يُعتبر الاستعداد للتغيّر شرطًا أساسيًّا من شروط التقدّم، سواء كان التغيّر ثوريًا أو إصلاحيًّا أو تعديليًّا، تنطبق هذه المعادلة العلميّة والحضاريّة على الأفراد والمجموعات والأوطان والأمم. كما تنطبق على الفكر والخطاب والذوق والفنّ وسائر أشكال التواصل وأدواته وتقنياته، وقد وصف العرب الإنسان قديمًا بكونه "حُوّلا قُلّبًا" أي كثير التبدّل و"الانتقال من حال إلى أخرى" على حدّ تعبير الجرجاني في كتابه التعريفات.
الرغبة في التغيير والسعي إليه تفكيرًا وتخطيطًا وإنجازًا سلوك إنسانيّ ومنهج حياتي أثنى عليه القرآن، وعدّه شرطًا لا غنى عنه لتخطّي المحن، "إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم" (سورة الرعد، الآية11).
وبناء على ذلك فإنّ رفض التجديد في العديد من المجالات يعدّ آية من آيات التكلّس والانغلاق والرجعيّة، وهو ما يفضي في الغالب إلى التشدّد والتخلّف ورفض الآخر، وقد يخلّف هذا الموقف وضعيّات أكثر حرجًا، فيتحوّل المتمسّك بالثوابت تمسّكًا صنميًّا إلى موضوع سخرية واستخفاف وتندّر، كأن يرفض مثلًا رفضًا قطعيًّا استخدام التقنيات الحديثة في الحاجات العلميّة والصحيّة وغيرها، حينها يمكن أن يوصف بالأميّة والظلاميّة، ويتمّ تشبيهه بالموتى وأهل الكهف.
ماذا لو أصبحت التحوّلات الحربائيّة ظاهرة تُصيب من استأمنهم التونسيون على حسن التشريع والتدبير والتخطيط؟ ماذا لو انتقلت حمّى التبدلّ والتغيّر إلى الرأس، أقصد رأس النظام رئاسة وحكومة وبرلمانًا ونخبة؟
اقرأ/ي أيضًا: في الصراع والتدافع أو جدل التأسيس والانتقال الديمقراطي
وبصرف النظر عن التغيّر الطبيعيّ التلقائيّ، فإنّ التجدّد يخضع إلى شروط موضوعيّة وأسباب دافعة وأخرى جاذبة، كما أنّه يقتضي الالتزام بجملة من الضوابط حجمًا ونوعًا وتواترًا، وفي حالة العدول عن هذه الضوابط يفقد التغيّر وجاهته وسلامته، ويخرج من مقام الاستحسان والتثمين إلى موضع التقبيح والتأثيم، فتغدو بعض وجوه التحوّل من المؤشّرات الدالّة على الفوضى والتذبذب والارتباك، وقد تكشف عن حالات عُصابيّة أو انحرافات سلوكيّة.
هذه الحالات يمكن إخضاعها إلى المتابعة الطبيّة والعلاج السريريّ، أمّا تلك الانحرافات فينبغي التصدّي لها إبرازًا ونقدًا وبحثًا في أصولها ودوافعها ومخاطرها، لكن ماذا لو أصبحت التحوّلات الحربائيّة ظاهرة تُصيب من استأمنهم التونسيون على حسن التشريع والتدبير والتخطيط والتنفيذ في فترات الانتقال الديمقراطيّ؟ ماذا لو انتقلت حمّى التبدلّ والتغيّر إلى الرأس، أقصد رأس النظام رئاسة وحكومة وبرلمانًا ونخبة؟
حينما تصعد الحمّى إلى الرأس..
من مزايا الحكم الرشيد، والسياسة الناضجة الترويّ والرصانة والثبات والهدوء في القول والحركة والتشريع واتخاذ القرار، هذا الملمح قامت مقامه الفوضى والتقلبات السريعة والمثيرة التي تجلّت خاصّة في الأحزاب وتركزت بكثافة في مجلس النواب، ولأنّ هذا الفضاء يمثّل سند النظام الحالي ومرجعه المتين حقّ القول إنّ حمّى التقلبات إذا أصابت السلطة التشريعيّة كانت أشبه ما تكون بالحرارة المرتفعة حينما تصيب الرأس، فكلاهما ينذر بخطر قاتل أو مخلّفات مأساوية كالعاهات والإعاقات، هذا يفتك بالأفراد، وذاك يساهم في هلاك البلاد والعباد.
في بضع ساعات تتحوّل علاقة الأحزاب من التقارب إلى الاختلاف إلى التباين الشديد إلى القطيعة إلى العودة إلى طاولة الحوار إلى تبادل الاتهام
تلوُّنُ النوّاب أحدثَ لخبطة في أذهان المواطنين وأعيا الباحثين والمدوّنين والإعلاميين، فهؤلاء جميعًا باتوا في حاجة دائمة ومستمرّة إلى تعديل الصفات والنعوت، فقبل محاورة نائب لا يحقّ لك أن تراهن على معرفتك وثقافتك، ينبغي أن تراجع آخر التغيرات وأحدثها، فتقلبات السياسيين في تونس سيّالة لا تكفّ عن التدفّق، فحال هذا الصحفي كحال ذاك الرجل الذي حمل فستانًا ومضى مسرعًا إلى حبيبته، وحينما سُئل عن سرّ هذه العجلة قال أرغب في إيصال الهديّة قبل أن تتغيّر الموضة، ففي بضع ساعات تتحوّل علاقة الأحزاب من التقارب إلى الاختلاف إلى التباين الشديد إلى القطيعة إلى العودة إلى طاولة الحوار إلى تبادل الاتهام، وإن شئت التحقّق من ذلك راجع الخلافات بين النهضة والتيار الديمقراطيّ وحركة الشعب وائتلاف الكرامة، ستجد نفسك إزاء تقلّبات يوميّة تصيب المتابعين بالدهشة والدوار، وتدفع دفعًا نحو الإعراض عن متابعة التغيرات، والاكتفاء بانتظار نهاية المسار.
الغنّوشي والشواشي.. سياحة توافقيّة وسياحة حزبيّة
إن كنت راغبًا في التحقّق من هذا المشهد من خلال عيّنات دقيقة لا تُمعن في تقليب النظر، ولا تخشى كدّ الذهن، ولا تُكثر من النقرات القوقوليّة، يكفي أن ترفع رأسك إلى سدّة البرلمان، فراشد الغنوشي رئيس المجلس يُعدّ رائدًا في تقلّب المواقف ونائبته سميرة الشواشي لا يكاد ينازعها أحد في سياحتها الحزبيّة وتجوالها في جلّ المسالك والثنايا السياسيّة. هذان النموذجان يَجزيان عن عشرات الأمثلة كما "تجزي سورتا الحمد والإخلاص عن يونس وبراءة عند بعض المتعبّدين".
أمّا النّموذج الأوّل فقد كاد يحوّل حركته إلى حزب بلا لون، أليس الأبيض هو جُمّاع كلّ الألوان؟ ألم يتحوّل الغنوشي من الإسلام الدعويّ إلى الإسلام السياسيّ، إلى الإسلام الديمقراطيّ؟ ألم يتملّص أخيرًا من تلك النعوت معلنًا الانخراط التامّ في النزعة المدنيّة معرضًا عن مشروع تطبيق الشريعة مقبلًا على كلّ معالم الكونيّة والديمقراطيّة والحريّة؟ ألم يعد في انتخابات 2019 إلى مراجعة هذا المسار من جديد ليستأنس مرّة أخرى ببعض الأحكام الدينيّة، فيخرج من جرابه مشروع الزكاة.
اقرأ/ي أيضًا: هل نذهب إلى انتخابات سابقة لأوانها؟
سيف وحمامة في غِمد واحد..
هبْ أنّ هذه التغيرات الغنوشيّة سليلة النقد الذاتي والمراجعات العميقة والرؤية الاستراتيجيّة، لكن ماذا عن تلك المواقف التقييميّة المتغيّرة من بورقيبة والتجمّعيين والسبسي والنداء وقلب تونس ومشروع تحصين الثورة وقانون المصالحة؟ كيف يستطيع هذا الرجل أن يُخرج من الغمد سيفًا، ثمّ يعيده، فيخرج من نفس الغمد حمامة، الأخطر من ذلك هو أن يرفع أنصاره نفس السيف مكبّرين، ثم سرعان ما يُطلقون الحمائم مهلّلين، لو استأنسنا بعلم البيان لشبهنا هذه التحوّل بالفعل السحريّ أو بحركات الحواة وأعمالهم، لكن إن عدتَ إلى خصوم الغنوشي وبعض ثوريي النهضة وجدت رهطًا منهم يرمونه سرًّا في الغالب وعلنًا أحيانًا بالنفاق والغدر والخذلان، ولو وليّت وجهك صوب المتيمين بالشيخ، وهم كُثرٌ، لأنصتّ إلى أصوات تهمس في خشوع "صمتًا صمتًا، الشيخ يناور، الشيخ يُتكتك".
لا تَعجبْ إن رأيت قبّة باردو قد تحوّلت إلى قاعدة لتكوين أحزاب بنوّاب جاهزين منحدرين من تيّارات شتّى، ولا تَدهشْ إن حدّثك رجل أعمال عن استعداده لاقتناه كتلة نيابيّة كاملة من هذه السوق السياسيّة
تقلّبات الغنوشي يمكن نعتها بالسياحة التوافقيّة أو السياحة الفكريّة أو السياحة التشريعيّة، وهي تندرج في باب اللعب مع الكبار في الداخل والخارج، وقد نجد لها مبرّرات ذات صلة بالغائيّات الوطنيّة وإكرهات الحكم، أمّا تقلّبات بعض النواب فهي سياحة حزبيّة دوافعها في الغالب ذاتيّة ومصلحيّة، وهو ما ساهم في تحويل المقاعد البرلمانيّة إلى سلعة تُباع وتشترى لمن يدفع أكثر، فلا تَعجبْ إن رأيت قبّة باردو قد تحوّلت إلى قاعدة لتكوين أحزاب بنوّاب جاهزين منحدرين من تيّارات شتّى، ولا تَدهشْ إن حدّثك رجل أعمال عن استعداده لاقتناه كتلة نيابيّة كاملة من هذه السوق السياسيّة.
أنا الآن لست أنا منذ حين..
تفطّن بعض المتابعين للخريطة السياحيّة لعدد من النواب أنّ سميرة الشوّاشي النائب الأوّل لرئيس مجلس النواب قد مرّت بخمس محطّات حربيّة في أقلّ من تسع سنوات، في البدء كان الإيقاع بطيئًا نسبيًّا، فقد رابطت في حزب الوحدة الشعبيّة حوالي عشر سنوات في عهد بن علي، فجازتها المنظومة القديمة دورتين في مجلس نيابيّ صوريّ بشهادة جلّ المحلّلين، بعد الثورة اتّخذ التقلب إيقاعًا سريعًا، إذ التحقت في فجر الانتقال الديمقراطيّ بحزب المبادرة، وتولّت خطّة الناطق الرسمي باسمه مدّة ثلاث سنوات من 2011 إلى 2014، وقضّت نفس المدّة تقريبًا في الاتحاد الوطنيّ الحر، فأصيب زملاؤها في هذا الحزب بنفس الداء، فرحلوا معها إلى النّداء سنة 2018، بعد هذه التجربة بلغت سرعة التقلب أقصاها، فلم تعد الإقامة في الأحزاب تضبط بالسنوات، إنّما باتت مع الشواشي تحدّد بعدد الأشهر، فقد قضّت بضعة أشهر في النداء، ثمّ أقبلت على قلب تونس فساهمت في تأسيسه، وتولّت فيه خطّة الناطق الرسمي، فضفرت بمقعد وثير متميّز رفيع في البرلمان، هذا التقلّب في الهويّة السياسيّة يوحي للمتابعين بأنّ الشّواشي ترفع شعارًا نصّه، " أنا الآن لست أنا منذ حين".
رحلة القياديّة في قلب تونس سميرة الشواشي بين الأحزاب كشفت عن تقلّب يبدو عشوائيًّا لكثرة أطراده وشدّة تواتره
رحلة القياديّة في قلب تونس بين الأحزاب كشفت عن تقلّب يبدو عشوائيًّا لكثرة أطراده وشدّة تواتره لكنّ الناظر نظرة تأليفيّة في هذه العيّنة واجد شريطًا ناظمًا منسوجًا من ثلاثة خيوط، الأوّل يتمثّل في صلة الرحم السياسيّة التي تربط بين الأحزاب التي مرّت بها الشواشي، فكلها تبدو قريبة من المنظومة القديمة صلتها غير وثيقة بالثورة ومساراتها، الخيط الثاني يتّصل بسرعة الانتقال من حزب إلى آخر وهي سرعة تكشف بأنّ الشواشي لم تكن تحرّكها بعد كلّ استقالة المراجعاتُ النقديّة المركّزة بقدر ما تهزّها الرغبة في التموقع والاصطفاف، هذه الرغبة يراها البعض محمودة خاصّة إذا كانت تهدف إلى البحث عن سبل للإصلاح والمساهمة في البناء عبر المنظمات والأحزاب الفاعلة. لكنّ الغالبيّة يصفونها بالانتهازيّة ويعبرّون عنها تمثيلًا ومجازًا "بقلبان الفيسته"، (تغيير المواقف والمواقع بسهولة وسرعة تضاهي تغيير الملابس).
هذا التوصيف يبدو غير دقيق في صلة بالنائب لرئاسة البرلمان، فالمثل ينطوي على معنيين، سرعة التحوّل من جهة والانقلاب من النقيض إلى النقيض من جهة أخرى، أمّا المعنى الأوّل فهو حاصل لا محالة في تجربة الشواشي، وأمّا المعنى الثاني فهو غائب لأنّ الشواشي قد تقلّبت داخل نفس المنظومة، في المقابل يحقّ إطلاق مثل "قلبان الفيسته" على تيّار نخبويّ وشعبيّ وإعلاميّ واسع تحوّل تحوّلًا جذريًّا قطعيًّا في موقفه من الثورة ومن نظام بن علي بين 17 ديسمبر/ كانون الأول و14 جانفي كانون الثاني 2011.
14 جانفي "القلبة الكبرى"
"القلبة" كلمة في اللهجة التونسيّة تحيل إلى معجم التغيّر والتبدّل والتقلّب، فهي مشتقّة من الجذر (ق، ل، ب)، غير أنّ هذه الكلمة تُشحن في الغالب بدلالة السرقة ونقض العهد وعدم خلاص الديون، ومنها اشتقّ التونسيّون صيغة المبالغة " قلّاب".
عبقريّة اللهجة التونسيّة تفطّنت حدسًا إلى التجاور الدلاليّ بين التقلّب والسرقة، فجعلتهما توأمين دلاليين ينسلان من رحم جذر لغويّ واحد، إذ يحملان نفس الجينات الصوتيّة والسلوكيّة، فالمتقلّب في المواقف تقلّبًا مصلحيًّا هو بمثابة السارق، هذا يسرق الأموال والأمتعة وذاك يسرق المناصب والمراكز بل يسرق أحيانا المعاني والمراتب الاعتباريّة، ينطبق هذا خاصّة على فئة دأبت على الوشاية والتملّق والدفاع عن نظام بن علي، وما إن رحل "صانع التغيير" حتّى تغيّروا فتصدّروا منابر المزايدة الثوريّة، هؤلاء مارسوا ما يمكن نعته بالقلبة الكبرى، فاختلط الأمر على عامّة المتابعين وتراجع المناضلون وحلّ محلّهم الأنذال، فسعوا إلى التطيّب بعطر الثورة، ولكن هيهات هيهات، فالعطر ينعش، لكنّه لا يذهب القذارة والدنس إذ سرعان ما تتكشّف الشوائب والأدران.
ختامًا يمكن القول إن ظاهرة التقلّب في الأفكار والانتماءات السياسيّة تبرّرها أحكام طبيعيّة وتبيحها بعض الملابسات الموضوعيّة، منها ما يحفّ بالثورات من ارتباك وغموض يجعلان السياسيّ في حيرة، فتراه يُقبل على هذا التيّار أو هذا الاختيار وسرعان ما يعرض عنه متى اتّضحت له الرؤية، لكن ثمّة دوافع ذاتيّة انتهازيّة تبيح لأصحابها التحيّل على عامّة المواطنين لكنّ الذاكرة المدعومة في عصرنا بالتقنيات الحديثة تجعلهم في كلّ مرّة موضع استهجان وتندّر، وقد برع المدوّنون في استرجاع تلك الفيديوهات والتسجيلات والصور التي تفضح المتقلّبين القنّاصة، أقصد قنّاصة المراكز الحزبيّة والسياسيّة والحكوميّة، إنّهم القنّاصة الجدد.
اقرأ/ي أيضًا: