المدينة العتيقة، قلب العاصمة، الممتدة على ربوع أبواب تونس من باب سعدون إلى باب الفلة وباب عليوة وصولًا إلى باب بحر، هي جدران وأزقة ورائحة أسواق تختزل تاريخ العاصمة.
يعود بعضها إلى القرن الحادي عشر، فيما يعود جزء من تاريخ المدينة إلى العهد الحفصي في القرن الثالث عشر، وتحديدًا إلى عهد أبي زكرياء الحفصي الذي أسس سوق العطارين. فيما كان سوق البركة المشيّد بداية القرن السابع عشر مخصصًا لبيع العبيد، ثمّ أمسى سوقًا لبيع المصوغ. فيما نشأت في القرن التاسع عشر أسواق أخرى مثل سوق الشواشين وسوق الدباغين وسوق البلغجية وغيرها من الأسواق المرتبطة بالحرف التي ميّزت المدن العتيقة في تونس.
المدينة العتيقة في تونس العاصمة (Getty)
اقرأ/ي أيضًا: أبواب تونس العتيقة.. حكايات التاريخ والحضارة
ولم تكن المدينة العتيقة تتميز فقط بهذه الأسواق الشهيرة، بل كانت تزخر أيضًا بمساكن تتميز بهندسة معمارية ذات أعمدة حجرية تعلوها قباب من الآجر القديم، وبأبوابها الكبيرة، وأقواسها وبلاطها و"أصبطتها" (مفرد "صبّاط" وهي غرفة تعتلي طريقاً مسقوفة).
هندسة مميزّة باتت اليوم عنصرًا جوهريًا في التراث التونسي، وذات الأمر ينطبق على كلّ المدن العتيقة في مختلف ربوع تونس، في سوسة والمنستير وصفاقس والقيروان وبنزرت وغيرها من المدن الكبرى التي شيّدت فيها معالم تعطي رونقًا خاصًا لكلّ مدينة، وهو ما يفخر به التونسيون.
المدينة العتيقة.. عامل نجاح في الدراما والسينما
لم يساهم ثراء المدينة العتيقة من تراث معماري جاذب وأسواق حرفية قديمة لا تزال ناشطة لليوم في دعم السياحة والتجارة فقط، بل ساهم أيضًا، وبشكل فاعل، في إنجاح الدراما في تونس طيلة عقود، لا سيما وأنّ أغلب المسلسلات القديمة التي حققت نجاحًا جماهيريًا جرى تصويرها في المدن العتيقة على غرار "غادة" و"الخطاب على الباب" و"عنبر الليل" و"قمرة سيدي محروس" و"ضفاير" و"ريح المسك"، وآخرها سلسلة "جنون القايلة".
ساهمت المدينة العتيقة في إنجاح الدراما والسينما طيلة عقود لا سيما وأن أغلب المسلسلات والأفلام الناجحة جرى تصويرها في المدن العتيقة
أعادت هذه الأعمال التلفزية، التي عُرضت في شهر رمضان، ذاكرة المشاهد إلى الماضي ليكتشف حياة وعادات التونسيين في المدينة العتيقة بسكانها ومساكنها ومعمارها ومقاهيها وأجوائها القديمة.
السينما التونسية، قديمًا وحديثًا، لا تزال مرتبطة هي الأخرى بشكل لافت بالمدينة العتيقة، لاسيما وأنّ عديد الأفلام تم تمثيلها في أزقة ومساكن المدن العتيقة في العاصمة وبنزرت وسوسة والقيروان.
أماكن جعلت السينما التونسية تنجح في نقل صورة وعادات التونسيين وتراثهم ولباسهم وحياتهم اليومية، إذ من غير الممكن أن تًصوّر المرأة بالسفساري والمحرمة التونسية أو الرجل بالجبة والبلغة (نعل تقليدي) خارج أسوار تلك المدن. فلن تكتمل الصورة إلا إذا كانت في المدينة العتيقة حتى تنقل مشهدًا واقعيًا عن حياة التونسيين في تلك الفترة، والأمثلة عديدة.
عودة للمدينة العتيقة في السينما مجددًا
آخر الأفلام التونسية التي لقيت نجاحًا مؤخرًا هو فيلم المخرج إبراهيم اللطيف "بورتو فارينا" وهو الاسم القديم لمدينة غار الملح، إحدى أجمل المناطق في بنزرت، إذ تتميز بمعمارها القديم والجميل من منازل مشيدة بالحجر، بما فيها من سقيفة ووسطية وبيوت عديدة في كلّ منزل.
"بورتو فارينا"، التي ينحدر سكانها الأصليون من مالطا وأسبانيا، هي مدينة ساحرة، اختارها المخرج لأنّها تتميز بإطلالة على البحر بما يتماشى مع أحداث الفيلم الذي اتسم بطابع خاص شمل أزياء الممثلين وديكورات البيوت.
وهو ما أضفى على هذا الفيلم روحًا جديدة لم نشهدها في أفلام سابقة. وربّما لو تمّ تصوير الفيلم في منطقة أخرى غير "بورتو فارينا" ما كان ليكون فريدًا بتلك المشاهد التي أعادتنا إلى فترة زمنية قديمة.
مشهد من فيلم "بورتو فارينا" في منزل عتيق في مدينة "غار الملح"
وتمثل شخصيات "بورتو فارينا" صورة مصغرة عن المجتمع التونسي بمختلف أطيافه، حينما كانت تسيطر العقلية الذكورية على المجتمع ولا يمكن للمرأة أن تناقش أو تقرر، فقط ربّ العائلة هو المخوّل له تقرير مصير كافة أفرادها.
اقرأ/ي أيضًا: المدير الفني لمسرح الربط: هدفنا إحياء المدينة العتيقة ولم نتلق دعمًا (حوار)
صورة عن العائلة التونسية قبل عقود ما كانت لتكتمل لو لم يقع تمثيلها في بيت عتيق، بذلك المعمار القديم بشبابيكه وأبوابه الخشبية الكبيرة وبلاطه وأعمدته، فكّل ما فيه يميّز حقبة تاريخية مضت. وهنا نتحدّث عن قيمة المكان وما يمكن أن يضفيه على العمل السينمائي.
كان للسينما التونسية، قبل "بورتو فرينا" وتحديدًا عام 2017، موعدًا مع أنجح أفلام المخرجة سلمى بكار، فيلم "الجايدة" الذي تناول وضعية المرأة التونسية في حقبة الخمسينيات. إذ كانت تعاقب النسوة اللاتي أغضبن أزواجهن أو عائلاتهنّ، بوضعهن في بيت يدعى "دار جواد" لقضاء عقوبة الحبس التي وقّعها عليهن القضاء الشرعي، المعتمِد في أحكامه آن ذاك على المذهبين المالكي والحنفي. وتتولى السجانة الإشراف على النسوة اللاتي يقمن بأعمال الطبخ والنسج والتطريز وغيرها من المهام الموكلة للمرأة حصرًا حينها.
تم تصوير مشاهد فيلمي"الجايدة" و"بورتو فارينا" في مدن عتيقة في عودة لأجواء الحقب الزمنية التليدة
إذ تدور أحداث الفيلم بين سنتي 1954 و1955 راويةً معاناة المرأة التونسية من ظلم المجتمع والقوانين والعائلة قبل صدور مجلة الأحوال الشخصية، فلم تكن تستطيع المرأة أن تشرح شكوها مهما كانت درجة الظلم المسلّطة عليها.
صُوّر فيلم "الجايدة" في فيلا قديمة في منطقة "مونفلوري" بالعاصمة، بما يعيد للذاكرة معمار البيوت التونسية القديمة وأجوائها، فلم يكن من الممكن أن تنجح مشاهد النسوة السجينات لو تمّ تصوير الفيلم في بيت حديث بمعمار مختلف عن تلك الحقبة التاريخية. فيما تمّ تصوير أجزاء كبيرة في أزقة المدينة العتيقة، هناك حيث تشعر وكأنّك تشاهد شخصيات حقيقية عاشت تلك الفترة وليس مجرد أبطال جسدوا حقبة مضت.
خطر إهمال المدن العتيقة
ساهمت المدينة العتيقة في إنجاح السينما التونسية، فـ"عصفور السطح" و"باب العرش" و"يا سلطان المدينة" والعديد من الأفلام الأخرى اختار مخرجوها تصويرها في المدينة العتيقة. المدينة التي حفّزت المخرجين والسينمائيين على إنتاج أفلام طبعت الذاكرة التونسية سواء كانت أحداثها مستوحاة من فترة تاريخية ماضية، أو كانت قصصها مستوحاة من حياة التونسيين.
تعاني المدن العتيقة في تونس من إهمال وغياب الصيانة بالشكل المطلوب
لكن تكفي جولة بسيطة في عدّة مدن عتيقة بتونس حتى تلحظ الشقوق الكبيرة في الجدران، أو بعض المباني وقد وقع دعمها بأعمدة حديدية أفقدتها جماليتها، وباتت خطرًا على المارة. وقد خُصّصت أشغال الترميم فقط لأسوار المدن أو المعالم التاريخية الدينية كالمساجد.
مع الوضع الذي أصبحت عليه جلّ المدن العتيقة والبيوت القديمة، من تصدّع جدرانها نتيجة الاهمال، أو تهاوي أجزاء كبيرة منها بسبب غياب الصيانة حتى باتت مهددة بالاندثار، يأتي السؤال حول مستقبل السينما التونسية التي تنبني قصصها حول حقبة تاريخية ولّت، وهو ما قد يدفعنا مستقبلًا لبناء ديكور معلّب في الأستوديوهات بدل المدن التي تنطق جدرانها قصصًا وذكريات.
اقرأ/ي أيضًا:
"سوق القايد" في المدينة العتيقة بسوسة.. حفر في ذاكرة الحرف والفنون