"وما سمعونا.. وعلاش ما سمعونا.. شفت الظلم بعيوني يا ميمتي
يا لّي عليك حجبوني.. مالية الدموع جفوني.. والناس ما رحموني..
يا ميمتي ما سمعونا
قلي لوين هازيتنا
وقلي لواش القلوب قسات فيك يا حياتنا..
تقولش الأيام نساتنا
وما ودتنا كان بالأجراح اللّي كواتنا..
حتى أحباب خلاّتنا
لامونا على ما عملتش إيديّاتنا..
وزيدي زيدي في عذابنا...
نا عرفت ناس معادن والذهب غالي..
وعلاش هجرتني الأماني..
حتى زماني ما حلالي، الموج فيه عالي"
عبر هذه المقدمة الموسيقية الغنائية بصوت "الرّابور" (مغنّي الرّاب) التونسي (jenjoon)، يدخل المتفرّج التونسي دراما مسلسل "الفوندو" الذي تخرجه "سوسن الجمني" وينهض بالأدوار الرئيسية والاعتبارية الرمزية فيه كل من "كمال التواتي" و"رؤوف بن عمر" و"نعيمة الجاني" و"لطيفة القفصي" و"سامية رحيم" و"نضال السعدي " و"ياسين بن قمرة" و"أميرة الشبلي" و"سهير بن عمارة" والوجه الجديد مغني الرّاب "النوردو"..
كلمة "الفوندو" في المقول اليومي التونسي هو العميق أو سقف الكلام، وقد دخلت اللهجة التونسية عبر هجرات الإيطاليين إلى تونس في النصف الأول من القرن العشرين، وقد أصبح التونسيون يطلقونها على العميق والمتقن في الموسيقى والحرف والصنائع والفنون متقنة الصنع مثل المجوهرات الفاخرة وكلّ ما كان قد صنع بدقّة وبمكونات جيدة فيقال مثلا: "حرير فوندو" أو "ذهب فوندو" أو "غناية فوندو".
كلمة "الفوندو" في المقول اليومي التونسي هو العميق أو سقف الكلام، تُطلق على المتقن في الموسيقى والحرف والصنائع والفنون متقنة الصنع مثل المجوهرات الفاخرة
مسلسل الفوندو الذي يبث يوميًا خلال شهر رمضان وسط زحمة من الأعمال الدرامية التونسية والعربية، يلقى هوى لدى شريحة واسعة من المتابعين التونسيين وهو ما أكّدته مؤشرات نسب المشاهدة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا انشدّ المشاهد التونسي لهذا العمل التلفزيوني دون غيره؟
"الفوندو" يقدّمه صنّاعه في تصريحاتهم الصحفية والإعلامية بأنه "حفر في صميم الواقع التونسي" وهي جملة عادة ما تثير حفيظة النقاد والصحفيين المتابعين للمادة التلفزيونية على اعتبار أن الواقع ليس واحدًا بل هو متعدّد وأنّ ما تقدّمه مسلسلات قناة "الحوار التونسي"، وهي القناة التي يُبثُّ "الفوندو" على أثيرها، هو تضخيم للهامش الاجتماعي الذي يحدث ضمن سيرورة المجتمع المثخن بالمشاكل والمشاغل والقضايا الأساسية والكبرى التي تنتظر من الدراما أن تلتقطها وتتناولها وتحولها إلى إبداع، وما يترتب عن ذلك من نقاش بحثًا عن الحلول الممكنة، بل وتُتهم قناة الحوار بالعزوف عن القضايا الحقيقية للمجتمع التونسي مقابل الالتفات إلى قضايا العنف والمخدرات والتهريب..
اقرأ/ي أيضًا: "أولاد مفيدة" وإشكاليّة "البطل الآثم" في الدراما التونسية
وما يؤكد أنّ مسلسل "الفوندو" له الانسيابية الدرامية نفسها لمسلسل "أولاد مفيدة" ومن قبله "مكتوب"، هو النهج الدرامي الذي اختارته "الحوار التونسي" خاصة إذا ما علمنا أن المخرجة سوسن الجمني هي من أخرجت النسخة الخامسة من أولاد مفيدة مع الأبطال نفسهم تقريبًا ولصالح القناة نفسها.
إذا ما نظرنا سيمائيًا وبلاغيًا للعديد من المشاهد من "الفوندو" ندرك أن هذه الندوب المجتمعية موجودة على وجه في جسد المجتمع، وقد نعتبرها في بعض الأحيان هامشًا لنجدها قد تحولت إلى جوهر
الهامش الاجتماعي الذي أصبح جوهرًا
بعيدًا عن الإيغال في التعاطي الأخلاقوي مع "الفوندو" فإن هذا العمل التلفزي كان قريبًا من الواقع التونسي متوخيًا في ذلك عدة زوايا، لكن الزاويتين البارزتين هما:
- قسوة الظاهر:
ويتمثل ذلك في ما ذهبت إليه كاميرا سوسن الجمني مخرجة الفوندو من تركيز على العنف المتفشي في المجتمع وهو عنف متعدد الأشكال وبعض مظاهره طارئة على المجتمع التونسي بحكم حركة التاريخ والتغيرات الاجتماعية ذات الإيقاع السريع في العشرية الأخيرة، لكننا وضمن قراءة نفسية سريعة نسعى دومًا مجانبة هذا العنف وندفع به إلى الغرف المظلمة للمجتمع، ولا نريد له الظهور، في حين أنه وجه وقضية من قضايا المجتمع ولا بد من طرحها للنقاش والحديث حول مأتى العنف وإمكانات التخلّص منه وطرحه إبداعيًا وفنيًا على اعتبار أن ذلك يبقى من الوظائف الأساسية للفن والإبداع.
اقرأ/ي أيضًا: كاتب سيناريو مسلسل حرقة لـ"الترا تونس": حاولنا أن نخفّف جرعة الألم في المسلسل
وإذا ما نظرنا سيمائيًا وبلاغيًا للعديد من المشاهد من "الفوندو" ندرك تمام الإدراك أن هذه الندوب المجتمعية موجودة على وجه في جسد المجتمع، وقد نعتبرها في بعض الأحيان هامشًا لنجدها قد تحولت إلى جوهر يتجلى في ظواهر عديدة أو ما يعرف بالبثور المجتمعية، وبالتالي لا بدّ من استكناه المعاني والعبر مما تقدمه دراما الفوندو ومن ثمة البحث عن الحلول التي قد تقينا ما يمكن أن تخلّفه تلك الندوب، فالعوالم الدرامية التي شكّلتها كاميرا الجمني لتقول ما أرادت قوله حول القضايا المذكورة آنفًا لم تكن حاجزًا أمام إدراكنا لما يحدث في محيطنا من تهريب ومخدّرات وجريمة... بل هي تنقل لنا القلق المتأتّي من حبك الحكاية وتسلب منّا هدوءنا وسكينتنا فيتحوّل "الفوندو" إلى مرآة محدّبة نرى فيها ذاتنا التي لا نريد أن نراها.
- هشاشة الداخل:
ومن ثنايا ودروب القضايا المجتمعية التي تشير إليها كاميرا "الفوندو" ووفق رسم خطي وصلات عضوية حددها السيناريو، ينبثق الجانب الإنساني فتتحول الكاميرا إلى بحث عن العمق القيمي والعاطفي وذلك عبر توليفة عجيبة، فتطفو قصص صغيرة مترابطة ومتشابكة ومتقاطعة تقوم أساسًا على حسن ترتيب الأحداث والإيقاع بالمتلقي في التفاصيل المولّدة لجملة المشاعر الإنسانية الجامعة وتكون الشخصية الرئيسية "يحيى" هي الخيط الرفيع لتلك التوليفة أو الحبك الذي يخاطب فينا الوجدان أو الداخل فنتعاطف مع انكسارات الشخصية وهشاشتها وتشظيها فلكأنها نحن، أو هي صدى لبعض جراحنا، أو هي مرآة أحزاننا وفراديسنا المفقودة.. ويزداد الأمر تأثيرًا وتفاعلًا عندما تتواطأ الإضاءة وحركة الكاميرا وخفيض صوت الممثلين وحركة الجسد ضمن مشاهد انسيابية ومؤثرة ومفعمة بالرومانسية.. وهو ما يسهل عملية اختراق المتلقي الذي يسارع بالتعاطف..
مسرحيون كبار حملوا رصيدهم المنحوت على خشبات المسارح التونسية تقمصوا شخصيات هذا العمل الدرامي التلفزي فسكبوا من رحيق المسرح ما استطاعوا
المسرح الظليل
وللحديث عن أداء الممثلين في "الفوندو" لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن المسرحيين الكبار الذين حملوا رصيدهم المنحوت على خشبات المسارح التونسية متقمصين شخصيات هذا العمل الدرامي التلفزي فسكبوا من رحيق المسرح ما استطاعوا، ولنا أن نذكر كل من الرباعي الخبير: رؤوف بن عمر الذي تقمص دور العم مختار والد الشخصية الرئيسية يحيى، وكمال التواتي صاحب شخصية المروكي، ونعيمة الجاني والدة يحيى ولطيفة القفصي.. الذين تميز أداؤهم بالحرفية وتميّزوا في ملاعبة الشخصيات التي تقمصوها في المسلسل وذلك من خلال بساطة الحركة وسرعة البديهة في الحوار والنعومة في التفاعل مع نسق الأحداث...
وبخصوص أداء الممثلين الشباب: نضال السعدي وياسين بن قمرة وأميرة الشبلي وسهير بن عمارة فقد كان في غاية الانسجام والتكيف مع أدوارهم وقد تميز أداؤهم بالجدية والتفوق في بعض الأحيان رغم حداثة بعضهم.
أمّا الملاحظة العامة التي تهم أغلب الممثلين فتتمثل في كسر الصورة النمطية التي عرفوا بها في أدوار سابقة وخاصة الممثل كمال التواتي الذي انطبع دوره الكوميدي في سيتكوم شوفلي حل في ذهن المتلقي ولم يتزحزح لسنوات، لكنه بفضل حسن أدائه في "الفوندو" كسر الصورة النمطية.
"الفوندو" دراما تلفزية خلقت حولها جمهورًا متابعًا وخلقت حولها نقاشًا بخصوص الهامش المجتمعي الذي يطرحه، وأسرت قلب المتلقي الذي تعاطف مع الشخصية المركزية التي استبدت بها الانكسارات والهزائم القلبية المتتالية.. وهو عمل أعتقد أنه صالح التونسي مع المنظور الدرامي المحلي بعد أن كان قد هجره في السنوات الأخيرة لصالح الدراما السورية والتركية والمصرية.
اقرأ/ي أيضًا: