- "80 مليون من عند فلان.. ترجعلو في الفرح"
- "100 مليون من عند صاحب العروس.. ترجعلو في الفرح إن شاء الله"
- "سيارة رباعية الدفع هديّة من عائلة فلان للسلطان"
إن لم تكن تونسيّ الجنسية، قد تبدو لك هذه العبارات غريبة ولكنّها تقال في الأعراس في ليلة "الحنّاء" التي يجتمع فيها الأهالي لتقديم الهدايا الماليّة، أو ما يسمى بـ"الرْمُو" أو "الرَشْقْ".
وهي عادة ضاربة في القدم يعتمدها الأهالي من أجل مساندة بعضهم خاصّة مع المصاريف المشطّة التي تتكلّفها أفراح الزواج. واللافت للنظر في هذه العادة، هي المبالغ الخياليّة التي تُقدّم في بعض المناطق التونسية والتي أضحت نوعًا من المزايدة بين الحضور لإثبات مكانتهم الاجتماعية.
اللافت للنظر في عادة "الرْمُو" أو "الرَشْقْ" هي المبالغ الخياليّة التي تُقدّم في بعض المناطق التونسية والتي أضحت نوعًا من المزايدة بين الحضور لإثبات مكانتهم الاجتماعية
يتحدّث العم حبيب (63 سنة) أحد سكّان منطقة العلا عن هذه العادة قائلًا: "لقد بدأت هذه العادة في مدينة سبيبة من ولاية القصرين ثمّ انتشرت في مثلث برمودا سبيبة والعلا والحبابسة. وقد انطلقت أساسًا من قبل 'الغلاّمة' (بائعو الأغنام) الذين يشكّلون 'كوميتا' (لجنة) للنظر في إنشاء مشروع للعريس يبدأ به حياته الزوجيّة ويجعلون يوم الوليمة أو ليلة 'الحنّاء' موعدًا للرشق أو 'الرْمُو' من أجل جمع مبلغ ماليّ يقارب المليار (مليون دينار) في بعض الأحيان".
ويضيف محدّثنا لـ"الترا تونس" أنّ ما يدفع يعتبر ديْنًا في رقبة عائلة العروس وتدوّن هذه المبالغ في كرّاس يحتفظ بها، مشيرًا إلى أنّ عديد الجرائم قد تحدث إن لم يقع الالتزام بإرجاع النقود المدفوعة.
أحد سكّان منطقة العلا لـ"الترا تونس": عادة "الرْمُو" انطلقت أساسًا من طرف بائعي الأغنام الذين يشكّلون لجنة للنظر في إنشاء مشروع للعريس يبدأ به حياته الزوجيّة
ويشير العم حبيب إلى أنّ هذه النوعيّة من الأعراس خطيرة جدًا نظرًا لارتباطها بالمسكرات التي تعتبر جزءًا لا يتجزّأ من الطقوس، حيث يقع استهلاك كميّات خياليّة من الخمر وهذا ما يزيد الحماسة والإثارة، وفقه.
وعن جذور عادة "الرْمُو"، يشير الأستاذ والباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير أن ظاهرة "الرشوق" أو "الرْمُو" هي عادة أمازيغية قديمة داخل المجتمع التونسي. وهو سلوك أنثروبولوجي أساسه تعزيز العلاقات الاجتماعية والعائلية وخلق نوع من العُصبة بين أفراد المجتمع الواحد، وفقه.
أحد سكّان منطقة العلا لـ"الترا تونس": تعدّ مبالغ "الرْمُو" ديْنًا في رقبة عائلة العروس وتدوّن في كرّاس يحتفظ بها، وعديد الجرائم قد تحدث إن لم يقع الالتزام بإرجاع النقود المدفوعة
ويفسّر بن نصير هذه الظاهرة قائلًا: "هي إعانة المقبلين على مراسيم الفرح من زواج أو ختان، وتقوم الأم أو الجدّة بتسجيل اسم ومقدار الهبة المقدمة من قبل أي شخص على كنّش صغير وذلك من أجل إرجاع هذه الهبة في مناسبة أخرى، وتكون في نفس قيمة الهبة المأخوذة أو أكثر ولا يمكن أن تكون أقل لأن في ذلك مسًّا من مكانتهم الاجتماعية".
في السياق ذاته، يستحضر معاذ بن نصير كتاب عالم الأنثروبولوجيا مارسيل موس "L’essai sur les dons" الذي تطرّق فيه لهذه الممارسة واعتبرها المحدّدة للتموقع الاجتماعي داخل بعض الفضاءات الريفية حيث يتمّ التفاخر بمن يدفع أكثر وينادَى على اسمه بصوت عال عبر مكبّر الصوت.
ويؤكّد محدّثنا أن بعض المنتفعين بـ"الرشوق" في أفراحهم قد يجدون أنفسهم فيما بعد مديونين وذلك لأجل إعادة المبالغ المالية التي تمتعوا بها، كما هو الحال مع أحد سكان منطقة الشابة الذي باع منزله كي يعيد الهبة لأحد الأشخاص.
باحث في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": يتم تسجيل اسم ومقدار الهبة المقدمة من أجل إرجاع نفس قيمتها أو أكثر في مناسبة أخرى، ولا يمكن أن تكون أقل لأن في ذلك مسًّا من المكانة الاجتماعية
ويرى بن نصير أن ظاهرة "الرشوق" أو "الرْمُو" كما يتم تسميتها في بعض ربوع البلاد، ممارسة اجتماعية جيدة قد تخلق نوعًا من التضامن والتعاون بين أبناء المنطقة الواحدة، لكن في بعض الأحيان، ينقلب الشيء الذي زاد عن حده إلى ضدّه، فالمبالغ المالية الكبيرة والهدايا الباهضة قد تكون حملًا ثقيلًا على صاحبها، وفقه.
ويؤكّد الأخصائي في علم النفس كريم اليعقوبي من جهته، أنّ ظاهرة "الرْمُو" في تونس شهدت نقلة من حيث الأهداف الاجتماعية مع تطوّر الوسائط الافتراضية ومنصات التواصل الاجتماعي. كما لوحظ تنافس في جمع أعلى مبلغ مالي في حفل الزفاف أو ما يعبر عنه "حنّة العريس" وليس العروسة، وهذا له دلالات جندرية تاريخية لارتباط الذكر بالمردوديّة المادية والاقتصادية للعائلة، على حدّ تعبيره.
معاذ بن نصير (باحث في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": بعض المنتفعين بـ"الرْشوق" في أفراحهم قد يجدون أنفسهم فيما بعد مديونين وذلك لأجل إعادة المبالغ المالية التي تمتعوا بها
وأكّد اليعقوبي لـ"الترا تونس" أنّ تفاقم الظاهرة هو نتيجة التنافسية والقدرة الإشهارية للوسائط الافتراضية مما يولّد شعورًا أقوى للانتماء للعشيرة "Endogroupe" والتميز إيجابيًا من منظور العشيرة عن بقية العشائر "exo-groupe" وهذا ما يزيد في التباعد والتباين بين مختلف مكونات المجتمع التونسي، وفقه.
ويفسّر محدّثنا أنّ القدرة على العطاء المادي في علاقة وطيدة بالشعور بالتماسك بين مختلف مكونات العشيرة وهذا ما يعطينا الشعور بالعضوية في المجموعة، مضيفًا أنّ عملية الدعم المادي هي ترجمة لصلابة الرابط الاجتماعي والعلائقي وتعبير على الوحدة والانسجام ويتدعّم هذا الشعور من خلال "الاعتراف المتبادل" من قبل الطرف الآخر بتواتر السلوك كل ما سمحت الفرصة.
أخصائي في علم النفس لـ"الترا تونس": التنافسية في ظاهرة "الرْمُو" أصبحت المؤشر الأكثر دلالة على تماسك المجموعة، بما يعبّر عن ضعف الإحساس بالانتماء للوطن ويثبت أنّ العشيرة تبقى في المقدمة
ويختم الاخصائي النفسي حديثه قائلًا: "هذه الديناميكية العالية تولّد نوعية من الوعي المشترك لحماية العشيرة ويتجسد كلّ هذا في الشعور بالأمان في صلب مجموعة الانتماء. وهذا الدعم المادي أو النقدي من خلال التنافسية في ظاهرة "الرْمُو" أصبح المؤشر الأكثر دلالة على تماسك المجموعة، وهذه السلوكات تعبّر على ضعف الإحساس بالانتماء للوطن وتثبت أنّ العشيرة تبقى في المقدمة".
يُذكر أنّ رواد مواقع التواصل الاجتماعي في تونس تداولوا خلال الأيام الماضية فيديو التقط خلال عرس، في أحد أرياف مدينة العلا في ولاية القيروان، وثّق لعملية جمع مبلغ مالي كبير بلغ 487 ألف دينار (نحو 155 ألف دولار).
وقد أثار هذا الفيديو عديد التساؤلات المتعلّقة بمصادر هذه الأموال في ولاية تشكو من الفقر والتهميش وتعاني جملة من المشاكل الاجتماعية والاقتصاديّة.
أستاذ جامعي في الاقتصاد لـ"الترا تونس": الأموال التي تتداول في الأعراس تندرج في إطار الأموال المتداولة في السوق السوداء، وإن ثبت أنّ مصادرها غير واضحة فعلى الدولة أن تلجأ إلى أداء على الثروات الموجودة في هذه المناطق
ويجيب أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية والمختص في الشأن الاقتصادي رضا الشكندالي، عن هذه التساؤلات قائلًا: "هذه الأموال التي تتداول في الأعراس تندرج في إطار الأموال المتداولة في السوق السوداء. وأغلب مصادرها معلومة يمكن التعرّف عليها بكل سهولة من طرف وزارة المالية".
ويؤكّد الشكندالي في تصريحه لـ"الترا تونس" أنّ على وزارة الماليّة مراقبة هذه الأموال والتثبّت من قانونيّتها وإن ثبت أنّ مصادرها غير واضحة فعلى الدولة أن تلجأ إلى أداء على الثروات الموجودة في هذه المناطق، مشدّدًا على ضرورة أن يستفيد منها الاقتصاد التونسي.