"لم يكن زواجنا مبنيًا على الحب أو حتى على هدف مشترك في تكوين أسرة صغيرة تقينا من الألم النفسي الذي يمكن أن يخلفه شعور الوحدة في حياة كل منا، بل كان الدافع الرئيسي وراء ارتباطنا هو حاجة كلينا للآخر، فقد كانت خمسينية أرملة لم يسعفها الحظ في إنجاب أطفال يكونون لها سندًا بعد وفاة شريكها في حادث شغل، أما أنا فلم يسعفني الحظ في إيجاد عمل يضمن لي العيش الكريم بعد أن كنت قد امتطيت قارب الموت نحو الجنة الموعودة بحثًا عن حياة أفضل فاستقبلني (جحيم إيطاليا) بموجة برد بلغت درجات تحت الصفر، كنت أنام فيها للعراء تحت الجسور وفي المنازل المهجورة وحتى في محطات النقل".
زواج الجنسيات أصبح أكثر انتشارًا ومقبولية من أي وقت مضى، كما أن جلّ العوائق المتعلقة باختلاف الأديان والأعراق والثقافات واللغات تم تجاوزها
هذا ما قاله غسان وهو شاب ثلاثيني قرر في سن العشرين مغادرة البلاد نحو الفضاء الأوروبي، واضطر عائلته لدفع مبلغ مالي مقابل ذلك رغم ضيق حالهم، وقطع على نفسه عهدًا بتعويضهم فور وصوله إلى وجهته، لكن اليأس والندم كانا رفيقاه منذ أن وطأت قدماه الأراضي الإيطالية فلا أصدقاء أوفوا بعهدهم في مساعدته على البحث عن عمل ولا أقارب استقبلوه ولو لفترة محدودة حتى يستقر حاله. حتى شوارع إيطاليا لفظته فقد كان و"رفقة التشرد" عرضة للمطاردات الأمنية الوحشية في كل لحظة وحين.
يتفادى غسان في حديثه لـ"الترا تونس" استحضار الذكريات الأليمة التي يحاول محوها من شريط حياته سواء خلال رحلته نحو إيطاليا أو في معاناته في شوارعها، لكنه يحاول طوال حديثه التأكيد على أن زواجه من الإيطالية "ماريا" كان زواج مصلحة لكلا الطرفين، وأنهما كانا على بيّنة منذ البداية بأن هذا الارتباط لن يدوم طويلًا أي أنه لم يسع لاستغلالها خلال أوقات ضعفه والتخلي عنها بعد استقرار وضعه.
وبيّن المتحدث أنه تعرف إلى طليقته "ماريا" خلال عمله كجنّان بحديقتها وتوطدت العلاقة بينهما حتى اتفقا على الزواج بعد أشهر معدودة وانتقل للعيش معها في شقتها بإحدى أرياف إيطاليا وعمل كسائق جرّار بالعديد من الحقول المجاورة حتى تمكن من إيجاد عمل قار في إحدى الشركات الإيطالية.
"لقد كنت سعيدًا في بداية زواجي حتى أن العديد من أصدقائي كانوا يغبطونني على الزيجة التي ظفرت بها والتي انتشلتني من حياة التيه التي كنت أعيشها.. رغم تقدمها في السن كانت ماريا جميلة ورشيقة حتى إنها تواظب على التمارين الرياضية أكثر مني والحقيقة أني كنت مبهورًا بنشاطها وحيويتها التي تحاكي فيها العشرينيات، كما أنها لم تكن متطلبة لكن مع مرور الوقت أصبحت أشعر بالفتور تجاهها. لم نكن نعتنق الديانة نفسها ولا نتقاسم التقاليد والعادات التي أصبحت أحنّ إليها منذ اغترابي أكثر من ذي قبل، كما أنها لم تكن تأبه لملاحظاتي بخصوص علاقاتها وسهراتها وغيره من العادات الأوروبية التي لم تكن ترق لي، فبدأت المشاكل تكبر شيئًا فشيئًا حتى شعر كلانا بأن استمرار الحياة الزوجية بات مستحيلًا.. انفصلنا وتزوجت بعد حوالي سنة بابنة صديقة والدتي.. كانت المعرفة بيننا تقليدية لكن الزواج كان ناجحًا وأنجبنا توأمًا أصبحا محور حياتنا".
- زواج الجنسيات.. العائلة أول المشجعين
كان الزواج في السابق يقام باتفاق بين والدي العروسين اللذان يكونان في أغلب الأحيان أشقاء أو أقرباء، ويعتبر قرار الزواج بشخص غريب عن العائلة محظورًا وغير مقبول في العديد من المناطق حتى إنه يتم اختطاف العروس من قبل ابن عمها ليلة زواجها على اعتبار أن زواجها بغيره يقلّل من شأنه ويجعله عرضة للتنمر من قبل أهالي قبيلته، وقد تم توثيق حوادث مماثلة في العديد من الأفلام والمسلسلات التونسية من بينها مسلسل ضفائر الذي أقدم فيه ابن عم البطلة "عارم" على اختطافها من "الجحفة" يوم زواجها وأجبرها على الزواج به بمعية ثلة من أقربائه، الشيء الذي دفعها ووالدها للرضوخ لحكم العرش.
تونسي متزوج بإيطالية لـ"الترا تونس": كنت سعيدًا في بداية زواجي لكن بدأت المشاكل تكبر شيئًا فشيئًا باختلاف عاداتنا فانفصلنا وتزوجت فيما بعد زيجة تقليدية لكنها كانت ناجحة
وعلى الرغم من أن زواج الأقارب هو السائد قديمًا، فإن الأمثلة الشعبية التي تعتبر عصارة تجارب السابقين اختلفت أحكامها على هذه الزيجات، فالبعض منها يعد "جواز الأقارب عقارب" والبعض الآخر يرى أن "اللي ياخذ من ملّة غير ملّته.. يزيد علّة على علّته"، لكن مع مرور الزمن وتحول العالم لقرية صغيرة، لم يعد زواج غير الأقارب مرفوضًا، بل حتى زواج الجنسيات أصبح مقبولًا وأكثر انتشارًا من أي وقت مضى سواء بالنسبة للمرأة أو الرجل، كما أن جلّ العوائق المتعلقة باختلاف الأديان والأعراق والثقافات واللغات تم تجاوزها خلال فترة التعارف على الأقل.
وترى الباحثة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم أن تفاقم ظاهرة زواج الجنسيات تعزى بالأساس إلى الارتفاع الكبير في نسبة الهجرة سواء كانت هجرة كفاءات أو يد عاملة وحتى الهجرة غير النظامية، مبيّنة أن هذه الظاهرة تجعل التونسيين منفتحين أكثر على العالم الخارجي وعلى مجتمعات وثقافات جديدة والانفتاح يتيح الفرصة للدراسة والعمل مع جنسيات مختلفة فيحدث التعارف ثم الزواج، أما في تونس فلا وجود لكثير من الجنسيات لذلك أغلب الزيجات تكون بين تونسي وتونسية.
باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": العائلة التونسية أصبحت تشجع على الهجرة والاستقرار خارج حدود الوطن وترفض رجوع أولادها للعيش في تونس وبالتالي تشجع على الزواج بالأجانب
وبيّنت بن بلقاسم في حديثها لـ"الترا تونس" أنه بالتحولات الاجتماعية التي شهدها المجتمع التونسي اليوم، أصبح للشباب استقلالية، ولئن يحظى الرجل منذ القدم بحرية اختيار الشريكة فيما تخضع المرأة لتقاليد جهتها القائمة على الزواج من القريب فإن تمدرس المرأة وخروجها للعمل خولا لها الهجرة بمفردها، لكن استقلاليتها تظل دائمًا نسبية لأن التمسك بالعائلة ما زال قائمًا في تونس.
وتضيف: "في مجتمعنا الراهن، هناك نوع من استقلالية الفرد الذي يحاول بشتى الطرق إقناع عائلته بالزواج المختلط فيعدّد خصال الشريك، كذلك العائلة التونسية أصبحت تشجع على الهجرة والاستقرار خارج حدود الوطن وترفض رجوع أولادها للعيش في تونس وبالتالي تشجع على الزواج بالأجانب، بينما كانت العائلات في السابق تشترط على الابن المهاجر للدراسة أو العمل الزواج من تونسية لضمان عودته لبلاده والاستقرار فيها".
باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": بعض العائلات ترفض الزواج من غير التونسي خشية اختلاف العادات والتقاليد فيتم الحكم على الزواج بالفشل قبل حدوثه
وعن الأحكام المسبقة التي تجزم بفشل زيجات الجنسيات لفتت المختصة في علم الاجتماع إلى أن عقلية المجتمع وموروثه الثقافي ترفض الاختلاف وتحبذ عدم الخروج عن القواعد الاجتماعية وبالتالي حتى في اختيار الشريك، يفضّل المجتمع لون البشرة نفسها، واللهجة ذاتها والجهة عينها أيضًا، فما بالك بشريك من ديانة أخرى أو ثقافة أخرى! كما لفتت إلى أن بعض العائلات ترفض الزواج من غير التونسي خشية اختلاف العادات والتقاليد فيتم الحكم على الزواج بالفشل قبل حدوثه.
- تونسية ومصري.. حب توّج بزواج ناجح
مروى الجلاصي هي صحافية تونسية جمعتها قضية الثورتين التونسية والمصرية بشريك حياتها الصحفي المصري محمد رجب الذي تعرفت عليه سنة 2011 عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" وقد توطدت العلاقة بينهما خلال سفرها للإسكندرية في تدريب مع مجلة مصرية تعمل معها كمراسلة، ويصادف أن محمد ابن الإسكندرية فتعددت اللقاءات بينهما واكتشفا تناغمًا وانسجامًا بينهما غير مسبوقين فتوجت العلاقة بين الشابين بالخطبة سنة 2019 يليها الزواج سنة 2020 الذي أقيمت مراسمه في كلتا البلدين أي زواج في تونس بين أهل العروسة وأصحابها وزواج في مصر بين عائلة العريس.
تقول مروى في حديثها لـ"الترا تونس" إن علاقتها بشاب مصري كانت مصدر خوف شديد لأمها التي كانت تسمع حكايات مختلفة عن طباع المصريين وتخشى بُعد ابنتها عنها بعد الزواج، لكن والدها كان موافقًا منذ البداية على العلاقة خاصة بعد تعرفه على شريكها وعائلته اللذان تمكنا من كسب ود ومحبة العائلة، كما تؤكد أنها لم تجد أي صعوبة في الاندماج مع عائلة زوجها التي استقبلتها أحسن استقبال حتى إن تخوفات حماتها من إمكانية بعد ابنها الوحيد عنها واستقراره في تونس بعد الزواج تم احتواؤها بالتأكيد على أن حياة الشريكين ستكون بين تونس ومصر للتوفيق بين الجانب المهني والعائلي.
ولفتت المتحدثة إلى أن حفل الزفاف المصري والتونسي يختلفان ولا يشتركان في التقاليد ما عدا الزغاريد والحناء، أما العادات التونسية الأخرى كحفلة "الوطية" و"الحمام" و"الحرقوس" وغيرها فهي تونسية بامتياز، مشددة على أنها من خلال تجربتها الشخصية لا يمكن أن تحكم على زواج الجنسيات بالفشل أو بالنجاح لأن طباع الشريكين هي المحدد الرئيسي لديمومة التجربة من عدمه وليست الجنسية، ولو كانت هي السبب لما لاحظنا ارتفاعًا كبيرًا في نسب الطلاق بتونس وفق تقديرها.
تونسية متزوجة بمصري لـ"الترا تونس": لا يمكن الحكم على زواج الجنسيات بالفشل أو بالنجاح لأن طباع الشريكين هي المحدد الرئيسي لديمومة التجربة من عدمه وليست الجنسية
وتعتبر مروى أن أهم عامل في نجاح الزواج المختلط هو الاختيار الصائب للشريك بالقلب والعقل أيضًا والقبول بالعيش معه في بلد نشأته، كما عددت مزايا زواج الجنسيات التي من بينها إنجاب أطفال مختلفين واستثنائيين يجمعان بين عرقين مختلفين كذلك التعرف على عادات وتقاليد أخرى وتلاقح الثقافات.
وقد دعت المتحدثة التونسيين إلى تجنب التدخل في العلاقات المختلطة التي تمثل أسوأ تجربة يمكن أن يمر بها شخص يرغب في الزواج من غير جنسيته، مشيرة إلى أنها تعرضت للأحكام المسبقة من قبل الأقارب والأصحاب الذين حذروها من الارتباط بمصري يخوّل له القانون الزواج بـ 4 نساء، كما بيّنت أن هذه الأحكام لا تؤثر إلا في شخص ضعيف الشخصية وأنها مع ترك مساحة للأشخاص ليخوضوا تجارب اختاروها سواء تكلل بالنجاح أو بالفشل.
وتقول مروى الجلاصي: "الأحكام المسبقة لا تسلط فقط على الزواج المختلط بل حتى زواج الشباب التونسي من ولايات مختلفة يرفض أحيانًا ويتعرض فيه الشريكان للنقد.. شخصيًا لا أعطي حق التدخل بالنقاش في علاقة شخصين سوى للأبوين لأن الزواج هو أيضًا علاقة تربط بين عائلتين".
جدير بالذكر أن تونس كانت قد ألغت قانونًا يحظر زواج التونسية المسلمة بغير المسلم وقد واجه هذا القرار انتقادات واسعة خاصة من الجانب الديني فيما بارك الحقوقيون هذه الخطوة التي اعتبروها مكسبًا جديدًا للمرأة.