18-مارس-2021

في أعمال نجاة الذهبي يهيمن جسد المرأة كبحث أركيولوجي في حركة الجسد وانفعالاته (رمزي العياري/الترا تونس)

 

تفتحت فرشاة الرّسامة نجاة الذهبي في ظل ساحة تشكيلية تونسية شديدة التعقيد وشديدة الطموح إلى الأكوان العليا للفنّ والمسكونة بالتحالفات وفوضى الإيديولوجيا والمدارس الفنية والانحيازات والمحاذير العديدة والنزاعات بين الرسامين وأوهام أخرى عديدة.

ظلّت هذه الفرشاة تنظر بعين طفل إلى ما يحدث في جنبات اختصاصها بل ومترددة في بعض الأحيان من المشاركات في المعارض والتظاهرات الفنية والتشكيلية. لا تريد لها الاحتماء بالمؤسسات أو الجمعيات أو المنظمات. ظلّت واقفة في العراء الثقافي بمشاعر لاجئ، لا تريد دوي الألوان وبهرج افتتاحات المعارض والتظاهرات الفنية والتشكيلية، فقط كل ما تطلبه فرشاة نجاة الذهبي هو برهة تأمل وشيء من التفكير من أجل لملمة شتات بعض الأفكار التي تعصف بذهن الرسامة/الشاعرة.

تفتحت فرشاة الرّسامة نجاة الذهبي في ظل ساحة تشكيلية تونسية شديدة التعقيد ومسكونة بالتحالفات وفوضى الإيديولوجيا والمدارس الفنية والانحيازات والمحاذير والنزاعات بين الرسامين 

وإذا نحونا منحى العارض التأويلي لفرشاة الرسامة نجاة الذهبي، نلحظ أنها أصيبت بالنضج الفكري قبل أوانها، وأن هناك توكيدًا ما من لدنها على المضي وحيدة كنبي على بياض اللوحة والمشي بنبل في مجاهل الغابة الفنية.

نجاة الذهبي، لا تريد لها الاستنساخ أو ما يعرف "باليوجينيا الفنية" التي يُقدم عليها بعض الرسامين ليتحولوا مع قادم التاريخ إلى دوائر من هلام رمادي تسبّح بتجربة فنّية ما أو تتشبه حدّ التماهي بأعمال بها. 

تقودنا كميّة الإشارات التي تطرقنا إليها سابقًا إلى أنّ نجاة الذهبي توغلت بعيدًا في أرض الحريّة ومسكت بشجاعة المجالدين طين الممكن الفني ودقّت أوتاد تجربتها المخصوصة عبر معرض فني احتضنه رواق "كاليستي" بسكّرة  طيلة شهر مارس/ آذار 2021.

فيديو: رمزي العياري/ الترا تونس

اقرأ/ي أيضًا: مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد

وعكس ما ذهبت إليه أغلب التجارب التشكيلية التونسية التي اشتغلت على التيمات الحضارية الشهيرة مثل الحياة اليومية التونسية في أبعادها الاحتفالية والاقتصادية والثقافية ومخزون العادات القديمة، وعلى وجه الخصوص تيمة المدينة العتيقة وما تثيره هندستها الدائرية ومعمارها العفوي وأزقتها وشخصياتها وأسواقها من فتن ضوئية وجمالية وهواجس فنية حوّلها العديد من الرسامين مثل نجيب بلخوجة وعلي الزنايدي والزبير التركي إلى مادة مثيرة للعين وجاذبة للجدل الفكري، فإنّ نجاة الذهبي انحازت فرشاتها إلى الإنسان فحفرت عميقًا وبلا هوادة في رأس المال الرمزي والقيمي أو العناصر الروحية الجامعة والمتوارثة فتحوّلت قماشاتها للتلوين العميق بل للكتابة والتفكير.

نجاة الذهبي تنهض عبر كتاباتها البصرية بما نهض به الكبار عندما راموا تغيير الدفّة في اتجاه أعالي بحار الفنّ وعدم الاقتناع بطاحونة الشيء المعتاد والرسوّ على رصيف التفلسف عبر أعمالهم فكان لا بدّ  لهذه الفرشاة الفتية من لحظة حرية ممزوجة بكمّ من الشجاعة حتى تهرب للعوالم الفسيحة للتفكير.

انحازت فرشاة نجاة الذهبي إلى الإنسان فحفرت عميقًا وبلا هوادة في رأس المال الرمزي والقيمي أو العناصر الروحية الجامعة والمتوارثة

ومن هذه البارقة يمكن اعتبار معرض "ديَاري.. يوميات فنان معاصرة"  بكاليستي  بضاحة سكرة هو المحطة الأولى لنسق التفكير باللوحة الذي اختارته نجاة الذهبي بعد سلسلة سابقة من المعارض الفردية والجماعية العديدة أنجزتها في السنوات القليلة الماضية واعتبرتها هي نفسها مقدّمة ضاجّة أو ما يشبه الإرهاصات التي تستبد بالشاعر حتى يقول قصيدته المبهرة والمخلّدة.

انتهجت نجاة لها مسلكًا في الظلام، بلا أقمار دالّة، دليلها الوحيد كان جرأتها في التخلّص من كلس الآخر. قد يكون هذا الآخر استبداد فراشي أخرى بأصابعها الصغيرة الواجفة أمام القماش أو مدارس بعينها أو سطوة الدرس الجامعي الجامد الذي تتشرّبه الروح  لا إراديًا أو الركون لحديث النفس المدّاحة، فكان أن انتبذت لها جدارًا بكاليستي، هو في الحقيقة جدار الخسران والتخلّي والكشف والهتك بل وتعرّي الروح من كل الغطاءات الواهمة.

لقد علقت نجاة على هذا الجدار كل غرفها السرية والخفية المخفيّة وعلّقت باقي المفاتيح في ثنايا الدرب المظلم الذي قطعت. في هذا الجدار، يتحوّل الرسم بكل تقنياته المستعملة مثل الاكوارال والكولاج وإعادة تركيب هيآت المواد والأطر البنية المنجزة بكل عناية إلى أمر ثانوي لا أهمية له أمام "المكتوب" في لحظات الألم العاتي وسكر الأيام الطافي، لحظات الانكسارات وسناء الانتصارات. قلب الفنانة هنا هو قلب الإنسان المخاتل بين صوت الكمنجات وفواصل قصيدة منسية تذروها رياح المساء على شاطئ مهجور. 

في هذا الجدار الموشوم بهشاشة الكائن تقوم نجاة الذهبي بشيء من الكشف العلني عن علاقتها بأصدقائها وبالكتب التي نامت معها في فراشها وتوسدت معها نفس الوسادة وخاصة الروايات والأشعار والصور والأحلام الصغيرة. هنا في هذا الجدار المنضّد بعناية تشكيلية فائقة، تعرض الذهبي أمام المتلقي حبرًا وخربشات ذاتية حول الصداقة والصديق، هذه العلاقة الإنسانية الغريبة التوّاقة دومًا إلى معالجة النفس من أهوال الأيام داخل فسحة الحياة الضيقة قبل الرحيل الأخير إلى أوطان أخرى مجهولة.

في جدار معرضها، يتحوّل الرسم بكل تقنياته إلى أمر ثانوي لا أهمية له أمام "المكتوب" في لحظات الألم العاتي، لحظات الانكسارات وسناء الانتصارات

من منطلق هذا الجدار/المخزن وتلك الأيقونات المسكوبة بشجاعة داخل أطر خشبية مربعة الشكل والبنية واللون، تمرح فرشاة نجاة الذهبي كميس في مرج الحريّة الذي لا يحدّه أفق، فتأتي باقي الأعمال ضمن سردية الألوان والأجساد. شريط من اللوحات المخاتلة للعين فيأسرك في البداية تناسق أحجامها وتشابه ألوانها لكنها في جوهرها قصص "للجسد"، هذه الكتلة التشكيلية الغريبة المسكونة بالحركة والتاريخ والمسيجة إلى الأبد بالذاكرة وبعض الدموع.

ضمن هذه المفاهيم الوجودية للجسد تتحرك فرشاة نجاة الذهبي فتقدمه منفلتًا ومزهوًا ومنكسرًا ويائسًا ومتلذذًا وحرّانيًا وقاعيًا ومتهالكًا وآسرًا ولئيمًا.. إنها سينما على جدار معرضها في "كاليستي".

أجساد نجاة الذهبي تحدث عنها في السابق مارتن هايدغر ومن بعده ميشال فوكو وسيغموند فرويد.. وأسهب تلامذة هؤلاء الفلاسفة في محاولاتهم فهم الجسد المسكون بالغربة اللامحدودة. والرسامة تبدو هنا منجذبة لطروحات الفلسفة بخصوص الجسد فجاءت أعمالها ضمن نسقية عدم حسم الفلسفة لمسألة الجسد واعتبرتها فكرة مشرّعة إلى الأبد عكس ما ذهبت إليه الأديان من حسم بتّار لموضوع الجسد البشري. 

اقرأ/ي أيضًا: الفنان التشكيلي صفوان ميلاد.. عن توحد الحرف والذات وتحرّرهما من الأغلال

ولم تكتف نجاة الذهبي بالكتابة اللونية المحاذية للأجساد ولما يدور في خلدها فقط بل ومن فرط بذرها للمعاني وتكثيفها لها تنبت الكلمات من شقوق اللون لتمتزج ظلال الأعمال بالكلمات التي تأتي لإسناد الأجساد المطلة والتي يتناهى أحياناً إلى مسامعنا حسيسها المكتوم، هكذا هو الجسد البشري يسنده الكلام أينما حلّ.  

الرسامة تبدو منجذبة لطروحات الفلسفة بخصوص الجسد فجاءت أعمالها ضمن نسقية عدم حسم الفلسفة لمسألة الجسد 

في أعمال نجاة الذهبي الكبيرة الحجم والفسيحة الإطار "اقتباس كافكاوي"، "مسطرة"، "روتين".. واللا محدودة الأفق والموحية  في بعض الأحيان بالجندرية، يهيمن جسد المرأة ليس في بعده الجمالي والشعري واللّذوي بل تأتي هذه الأجساد كبحث أركيولوجي في حركة الجسد وانفعالاته، في ارتباطه بحالاته النفسية المتعددة والسياقات المجتمعية والثقافية والسياسية التي وجد ضمنها.

وبعيدًا عن كليشيهات النسوية تقدّم نجاة الذهبي ضمن أعمالها تلك أطروحة جسد المرأة في ذاته وفي جوهره بالمعنى الفلسفي للكلمة وفي توافق تام مع حالاته النفسية ومن دون أن تدعو فرشاتها بشكل علني لتجاوز ذلك فيبدو هذا الجسد متلاعبًا فيغري نفسه بنفسه ضمن شبقية متلصصة من وراء كوّات الألوان كما يظهر عفوي الحركة في إشارة ذكية إلى الطفولة البعيدة التي تسكنه وتأبى مغادرته.

ومن وراء الألوان الرمادية الفولاذية، يطل معمار الجسد قلقًا وحزيناً ومسيجاً بالأخلاقي الذي راكمته المجتمعات لقرون طويلة... لكنه جسد منذور للمواجهة والمجالدة والدفاع عن نفسه بنفسه، أجساد الرسامة نجاة الذهبي سلاحها إرادة متسترة ومخفية خلف ابتسامة خفيفة أو غواية نهد أو حركة أنيقة... إنها أجساد قوية متخلصة من الشعور بالذنب، تقتحم الحياة فتكسر الأغلال وتنشغل بالحياة بحثًا عن سعادة بعيدة للجسد الحالي، حتى ولو كانت سعادة مقتطعة من السّرمد.    

الرسامة والساردة باللون نجاة الذهبي ضمن مجموعة أعمالها بغاليري كاليستي تكون قد هيأت اللوحة التشكيلية التونسية إلى مدارات أخرى مغايرة ونادرة الطرق وهي "التأسيس للكائن بالألوان".   

من صور معرض الفنانة نجاة الذهبي

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفنان التشكيلي لمجد النّوري: الحروفية أعادت الرّوح لسبّورات المدارس (حوار)

أيّ هويّة لتظاهرة أيام قرطاج للفنّ المعاصر؟