"أشكر الشباب الذي فتح صفحة جديدة في التاريخ"، هكذا خاطب رئيس الجمهورية المنتخب قيس سعيّد شبابًا صوّت له في الدور الثاني للانتخابات الرئيسية. شباب طالما أسال حبر المحللين والباحثين بسبب عزوفه عن الشأن العام للبلاد، فتتالت الدراسات والبحوث في تحليل أسباب هذا الموقف الرافض لكل الطبقة السياسية على اختلاف أيديولوجياتها وفهم انعدام الثقة الذي تعمّق على امتداد السنوات التي تلت الثورة التونسية.
تغيّر الموقف اليوم وحدثت ثورة جديدة عبّر فيها الشباب عن موقفهم وصنعوا فوز أستاذ القانون الدستوري وهو ما أحدث مفاجأة على الساحة السياسية. ولذلك، يحاول "ألترا تونس" في هذا التقرير توضيح أسباب عودة الشباب للمشهد الانتخابي وكيفية مساهمتهم في إنجاح العملية الانتخابية وفوز قيس سعيّد استنادًا إلى آراء مختصّين في علم الاجتماع ونشطاء في المجتمع المدني.
معاذ بن نصير (باحق في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": الفئة العمرية الشبابية ما بين 18 و25 سنة لعبت دورًا هامًا في صعود رجل القانون الدستوري
ففي صورة مخالفة لما حصل في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، كان مشهد إقبال الشباب منذ الساعات الأولى لفتح مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم أهمّ ما ميّز يوم الاقتراع للطور الثاني من هذا الاستحقاق، حيث بلغت نسبة الإقبال على الاقتراع بالنسبة للفئة العمرية المتراوحة بين 18 و25 سنة 11.6 في المائة فيما تراوحت نسبة الإقبال على التصويت بالنسبة للفئة العمرية المتراوحة بين 26 و45 سنة فقد بلغت 39,2 في المائة. نسب تعتبر مرتفعة مقارنة بالنسب المسجّلة في الانتخابات التشريعية أو الدور الأول للانتخابات الرئاسيّة.
اقرأ/ي أيضًا: هل أعاد النّصر السّاحق لقيس سعيّد النفس الثوري للتونسيين؟
السلوك الجمعي أثّر على قرار الناخب الشاب
وفي هذا السياق، يرى الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير أن نتائج الانتخابات الرئاسية كانت منتظرة في ظل تعدد العوامل المباشرة المحيطة بالعرس الانتخابي على غرار المناظرة التلفزية التي وقعت بين المترشحين والتي ساعدت على صعود أسهم قيس سعيد شعبيًا وخاصة عند مخاطبته للتمثلات الاجتماعية وللصور الاجتماعية التي نشأت عليها عدة أجيال والتي من أهمها القضية الفلسطينية، فالتونسي في مخيلته وثقافته تبقى القضية من أهم القضايا الذاتية والوطنية والعربية لذا إجابة سعيّد قد خلقت حوله نوعًا من التعاطف الشعبي وتم تسويقه على أنه منقذ وبطل قومي، على حدّ تعبيره.
ويضيف بن نصير في مقارنة ما قاله قيس سعيّد بإجابة نبيل القروي التي اعتبرها جدّ باهتة وهذا ما أضعف رصيده من الجماهيري، مبينًا أن الفئة العمرية الشبابية ما بين 18 و25 سنة لعبت دورًا هامًا في صعود رجل القانون الدستوري على اعتبار أنّ هذه الشريحة العمرية قد عايشت السنوات الثمانية ما بعد الثورة وتخبطت في المعيش اليومي الصعب من التهميش وغول البطالة والمشاكل الاجتماعية الحارقة، لذا رأت في شخص سعيّد الشخص المناسب لتصحيح مسار الثورة على حد قول البعض.
وأشار محدثنا إلى أنّ صوت الشباب الجامعي كان مؤثرًا على نتائج الانتخابات فأغلب الجامعيين يشعرون بمنطق الانتماء لهذا الجامعي (notion d’appartenance) عبر صورة المثقف والجامعي وكذلك التأكيد على تاريخه النظيف وبعده على منظومة الفساد ماقبل الثورة وما بعدها، حسب قوله.
سوسن غريبي (باحثة في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": بعض الشباب انتخب قيس سعيّد لا بسبب برنامجه بل لنظافته واستقامته في مقابل شبهات الفساد التي طالت المرشح نبيل القروي
وأكّد بن نصير أن قلة الحضور الإعلامي قد ساعد حملة الفائز موضحًا أن البعض من التونسيين سئموا نفس الوجوه السياسية المكرّرة على مر سنوات داخل المنابر الإعلامية والتي استهلكت بدرجة كبيرة، فقيس سعيّد استثمر هذه النقطة رفقة فريقه الاتصالي والتي كانت لها الأثر الايجابي على حملته بل تواصلت إلى مناداة البعض من التونسيين لمقاطعة بعض القنوات التلفزيونية الخاصة بنعتهم بـ "إعلام العار".
ولاحظ محدّثنا أن السلوك الجمعي هو الذي حدّد السلوك الفردي، فموجة الدعم والمساندة خاصة داخل الفضاء الافتراضي كانت بطريقة كبيرة جدًا عبر صفحات التواصل الاجتماعي وتغيير صور "البروفايل" بصورة قيس سعيّد فتأثر العديد من التونسيين وانساقوا مع هذه الحملة والسلوك الجمعي، وفق تصريحاته.
الشباب اختار مرشّحًا يتميّز بـ"عذريّة سياسيّة"
وفي نفس الإطار، تؤكّد الباحثة في علم الاجتماع سوسن غريبي أنّ ارتفاع نسبة المشاركة الانتخابية يعكس رؤية مجتمعية لمنصب وشخصية رئيس الجمهورية، حيث مازال الناخب يقبل على الانتخابات الرئاسية أكثر من الانتخابات البرلمانية، وذلك باعتبار أنّ رمزية القائد متجذرة تاريخيًا وذهنيًا، فصورة الرئيس تبقى دائمًا ذات دلالات رمزية مهمة، على حدّ قولها.
أما بخصوص فوز قيس سعيّد الذي استطاع نيل ثقة 2.777.931 ناخب وناخبة، وخاصة من فئة الشباب والجامعي منه على وجه الخصوص، تقول محدّثتنا إن لهذا الحدث عدة دلالات، فهذه الفئة تمثّل جيل الحرية وجيل الثورة وخاصة الفئة العمرية التي تتراوح بين 18 و27 سنة، وهو جيل غير منتم حزبيًا وهو ابن الثقافة الإلكترونية المعاصرة، لذلك أثّر وتأثّر بشبكات التواصل الاجتماعي، حيث مثّل فيسبوك أحد محامل التنشئة السياسية وصناعة الخيارات الانتخابية، بطريقة تتجاوز التقسيمات الطبقية والأيديولوجية، بل هو يتحرك في إطار شبكي بامتياز، وهو يشتغل خارج دائرة المؤسسات التقليدية على حدّ تعبيرها.
اقرأ/ي أيضًا: بعد نتائج الانتخابات التونسية، هل انتهى عهد الأحزاب التقليدية؟
أحمد بن عمار (عضو جمعية شباب تونس يؤثر) لـ"ألترا تونس": الشباب صوّت لفكره ولمصلحته ومن أجل صنع الفارق
وتضيف سوسن غريبي أنّ قيس سعيّد أعطى الثقة للشباب بمختلف انتماءاته الأيديولوجيّة والذي آمن بمشروع قيس سعيّد منذ سنة 2012، مضيفة أن جزءًا من هذا الشباب كان خزّانًا انتخابيًا متحوّلًا من خلال القرب من الطلبة الذين استطاعوا حشد المناصرين أكثر، وهذا ما أكّده الباحث بيار بورديو وباسرون الذي قال إنّ الطالب إمّا أن يخلق أو أن يكون مآله الابتلاع، فإذا اختار الطريق الثاني يكون دوره سلبيًا في المجتمع، أمّا إذا اختار الطريق الأول فسيدفعه ذلك إلى العمل وسيكون صانعًا مثقفًا ومتمرسًا على النشاط الفكري بالعمل المتواصل.
وعن بقيّة الأسباب تقول الباحثة في علم الاجتماع: "لا يمكن أن نغفل أنّ بعض الشباب انتخب قيس سعيّد لا بسبب برنامجه ولا رؤيته المجتمعية، بل لنظافته واستقامته في مقابل شبهات الفساد التي طالت المرشح نبيل القروي".
وتضيف أنّ الشباب قاطع النخبة السياسية التي لم تغيّر معيشهم اليومي واختار قيس سعيّد كبديل، "يتميز بالتصاقه بهموم الشعب ويناصر القضايا العادلة ويعلي سلطة القانون، وهي أهم أسس خطابه القائم على المنحى الاجتماعوي وضد الليبرالية"، لذلك رأى فيه الشباب رجلًا خارج النسق السياسي، يتميّز "بعذرية سياسية".
وتختم محدّثتنا حديثها قائلة إن "الممارسة الانتخابية للشباب تنقسم إلى نوعين، شباب انتخب بطريقة عقلانية وواعية، وشباب انتخب بطريقة عاطفية، أمّا الشباب الذي كان متردّدًا، فربما ساهمت المناظرة التلفزية التي كان لها مردودية سياسية كبيرة حيث كان خطاب قيس سعيّد واضحًا وتكلّم لغة فصيحة وصوت عال وبثقة كبيرة بالنفس، في مقابل ضعف أداء المرشح المنافس نبيل القروي، بالإضافة مع تسريب عديد الفيديوات التي تدينه، والتي التقطها الشباب، ورفض إعطاء صوته لنبيل القروي، ومنحه لقيس سعيّد".
شباب اليوم أصبح أكثر نضجًا ووعيًا
"الشباب ذهب للانتخاب لقناعة في داخله أنّه يريد التغيير"، هكذا فسّر عضو هيئة مديرة جمعية "شباب تونس يؤثر" أحمد بن عمار ارتفاع نسبة إقبال الشباب في الدور الثاني للانتخابات الرئاسيّة، معتبرًا أنّ نسبة الوعي ارتفعت عند الشاب التونسي ولم يعد رهين سياسة القطيع، على حدّ قوله.
وقال بن عمار إنّ المشهد اليوم شبيه بالذي وقع في انتخابات 2014 حيث كان الاستقطاب الثنائي الفيصل في حسم نتائج الانتخابات رغم انعدام الحملات الانتخابيّة والتي اقتصرت على صراع كان افتراضيًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مضيفًا أنّ الشباب اليوم أصبح أكثر نضجًا وأصبح يفكّر ويبحث عن المعطى الصحيح ووجد في شخص سعيّد صورة المرشّح المثالي التي يعبّر عن طموحه وتطلّعاته، وفق تقديره.
وأكّد محدّثنا أنّ الشباب صوّت لفكره ولمصلحته ومن أجل صنع الفارق لذلك وجب تثمين هذا الدور الذي قام به وترسيخه كثقافة دائمة في كل المحطات الانتخابية القادمة.
ورغم تعدد قراءات عودة الشباب إلى المشهد السياسي عبر بوابات الانتخابات، فإن نتائج الاستحقاق الرئاسي تدلّ على استعادة ثقة الشباب في صوته وقدرته على التغيير خصوصًا بعد الحملات المواطنية التي أطلقها عديد الشباب للنظافة ولمقاطعة السلع الأجنبية ودعم الصناعات التونسية وغيرها.
اقرأ/ي أيضًا:
هل قوّضت الانتخابات التشريعية والرئاسية نظرية "العروشية"؟
بعد إسقاط قائمتين فقط..هل تحاشت هيئة الانتخابات إسقاط قائمات "الأحزاب الكبرى"؟