24-فبراير-2019

الحكومة لا تريد فتح ملف البناء دون رخصة فوق الأراضي الأثرية في قرطاج (Getty)

 

ما أحكم القوانين وما أوهن إرادة تطبيقها، هي الجملة التي استحضرناها مباشرة ونحن نقف على مرمى البصر من كاتدرائية سان لويس بقرطاج والمواقع الأثرية المحيطة، مشاهدين تلاصق البنايات الفوضوية وتشابك الأنهج والمسارات الترابية غير المعبدة. قرون من التاريخ والمعمار طُمست تحت الإسفلت والحديد في بضعة عقود من الفساد والإهمال.

بين ذلك الركام والفوضى، توجد مأساة لـ8 عائلات تسعى خلف استرجاع حقها في البناء على أرضها التي دخلت منطقة الآثار بجرة قلم ولم تغادرها بسبب ارتهانها لجرة قلم أخرى لا يُراد لها أن تنجز بعد.

8 عائلات تسعى خلف استرجاع حقها في البناء على أرضها التي دخلت منطقة الآثار في قرطاج بجرة قلم ولم تغادرها بسبب ارتهانها لجرة قلم أخرى

ماراطون الاستنزاف الجسدي والنفسي والمادي لهذه العائلات، بدأ في مارس/آذار 2011 مع إمضاء رئيس الجمهورية المؤقت حينها، فؤاد المبزّع، على المرسوم 11 لسنة 2011 القاضي بإرجاع كل الأراضي المتعلقة بالمنطقة الأثرية قرطاج سيدي بوسعيد إلى الملك العام وتشكيل لجنة تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية لإعادة النظر في مرجعية هذه الأراضي.

مرسوم تم بموجبه في الحقيقة وضع الجميع في سلّة واحدة، سلّة جمعت الفاسدين من أصهار بن علي وحاشيته ممن استولوا على أراضي فوق الأثار ودون وجه حق بأشخاص اشتروا بأموالهم وبصيغ قانونية ولكن فوق الأثار وأيضًا بأشخاص آخرين اشتروا وفق الصيغ القانونية وعلى مساحات قانونية غير أثرية.

لهث وراء حق مسلوب

تاركًا والده الثمانيني في المنزل، وقادمًا بتعب سنين من أوجاع وعذابات تلخصها حزمة من الأوراق التي تروي مسارًا كاملًا من المراسلات والشكايات لوزارة الشؤون الاجتماعية ورئاسة الحكومة وبلدية قرطاج وكل الهياكل ذات الصلة، قابَلنا حمدي معز، 54 سنة، على قطعة أرضه التي تحولت إلى مصبّ لفضلات ورشات البناء المحاذية.

اقرأ/ي أيضًا: الرسم العقاري 6648.. هنشير النفيضة غنيمة الدولة عبر العصور

يؤكد حمدي لـ"الترا تونس" أن العائلة تملّكت في البداية وفق مخطط التهيئة المصادق عليه من قبل وزارة التجهيز وبلدية قرطاج، وبموجب حكم رسم عقاري من المحكمة العقارية بعد أن أخرجت إدارة التراث قطعة الأرض من المنطقة الأثرية منذ 1992 مستدركًا بالقول: "لكن ضُربنا بعد الثورة بالمرسوم عدد 11 الذي دفع بجميع القطع ودون أي تمييز إلى المنطقة الأثرية وذلك دون الأخذ بعين الاعتبار لقرارات إدارة التراث".

مخطط التهيئة في المنطقة (عيسى زيادية/الترا تونس)

يضيف حمدي أنه بعد شكايات من المواطنين، نظرت لجنة فنية مختصة في الملف عبر دراسة امتدت على 3 سنوات بإشراف مختصين عالميين انتهت لوضع قطعة أرض عائلته وقطعة أخرى في نهاية المطاف خارج الآثار وفق مرجعيات وضوابط معينة ولكن "ظل القرار حبرًا على الورق في نظر حكومة تجاهلت وجود تقرير هذه اللجنة الفنية"، وفق تأكيده.

تقرير اللجنة الفنية الذي أكد انعدام القيمة الأثرية للأراضي محل النزاع (عيسى زيادية/الترا تونس)

ما يؤلم حمدي أكثر ويشجعه في ذات الوقت على مواصلة الكفاح هو تعب العشرين سنة التي قضاها والده في التقاضي، وعاشها رهين الكراء المشط الذي يتجاوز 800 دينار شهريًا. وعلى الرغم من أن والد حمدي مقاوم سابق قد تجاوز الـ 86 سنة ويعاني من أمراض مزمنة، لم يقابل من دولته إلا بالجحود والنكران ليتلخص حلمه الآن في رؤية أبنائه يتمتعون برزق حُرم منه هو في حياته.

تتجاهل رئاسة الحكومة المصادقة على تقرير اللجنة الفنية طالما أنه سيقودها إلى ضرورة شنّ حرب على المتملكين النافذين

وفق الشهادات والوثائق التي حصلنا عليها، بقي هذا الملف حبيس الرفوف رغم تقرير اللجنة المتكونة من 13 عضوًا والذي أقر بأحقية حمدي وجاريه في التملك والبناء ومحاسبة البقية ممن تعدوا على الملك العام والتراث الوطني، ولكن رئاسة الحكومة تتجاهل المصادقة على التقرير، طالما أنه سيقودها إلى ضرورة شنّ حرب على المتملكين النافذين هناك دون حق ممن أقاموا بناءاتهم فوق الملك العمومي والآثار بلا رخص ودون أية تهيئة عمرانية.

الدولة تتهرب من مسؤوليتها؟

هناء عياشي، 58 سنة، جارة حمدي تملك هي الأخرى شهادة ملكية لمساحة 227 متر مربع مسجلة على ملك زوجها وهي خارج الآثار منذ 1995 أي منذ شراء الأرض، وقد أودعت ملفها لدى هيئة الحقيقة والكرامة في 15 جوان/يونيو 2016 وتم الاستماع لها لاحقًا ولكن دون أية استتباعات.

وصل إيداع الملف لدى هيئة الحقيقة والكرامة (عيسى زيادية/الترا تونس)

تقول هناء في حديثها معنا: "همنا الآن أننا مجمدون والحكومة تتجاهلنا فهي لم تنف حقنا ولم تثبته، وإنما تتهرب من مسؤوليتها تجاهنا. ظروفنا المادية متدهورة وزوجي يعاني من السكّري ومرض العينين. نريد أن نبيع فليست لنا أموال لنبني ولا نريد أن نبني كالبقية دون رخصة لأننا سنكون في النهاية مجبرين على دفع الرشاوي حين البناء أو إدخال الماء والكهرباء".

وتضيف محدثتنا ساخطة: "رئاسة الحكومة أثبتت أنها تدافع عمّن لا حق لهم لأن الدراسة أثبتت أنهم قد شيدوا مساكن وعقارات بمليارات المليمات فوق الآثار، فيما تم دوس حقوقنا نحن المظلومين".

حكم ترسيم (عيسى زيادية/الترا تونس)

المصادقة رهين لمصالح المتنفذين!

كما حمدي وهناء، سعاد بن حسين موظفة تبلغ من العمر 52 سنة، وضعت أحلامها الشخصية خلف ظهرها لصالح أربعة توائم تحلم بإكمال دراستهم في الخارج.

سعاد مثل جاريْها أيضًا اشترت قطعة الأرض سنة 1995 من عند ورثة على الشياع، مسألة حلت سنة 2010 بعد قضية في القسمة منحت بمقتضاها شهادات ملكية فردية، كأراض صالحة للبناء.

سعاد (متضرّرة): متشبثة باعتماد المسار القانوني في ذات الوقت الذي ننظر فيه لقطعة أرضنا ولا يمكننا استغلالها

تشتكي سعاد من عدم تطبيق القانون على الجميع وترى كذلك أن المصادقة على قرار اللجنة رهين لمصالح أناس متنفذين خصوصًا وأن قطعة أرضها محاطة بالبناءات من جهاتها الأربع ودون أية رخص بناء.

تقول سعاد لـ"الترا تونس" إنها تشبثت باعتماد المسار القانوني حتى أن الإيجار التهم أموالها ولم يعد بمقدورها البناء وذلك "في ذات الوقت الذي ننظر فيه لقطعنا ولا يمكننا استغلالها" على حد تعبيرها.

مراسلة من العائلات المتضررة إلى رئيس الحكومة لتسوية الوضعية (عيسى زيادية/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: تجارة المخطوطات العبرية.. تاريخ يهود تونس المهرّب

وزير ثقافة سابق: متنفذون مورّطون في الملف    

بعد عشرات الشكايات والمراسلات لرئاسة الحكومة لم يلتفت أحد لهذه العائلات، حتى باتت خائرة القوى خصوصًا وأن من بين أفرادها المرضى والعاجزون. 

ولعل أكثر ما بقي في أذهان هؤلاء كصوت قرع الجرس ما قاله لهم أحدهم في وزارة الشؤون الثقافية بأن مشكلة هذه الأرض مؤبدة ولن تحل أبدًا بسبب أولئك المتنفذين الذين تهابهم الحكومة ولا يهابونها.

شهادة ملكية في رسم عقاري (عيسى زيادية/الترا تونس)

تنقلنا، من جهتنا، في أرجاء المنطقة وشهدنا تشييد عشرات المساكن الفخمة فوق المناطق الأثرية، فيما لا يزال بعضها قيد الإنشاء دون أن تكون هناك أي مظاهر لمحاولة التصدي أو الردع وهو ما يثبت مجددًا قصور تطبيق القانون الذي يحتكم لأهواء خاصة.

للتقصي أكثر خلف الموضوع، تواصلنا مع وزير الثقافة الأسبق مهدي المبروك، الذي ترك الوزارة في جانفي/يناير 2014، والذي أكد لنا أن الوثيقة التي حصلنا عليها من تقرير اللجنة صدرت في أفريل/نيسان 2014 تحت إشراف الوزير مراد الصقلي في حكومة مهدي جمعة، هذا الأخير الذي أكد محدثونا أنه امتنع عن مقابلتهم مرات عديدة.

الوزير الأسبق مهدي مبروك أكد لـ"الترا تونس" أنه لا يذكر الجزئيات الصغيرة في هذا الموضوع فهو لم يخرج بأي وثيقة من الوزارة حين غادر منصبه "احترامًا لأسرار الدولة وحرمة الأرشيف"،على حد قوله، ولكنه بالمقابل أشار الى أن رؤساء فرق رياضية وفنانون ولاعبو كرة قدم من بين جملة المتورّطين في الملف. والسؤال المطروح: كيف لهؤلاء أن يتملّكوا أراض في تلك المناطق ويبنون إقامات وقصور إلى الآن؟

مهدي مبروك (وزير الثقافة الأسبق): رؤساء فرق رياضية وفنانون ولاعبو كرة قدم من بين المتورّطين في ملف أراضي قرطاج

مبروك أكد أيضًا أن مديرة "اليونسكو" قد عبرت له في زيارتها آنذاك لقرطاج عن استيائها الكبير مما حدث للموقع من تخريب وفساد على اعتبار أنه إرث إنساني مسجل على لائحة اليونسكو.

جميع من قابلناهم هم موظفون بسيطون يحملون أحلامًا بسيطة، يمكن تلخيصها في وضع نهاية طيبة لشقاء عمر كامل، يؤرقهم حلم الحصول على رخصة بناء يتمكنون من خلالها من بيع تلك الأمتار التي يمتلكونها ذلك أن حجم القطعة الجملية لا يتجاوز 3000 متر مربع. ولأنهم ضحايا على أكثر من جبهة، فهناك من يراودهم على البيع ويبخسهم السعر لعدم وجود رخص بناء، لإيمانه بأن ما لم يحصلوا عليه هم بالقانون يمكنه هو الحصول عليه بمراوغة القانون ذاته، وأيضًا بالمحاباة مع المكلفين بتطبيقه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

آثار تونس.. معالم تختزل التاريخ وتعاني التهميش

أقدم القرى المأهولة في تونس.. "اللّاس" زهرة لا تبصر جمالها