُذ الكتاب"، دون أن أتمّ الكلمة الموالية من هذه الإحالة القرآنية.. "خُذ الكتاب بقوّة"! لماذا أصرّ على النطق بما سكت عنه الشعار؟ "القوّة"، هل افتُك هذا المعرض بالقوّة من بين براثن جائحة كورونا مثلًا؟ بالتأكيد كان "المخاض" صعبًا، وإلّا لما أجمع الكلّ على اعتبار هاته الدورة "دورة التحدّي بامتياز".
أصعد درجات مدينة الثقافة الواقعة بشارع محمد الخامس بلهفة تثير ريبة رجل الأمن على الباب. يقيس حرارتي بجهازه ويطلب مني تمرير حقيبتي تحت جهاز الكشف، أكاد أخبره أنها خاوية على كل حال، قبل أن أتذكّر أنها لن تبقى على حالتها تلك لحظة الخروج. من المؤكد أنني على موعد مع كتب كثيرة، تنتظرني هي لأداعب صفحاتها أكثر مما أنتظرها أنا ربما.. إذ لم أقرأ نصف اقتناءاتي من المعارض السابقة بعد!
العضو المكلف بالتنسيق مع سلطة الإشراف بخصوص الدورة الثالثة للمعرض: تجنبنا أن يقع ترذيل المعرض بالتأجيل المتكرّر كما حدث مع المعرض الدولي
أهرع إلى الجناح الأول شمالًا، أحيّي الناشر الصديق بحرارة قبل أن أبدأ سلسلة من الاجتماعيات الرئيسية ككلّ دورة من المعرض، من قال إنّنا نلبّي دعوة الكتاب فقط؟ إنّنا نلبّي دعوة رفقاء الفكر، وأصحاب الهواية نفسها أولًا وقبل كلّ شيء. يخبرني أحد الأصدقاء أنّي تأخرت في زيارتي لهذه الدورة الثالثة، لكنّي أعلم أنّ المعرض يتواصل إلى غاية 27 من شهر جوان/ يونيو 2021، لا بأس أملك الوقت الكافي.
أتجوّل بين الأجنحة المختلفة أقلّب شتّى العناوين، وذهني ما انفكّ يقارن بين المعرض الدولي وهذا المعرض الوطني.. الأوّل أُجّل مرة أولى وثانية وثالثة.. والثاني أُخّر أيضًا بعد موعد كان مقرًرا له. معرض محليّ يضمّ دور النشر التونسية لا غير، فكرة مميّزة تقطع مع "موسمية" المعرض الدولي، وترسّخ فكرة أن يقرأ التونسي للكاتب التونسي، لكن أليس موعد المعرض الوطني قريبًا جدًا من موعد المعرض الدولي المقرّر في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني القادم؟ ألم يكن من الأسلم توسيع هذه الفترة خاصة وأنها فترة امتحانات؟
يجيبنا العضو المكلف بالتنسيق مع سلطة الإشراف بخصوص الدورة الثالثة للمعرض، ورئيس تحرير مجلة الحياة الثقافية يونس السلطاني في تصريحه لـ"الترا تونس" بقوله إنّ هذه الامتحانات ستنتهي قبل نهاية المعرض، كما لم يكن من الممكن تأجيل هذه الدورة أكثر مما أجّلت، يضيف: "تجنبنا أن يقع ترذيل المعرض بالتأجيل المتكرّر كما حدث مع المعرض الدولي".
العضو المكلف بالتنسيق مع سلطة الإشراف بخصوص الدورة الثالثة للمعرض: سجّلنا ارتفاعًا في عدد دور النشر مقارنة بالدورتين الأولى والثانية، إذ أصبح العدد 64 بعد أن كنا في حدود 53 ناشرًا في وقت سابق
سألناه عن جديد هذه الدورة، فأجابنا: "أطلقنا على هذه الدورة اسم المفكر الراحل هشام جعيّط، ويمكن أن نسجّل بداية ارتفاع عدد دور النشر مقارنة بالدورتين الأولى والثانية، إذ أصبح العدد 64 بعد أن كنا في حدود 53 ناشرًا سابقًا.. التحدي كان يكمن في تنظيم هذا المعرض رغم عدم انتهاء خطر جائحة كورونا، وأصررنا على عودة الحياة الثقافية إلى طبيعتها من خلال المحافظة على الأنشطة المبرمجة".
اقرأ/ي أيضًا: دكاكين الكتب القديمة في "الدباغين".. أرشيف لحفظ الذاكرة
ويتابع السلطاني: "المحتوى متنوع وثري، ولأول مرة يقع توثيق للدورة من حيث البرنامج وعناوين دور النشر المشاركة فضلًا عن الندوات والأمسيات المقامة. وقد تكفل بذلك الاتحاد العام التونسي للشغل الذي طبع عديد الكتب لتكريم ثلة من أدباء تونس، عدا المؤسسة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة وذلك في إطار انفتاح الدورة الثالثة على تشريك كل أطراف المجتمع المدني" وفق قوله.
وأضاف أن الفقرة المتميزة في هذا المعرض أيضًا كانت اعتبار ولاية صفاقس ضيفة هذه الدورة عبر تكريم ثلة من أدبائها، بالإضافة إلى تركيز خيمة تتوسط بهو مدينة الثقافة تحتضن الأنشطة الثقافية والندوات المصاحبة، قائلًا: "عدد الزوار في ارتفاع، ونحن نعمل على احترام البروتوكول الصحي".
وتثار مع كل دورة من دورات المعرض الوطني للكتاب التونسي، عدة أسئلة لعلّ أهمها: هل يقرأ المواطن التونسي؟ وإن كان نعم، فهل يقرأ للكاتب التونسي؟
اقرأ/ي أيضًا: 85 في المائة من التونسيين لم يقرؤوا كتابًا خلال السنة الفارطة
يتوجه "الترا تونس" بالسؤال إلى مؤسس شركة "فيغا بوك" أيمن دراوي الذي أجاب بقوله إنّ "التونسي يقرأ حين نعطيه الكتب التي تتماشى مع ذائقته، لكن ما يحدث هو العكس، إذ تقع عملية الصنصرة من بعض الناشرين الذين يحكمون حكمًا فرديًا على ذائقة الأفراد، فقد يرفض ناشر ما عملًا لأنه يعتقد أنه لن يلقى رواجًا في السوق التونسية، وهذا حكم مسبق".
وتابع دراوي: "نحن لم ندرس القارئ بعمق للأسف، وليس صحيحًا ما يروّج من أن التونسي لا يقرأ، ويؤلمني أن رؤية النشر لا تتطور في تونس، فنجد أجناسًا غائبة تمامًا أو نسبتها قليلة مثل الفانتازيا، وكتب الخيال العلمي.. ثمّ إن القرّاء خارج تونس لا يعرفون الكتّاب التونسيين، ومن هنا جاءت فكرة مشروعي".
مؤسس شركة "فيغا بوك": اخترت أن أكون في البداية ناشرًا رقميًا لكني تحولت إلى موزّع رقمي أيضًا حين لاحظت النقص في هذا الجانب، وهناك عملية صنصرة تحدث من بعض الناشرين
ويضيف دراوي: "تعدّ الشركة أول موزع للكتاب الرقمي في تونس وإفريقيا وهي تقوم بتوزيع الكتاب التونسي إلى العالم عبر تحويله لكتاب رقمي، لقد اخترت أن أكون في البداية ناشرًا رقميًا لكني تحولت إلى موزّع رقمي أيضًا حين لاحظت النقص في هذا الجانب" وفق تعبيره. مشددًا على أن الشعوب تحترم بعضها من خلال الكتابات التي تتبادلها.
وقد كان لزامًا أن يتطرق "الترا تونس" للإجابة عن هذا السؤال إلى صاحبة أول مجموعة فيسبوكية تعنى بالكتاب التونسي، تقول سماح القطفاوي: "صُدمت حين طرحتُ في إحدى مجموعات القراءة سنة 2013 سؤالًا أطلب فيه أن ينصحوني بكاتب تونسي، تفاجأت من التعليقات التي كان بعضها يستغرب طلبي هذا، هناك من حاول ثنيي عن الأمر باقتراح أسماء كتّاب غير تونسيين، البعض استهجن هذا الطلب.. قلة فقط من بدؤوا في تعداد الكثير من الأسماء التونسية، وهنا كان الاستغراب من نصيبي أنا إذ لم أكن أعرف أغلبهم".
صاحبة مجموعة فيسبوك "اقرأ تونسي": كنتُ أصدم أحيانًا بتعليقات في هذه المجموعة لدى نشرنا لمراجعة حول كتاب تونسي ما.. وحين أسأل أصحاب هذه التعليقات عن آخر كتاب تونسي قرؤوه، أكتشف أنهم لم يفعلوا أبدًا
تتابع القطفاوي بقولها: "عزمت حينها على إنشاء مجموعة 'اقرأ تونسي' وانضمت إليّ صديقتي سيرين بن حميدة، فأخذت المجموعة نهجًا متفردًا وجديدًا في تونس، ثم كنتُ أصدم أحيانًا بتعليقات في هذه المجموعة لدى نشرنا لمراجعة حول كتاب تونسي ما. أجد بعض التعليقات من قبيل: 'لا نملك أدبًا تونسيًا، إنما تقومون بالإعلاء من شأنه والنفخ في صورته ليس إلا'.. وحين أسأل أصحاب هذه التعليقات عن آخر كتاب تونسي قرؤوه، أكتشف أنهم لم يفعلوا أبدًا".
ولفتت القطفاوي في هذا السياق إلى أنها احتكت أكثر بعالم الكتب لدى عملها بإحدى دور النشر وعملي الحالي بمكتبة، وقالت: "اكتشفت أسماءً عديدة لكتّاب من تونس هم جديرون بأن تصل كتاباتهم إلى العالمية، ولنا في رواية نازلة دار الأكابر خير مثال بعد وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، فكانت خير سفير للقرّاء العرب بأن لتونس كتّاب بارعون" وفق تعبيرها.
اقرأ/ي أيضًا: "نازلة دار الأكابر".. الطاهر الحداد مرآة لتراجيديا الحب والنضال في تونس
وتواصلت الجولة بأروقة المعرض الوطني للكتاب التونسي أين التقينا صاحب موقع "بوك سبايس" لبيع الكتب وليد النميلي، سألناه عن رأيه في المعرض وإقبال القارئ على الكتاب التونسي فقال: "أجريتُ على فيسبوك سبر آراء حول آخر كتاب تونسي قرأه أعضاء المجموعة، كانت النتيجة أن أغلبهم قرؤوا كتابًا تونسيًا وحيدًا، وهي الكتب التي حظيت بشهرة واسعة، ما يعني خوف القارئ التونسي من الكاتب التونسي، فالقارئ لا يريد أن يشعر بالإحباط والخذلان إن لم يعجبه الكتاب.. لا يريد أن يغامر، ولهذا فهو يبحث عن كتب مضمونة مشهورة غير تونسية".
وأبرز النميلي في تصريحه لــ"الترا تونس" أنه "مع ذلك، تظلّ نسبة القرّاء في تزايد بفضل الانترنات أولًا وقبل كل شيء، لكن وسط هذا العالم الرقمي اللامتناهي، يطالعك هؤلاء المؤثرون من غرفهم الخاصة أو من المطبخ أو من غرف الصالون، أو من أي مكان في بيوتهم أو خارج بيوتهم ليحدثوك عن آخر العناوين التي قرؤوها، وجدوا من الشجاعة ما يكفي ليحملوا على عاتقهم واجب التعريف بالكاتب التونسي ومشاركة متعة كتاب لذيذ".
صاحب موقع "بوك سبايس" لبيع الكتب: القارئ التونسي يخاف من الكاتب التونسي، فالقارئ لا يريد أن يشعر بالإحباط والخذلان إن لم يعجبه الكتاب.. لا يريد أن يغامر، ولهذا فهو يبحث عن كتب مضمونة مشهورة غير تونسية
وأردف النميلي أن ازدياد نسبة القرّاء لن تحدث طالما لم توفر الدولة مكتبات في المدارس والمعاهد كي يقبل عليها التلميذ بشكل مجاني، وقال: "المدارس الخاصة اليوم فيها مكتبات كبيرة، ومن خلال تواصلي مع بعضها أكدوا لي أن الإقبال من طرف التلاميذ مهم جدًا على القراءة، فلماذا لا نرى المثل في المدارس والمعاهد العمومية؟" وفق تساؤله.
أومأت برأسي في اهتمام مشوب بقلق وأنا أستحضر إحصاءات عزوف التونسيين عن القراءة عمومًا، إذ إن نسبة التونسيين الذين اشتروا كتابًا خلال الـ 12 شهرًا الفارطة تبلغ 14 في المئة، وفق سبر آراء لمؤسسة "إمرود كونسيلتينغ"، أعلن عنه الجمعة 9 أفريل/نيسان 2021، المدير العام للشركة نبيل بالعم، وقال إن نسبة المقتنين للكتب كانت في سنة 2019 10 في المئة، وفي سنة 2018 كانت 9 في المئة، ما يعني أنّ هناك تحسّنًا ولو بنسبة ضئيلة، وفق تعبيره، فبعد هذه الإحصاءات، هل يهمنا أن يقرأ فعلًا التونسي للكاتب التونسي، أم يهمنا أن يبدأ في القراءة أولًا؟
اقرأ/ي أيضًا: