05-مايو-2020

قراءة بين قدسية النقد وتجريم الآراء (صورة توضيحية/جيتي)

 

مقال رأي

 

اتفق علماء الاجتماع أن الإنسان عمومًا هو ابن محيطه وما ينشأ عليه. بيولوجيًا، طبيعة الإنسان وسلوكه هي نتاج ما يتوارثه من طبائع وصفات حسب علم الجينات، أضف إلى ذلك ما يعيشه من تجارب تغير وتؤثر عليه، بل تكسبه في بعض الأحيان صفات وأفكار جديدة قد تغير نظرته لحقائق ظنها ثابتة. كما سبق وأشار العلامة ابن خلدون مجازيًا في مقدمته لتأثير الطعام على خلق من يتناوله، في إشارة لدور الطبيعة والجغرافيا على السلوك عامة. نفس المبدأ ينطبق على ما نتناوله من أفكار ونلتهمه من تجارب فنية وأدبية يشحذ أفكارنا وأذواقنا حتى نمتلك بوهيميًا قاعدة مرجعية تخول لنا التقييم الفني والاختيار الانتقائي.

اتفق الجميع تقريبًا على أن أعمال هذه السنة بلغت من الرداءة ما لم تبلغه في السنوات القليلة الفارطة

مسلسلات رمضان هي سنة فنية بدأتها المؤسسة العمومية للإنتاج السمعي البصري إذ اقتصر إنتاجها الدرامي منذ الثمانينيات على مسلسل رمضاني دوري. لاحقًا، وحتى مع تحرر القطاع جزئيًا وتدخل الخواص مع بداية الألفينيات، إلا أن الإنتاج الدرامي لم يغادر ذلك الحيز الزمني، شهر رمضان الكريم، مما فرضا عليه طابعًا وجدانيًا مميزًا.

اقرأ/ي أيضًا: "قلب الذيب".. انتقادات لأخطاء التاريخ وهفوات الإخراج

فبات المسلسل الرمضاني، مثل "البريكة"، من وجبات الشهر ومميزاته حتى قاربت منزلته في النفوس منزلة الصوم. ورغم كل هذا، إلا أن المنتجين والمخرجين أبوا إلا أن يجعلوا من سنة 2020 سنة للنسيان بكل ما فيها، إن استطعنا ذلك طبعًا. إذ اتفق الجميع تقريبًا على أن أعمال هذه السنة بلغت من الرداءة ما لم تبلغه في سنوات القليلة الفارطة. مما يطرح تساؤلات جمة: هل هي أزمة إبداع أم أزمة كفاءة؟ ثم، أي جمهور يستهدف المنتجون من وراء تلك الأعمال؟ لكن أولًا وقبل كل ذلك، من المخول بنقد وتقييم مثل هذه الأعمال؟

قدسية النقد أم انتقائية آراء؟

لا شك عندي في أن من ينتج عملًا أدبيًا أو فنيًا ويقدم على نشره، فإنه ينتظر تفاعلًا مع فكرة قد تحدث تغيرًا يرجوه كحد أدنى أو ربحًا ماديًا نتاج لما بذله ومجدًا يخلده في أقصى الحالات. إلا أنه مع تعاسة ورداءة الأعمال المقدمة هذه السنة، التي وصفها الباحث التونسي حاتم التليلي المحمودي "الخردة الفنية"، يصر المريدون والدراويش، من أصدقاء بعض المتربعين على عروش السينما والتلفزة، على احتكار النقد على المختصين وتجريم آراء المتفرجين والمشاهدين.

لوهلة يبدو الأمر معقولًا و جميلًا، فما ضرنا لو تركنا الخبز للخباز! لكن لو أمعنا في ذلك لوجدنا أنه حق أريد به باطل. فهو فرار من ديمقراطية مستهلك صقل تجربته عبر مختلف الأطباق الفنية التي وفرتها العولمة والأنترنت، إلى دكتاتورية نقاد كان قد قبروهم منذ زمن حين قالوا بيننا سلطة المشاهدين.

من يستطيع أن يهب صفة الناقد أو ينتزعها في هذا العصر المفتوح والمعولم؟

في الحقيقة أرى للمسألة وجهين. في البداية، فلنقر إنصافًا أن النقد والتقييم هو حكر على المختصين والنقاد، ومنه فإننا ننزع صفة الناقد على المشاهدين بأطيافهم ومختلف أذواقهم وتجاربهم. لكن من يستطيع أن يهب صفة الناقد أو ينتزعها في هذا العصر المفتوح والمعولم؟ أليس هذا شبيهًا بمحاولة الكهنة لفرض حقيقة أو رؤية وتحريم أخرى بدعوى ميتافيزيقية مما يحيل إلى وصاية سلطوية فنية؟

 ومن جهة أخرى، يشيد هؤلاء المتسلطون على الساحة الفنية والمتحذلقون كلما ظهروا بنسب المشاهدة المرتفعة وآراء معجبيهم على أنها دليل نجاح على ما قدموه. والحال أنهم يتبرمون في الآن ذاته من فئة أخرى من المشاهدين رأت أن ما قدموه لا يرتقي إلى عتبة مسرح هواة مبتدئين! أليس هذا كيلا بمكيالين؟

نسب مشاهدة مرتفعة، ما الحكاية؟

إجمالًا وحسب ما قدمه الكاتب الكندي ألان دونو في كتابه "نظام التفاهة"، يمكننا القول إن الماكينة الإنتاجية الفرجوية في تونس قد نجحت منذ زمن في صناعة جمهورها الخاص والذي تقدر أن تسوق له ما تريد. أضف إلى هؤلاء عديد التونسيين وراء البحار ممن يبحثون عن "ريحة رمضان والبلاد" ولو في الرداءة والابتذال، علها تؤنس وحدتهم وقد أضناهم فراق العائلة والأحباب. وأخيرًا، العائلات التي لا ترى للإفطار طعمًا إلا بحضور المحطات المحلية المختلفة لتكسر أحيانًا صمتًا موحشًا، وتفرض صخبًا مؤنسًا أحيانًا أخرى. ولا ننسى أيضًا أن شهر رمضان هذه السنة يتزامن مع الحجر الصحي هذه السنة فيفرض على الملتزمين به أن يشاهدوا ما يقدم لهم بعد أن سئموا من مشاهدة المادة الدرامية الأجنبية طيلة أيام مضت.

اقرأ/ي أيضًا: "والله ما كادوني".. "النوبة" يعيد الحنين إلى مسرح الجنوب الخالد

لكن أليس ذلك هو المراد في نهاية الأمر؟ المشاهدة وما يأتي معها من إشهار؟ تبدو الصورة من هذا الزاوية هي الأقرب إلى الحقيقة. فالأمر برمته مجرد تجارة قصد الربح ولا تعدو أكثر من ذلك، عكس ما ادعته وزيرة الثقافة يوم أرادت أن تسمح بمواصلة التصوير رغم الحجر، وعللت ذلك متبجحة أنه لتوفير المتعة والفرجة للشعب الكريم في الليالي الرمضانية وسعيا نبيلًا في سبيل الثقافة. في حين أن ذلك لم يكن إلا في إطار رد جميل للذين ساندوها، من منتجين ولوبيات، لتنال منصبها في الوزارة التي عزلت منها يومًا.

إذًا فكما قلنا، يمكن تفسير هذه المهزلة من منظور مادي ربحي بعيدًا عن الادعاءات الفنية. لكن لماذا يغيب الإبداع كليًا؟ فحتى الرأسمالية الأميركية المتوحشة تنتج أعمالًا فنية راقية تستجيب لأذواق المشاهدين وأهواء النقاد، فلما الاستثناء في الحالة التونسية؟

أزمة إبداع أم أزمة تمويل؟

لا يختلف اثنان أن أدوات التصوير والإضاءة والإنتاج عمومًا تطورت وصارت في المتناول على مستوى عالمي، ويمكن أن يلاحظ ذلك من المشاهد الأولى لأي عمل تونسي محلي. كما أن أغلب الآراء اتفقت على أن المشكل في السيناريو والحوارات. فلماذا هذا العجز؟

كتب نيتشه يومًا في كتابه الأول "ولادة التراجيديا" حول تأثره بالأبداع الفني الإغريقي فقال: "لا بد وأنهم عانوا كثيرا لينتجوا مثل هذا الإبداع". ربط نيتشه الإبداع بما هو نتيجة للمعاناة في الحروب حينها وأفكار تراكمية للنقاشات الفلسفية المنتشرة فجادوا بتحف تراجيدية فنية تتجلى بترانيم "ديونيزوس" وتحت أنظار "أبولون". فأين المنتجون المعنيون في تونس من كل هذا؟ صراحة، لا أرى لمن شق سبيله بالتزلف والإبتذال في "التيلي- بوبال" (تلفزيون القمامة) سبيلًا إلى الإبداع. بالطبع لم نذهب إلى طرح الاستعانة بكتاب مختصين وروائيين، فذلك يعتبر إهانة لمتعددي المواهب وحط من قيمتهم.

 لا أرى لمن شق سبيله بالتزلف والابتذال في "التيلي- بوبال" (تلفزيون القمامة) سبيلًا إلى الإبداع

ربما هي إذًا أزمة ميزانية وأموال؟ يبدو هذا التفسير، إلى جانب فكرة طبيعة الجمهور المستهدف والإشهار، الأكثر منطقية. فصناعة الأفلام والمسلسلات تشابه في الغرب صناعة السيارات والإلكترونيات، بل إنها في بعض الأحيان أكثر ربحية منها لدرجة أنها تستقطب كبار المستثمرين وتحدث تنافسًا بينهم. ولكن ما السبيل إلى ذلك في حالتنا؟ هل نتوقع من رجال الأعمال المحليين، بما هم سماسرة وإقطاعيون، أن يتركوا ترويج علب الطماطم وفساد الصفقات العمومية ليبادروا لاقتحام عالم الإنتاج السينمائي والفني؟ عوالم لا يعرفون منها إلا مغازلة "فاتنات البوتوكس" وإشهار الياغرت والمقرونة! أظن أن الصورة واضحة الآن، كما أراها على الأقل!

في النهاية، اخترت هنا فقط أن أبدي رأيي بصفة عامة دون الخوض في تفاصيل تخرج عن نطاقي، وأن أحاول البحث عن تفسير لما شاهدت، وتجنبت ذكر أسماء أعمال بعينها ليس تنكرًا ومماطلة، ولكن لإيماني الشديد بحرية الفن. وحتى لا أكون قد ذهبت لا إراديا إلى ضبط خارطة ذوق تحد من حرية القارئ أو توجهه. لكن وبعد ما ذكرت، لا أرى ضيرًا من ذكر بعض الأسماء التي أعجبتني كمشاهد.

رغم البأس والابتذال، فلا يسعنا إلا الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل وإلا استحالت الحياة، خاصة عندما نرى محاولة "المايسترو" في السنة الفارطة وما رافقها من استحسان لما طرحته من قضايا مرتبطة بالواقع زمانيًا ومكانيًا، فاستقامت تجريبيًا على رأي "دولوز". وأيضًا في الختام، أود أن أشير إلى أنه كان أن يحمل رمضان طعمًا آخر لو اُستكمل تصوير مسلسل "الحرقة" بعد توقفه بسبب الحجر الصحي، وهو مسلسل يبدو حتى الآن أنه سيكون مفاجئة تعيد الأمل لجمهور يصر على الوفاء للمحلي رغم إغراءات الأجنبي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حاتم بالحاج لـ"الترا تونس": نقاد السينما والدراما في تونس عاطفيون (حوار)

من سيقود عالم ما بعد الكورونا؟