أصبحت صالات التجميل اليوم مزاراً دوريًا لكلّ الباحثين عن الجمال في فرشاة مختصّي التجميل. ولأنّ الصيف هو موسم الأفراح بامتياز، فإنّ هذه القاعات تكتظ بالزبائن سواء من العرائس أو "الحضّارات" أو أهل العروسين، وما يلفت النظر في هذه الاجتماعات بعض الحوارات التي قد تجعلك لوهلة تعتقد أنّ مناسبات الأعراس في تونس أصبحت حلبة مصارعة يتقاتل فيها الجميع لأجل التباهي والتفاخر.
فلا تسمع سوى المبالغ الطائلة التي صرفت ولا يتردّد على المسامع سوى أسماء الماركات المعروفة ومشاهير مصمّمي الأزياء وأقوى صالونات التجميل، فأُفرغ الزواج من محتواه، وفق الكثيرين، وأصبحت الغاية الأسمى لهذا "الميثاق الغليظ" هو ما يتركه من صدى بين الأهل والجيران والأصدقاء.
أصبح الإفراط في بهرجة حفلات الزواج في تونس موضة ودخلت العائلات حلبة الصراع والتنافس المحموم حول التفاصيل
يرصد "ألترا تونس" هذه الظاهرة الاجتماعية المتفشية والتي أصبحت تسبّب عديد المشاكل في فترة التحضيرات للزواج أو كثيرًا من الخلافات الزوجيّة في الفترة التي تعقب هذا الحدث.
حفلات الزواج.. سباق من يدفع أكثر؟
تشهد الأفراح والأعراس التونسيّة تغيّرات عميقة سواء على مستوى الشكل أو المضمون وأصبحت تسير على نسق التنافس والتفاخر، وأصبح كل التركيز على مظاهر البذخ ويحرص الأهل على أن يكون كل شي في أقصى كمالياته: صالات ذات بهرجة، فرق موسيقيّة بمبالغ طائلة، أزياء وقاعات تجميل، وحلويّات فاخرة بأغلى الأثمان.
إذ بات الزواج شكلًا من أشكال التباهي بين العائلات، وصار من الشائع أن يقال "والله عرس بنتهم تعدّا كي المهرجان"، و"عملّلها عرس ولا في الأحلام"، و"ريت قدّاش يحبها وقداش صرف عليها". وهو ما يدفع الناس إلى الدخول في دوامة مرهقة ماديًا ونفسيًا واجتماعيًا، وأصبح الإفراط في بهرجة الحفلات موضة العصر ودخلت العائلات حلبة الصراع والتنافس المحموم حول الشكليات.
أحمد غديرة (صاحب شركة لتنظيم الحفلات): العديد من العائلات ميسورة الحال تفرض أن تكون كلّ التفاصيل في حفلات الزواج من آخر ما صدر من صيحات وأن يواكب زفافهم آخر التقليعات
اقرأ/ي أيضًا: التونسي والمظاهر: مكره أخاك أم "فيّاس"؟
يتحدّث أحمد غديرة، صاحب شركة لتنظيم الحفلات، لـ"ألترا تونس" قائلًا: "حفلات الزواج في تونس أصبحت صناعة لها تفاصيلها وتكاليفها المشطّة، ورغم تراجع القدرة الشرائية للمواطن إلّا أن الإسراف في الترف والتنافس على إقامة أغلى الأعراس بقي الغاية الأسمى لهذا المواطن حتّى لو اضطر للتداين أو القروض".
ويؤكّد أنّ العديد من العائلات التي تتواصل معه تفرض أن تكون كلّ التفاصيل من آخر ما صدر من صيحات وأن يواكب زفافهم آخر التقليعات.
فيما تؤكّد عواطف، صاحبة قاعة تجميل ومحلّ لكراء فساتين الأعراس بباب سويقة، أنّ الفتاة التونسيّة أصبحت متطلّبة في علاقة بمظهرها يوم زفافها إذ لا تتردّد في إنفاق الكثير من المال من أجل أن تبدو بإطلالة متميّزة أو تتشبّه بأحد المشاهير أو الفنّانين على حدّ تعبيرها.
عواطف (صاحبة قاعة تجميل): بعض البرامج التلفزيّة سواء التونسيّة أو حتّى العالميّة ساهمت في وضع صورة نموذجيّة لحفل الزواج الناجح
وتضيف محدّثتنا أنّ بعض البرامج التلفزيّة سواء التونسيّة أو حتّى العالميّة ساهمت في وضع صورة نموذجيّة لحفل الزواج الناجح "فلا تتوانى الفتيات في البحث عن كلّ ما يجعلهنّ يعشن ليلة العمر بكلّ مقاييسها المثاليّة وترفض العديد منهنّ التنازل عن أيّ من هذه الشروط، فيسعى شريكها في هذه الفرحة إلى أن يلبّي جلّ رغباتها" على حد تأكيدها.
وتضيف عواطف، في هذا الجانب، أنه يوجد من يلغي الزيجة في آخر اللحظات، مبينة: "رغم أنّ الزواج من أهم المناسبات المحوريّة في حياة الانسان إلّا أنّه قد يلغى بسبب تفاصيل قد تبدو بسيطة للبعض إلّا أنها مصيريّة عند البعض الآخر".
كيف يقرأ علم الاجتماع ظاهرة المغالاة في حفلات الأعراس؟
يرى الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير، في هذا السياق، أننا نعيش اليوم عصر الصورة بامتياز حيث أصبحنا نهتم بالشكل والبهرج قبل المضمون والمفاهمة والحب في مسألة الزواج والتحضيرات التي تسبقه، على حدّ تعبيره.
ويؤكد، حول الأسباب، أن جيل اليوم تأثر بدرجة كبيرة بما تقدمه له الدراما الغربية ومنها التركية التي تدخل الى بيوتنا لتقدم صورة مسقطة على المجتمع التونسي، والتي يعتبر أنّها صورة أساسها المغالاة المادية في المرحلة التي تسبق الزواج على حدّ قوله. ويضيف: "ليس ذلك فقط بل يلعب العالم الافتراضي عبر الانستغرام بالأساس الفضاء الأبرز لتمرير تلك الأنماط السلوكية للشباب المقبل على الزواج والذي يتأثر بنوعية الإكسسوارات المقدمة كالحلي والمجوهرات ونوعية الفساتين المكلفة والباهضة تحت غطاء محلات عالمية محلية وعالمية".
معاذ بن نصير (باحث في علم الاجتماع): نعيش عصر الصورة بامتياز حيث أصبحنا نهتم بالشكل والبهرج قبل المضمون والمفاهمة والحب في الزواج
ويعتبر بن نصير أن الوسط الاجتماعي له الأثر المباشر لمثل هذه الممارسات، إذ يوجد لدى بعض العائلات التونسية نوع من المنافسة بين الأقارب حول تكلفة الزواج ومقدار المصاريف لتدخل في الخطاب اليومي من قبيل "بنت عمك عملولها قدر وكار وعرست في أقوى بلاصة"، "بنت خالك عرسها تقول مهرجان"، وفق قوله. ويبيّن أن مثل هذا الخطاب دائمًا ما يتم تكراره من الوالدين لأبنائهم وتنشئة أطفالهم على أن الزواج هو الراحة المادية بالأساس، والمؤسف أن يتم تحديد نجاح الزيجة من عدمها بمقدار الجانب المادي الموضوع للزواج، على حدّ قوله.
اقرأ/ي أيضًا: شركات الزواج في تونس.. خطّابة العصر لزواج مسكوت عنه
ويحذّر الباحث في علم الاجتماع من هذه الممارسات التي اعتبرها تؤسس لانهيار القيم الاجتماعية في إنشاء مؤسسة الزواج، "فنتخلى عن الجانب الأخلاقي والاجتماعي ومدى المفاهمة والاحترام بين الطرفين، لنبحث عن الشكل والواجهة الخارجية المادية".
ويقدّر أنّ الواقع الاجتماعي والاقتصادي التونسي متأزم، ليجد الشريكان، في الكثير من الحالات، أنفسهما أمام ضرورة التداين والاقتراض من أجل كسب احترام وهمي من طرف المجموعة وللانسياق في السلوك الجمعي حتى يحققا نوعًا من المكانة الاجتماعية، وفق تعبيره.
هكذا تحدّث بن نصير عن تداعيات التنافس في حفلات الزواج، مضيفًا أنّ هذه السلوكيات جعلت من قطاعات متداخلة في عملية الزواج تلقى رواجًا، ذاكرًا على سبيل المثال مراكز التجميل والحلاقة ومحلات كراء الفساتين وما يتبعه من فضاءات مخصصة للتجميل لنلاحظ ارتفاع التكلفة بطريقة مهولة وقد تصل في الكثير من الحالات إلى عشرات ألاف من الدنانير على حدّ تعبيره.
يوجد لدى بعض العائلات التونسية نوع من المنافسة بين الأقارب حول تكلفة الزواج لتدخل في الخطاب اليومي من قبيل "بنت عمك عملولها قدر وكار وعرست في أقوى بلاصة" و"بنت خالك عرسها تقول مهرجان"
ويؤكد محدثنا أن مثل هذه الزيجات مآلها الفشل بنسبة كبيرة وذلك لغياب الرابط الروحاني المؤسس للزواج وقيم الحب والتعاون والتضامن وبالأساس مفهوم الاحترام والتوازن الاجتماعي بين الشريكين.
تحوّلت حفلات الزفاف إلى عبء كبير على كاهل الأسر التونسيّة التي تحرص على صرف أموال طائلة في أفراحهم وتغالي في التفاصيل اعتقادًا منها أنّ السعادة في البهرج وأنّ حفلات الزفاف مقياس مستواها الاجتماعي والمادي. وهو قد يكون سبب الداء بالنسبة لشباب عدلوا عن التفكير في الزواج متأثرين بتجارب من سبقوهم.
اقرأ/ي أيضًا: