"الشرق هو مأتى الحكمة وملهم الأنبياء والشعراء.. الشرق آسر وساحر.. ننجذبّ إليه انجذاب النهر إلى النبع.. لكننا لا نعود بقدر ما نحنّ حنينًا أبديًا للمراتع الأولى للإنسان.. لتفتحات الألوان الأولى حنينًا لا تشفى منه البشرية أبدًا". (الرسام سلفادور دالي)
يبدو أنّ دالي بجنونه وتيهانه في فلسفة الفنّ على يقين أن تاريخ الإنسانية نبع من الشرق، فكل البدايات تبدأ هناك، وما يحصل الآن لا يعدو أن يكون سوى تطويعًا وتنويعات على تلك البدايات.
ومن هذه البدايات فن الرسم على الماء، وهو فنّ قديم تعاطاه الإنسان في الشرق منذ ألف عام إذ عُرف مع السلاجقة في القرن الحادي عشر في أعالي دجلة والفرات وعلى تخوم الأناضول حيث الينابيع لا تكف عن نشر الجمال. أمّا ازدهاره وثباته ورواجه فكان في عصر الإمبراطورية العثمانية وتحديدًا مع السلطان سليمان القانوني، تلك الشخصية المثيرة للجدل والمتقلبة بين الشدّة واللّين. إذ كان محبًا للحرب والفنّ في توليفة خاصة، وقد عرفت الإمبراطورية معه أبّهتها الفنية والمعمارية التي يفاخر بها العالم الإسلامي بين الأمم إلى اليوم. وقد كان هذا النوع من الرسم من أولوياته فزرعه زرعًا ليس بعده اقتلاع.
ازدهر فن الرسم على الماء زمن الإمبراطورية العثمانية (getty)
الرسم على الماء هو أن تضع الألوان في وعاء تختار له حجمه، ومن فرط خفّتها تعلو إلى السطح عندها تتدخل يد الفنان فتبدع فوق تلك الألوان رسمًا مختارًا ثم يوضع ورق خاص على الرسمة فتنطبع على الورقة لتتحول إلى عمل جذاب وأخّاذ. وقد زاوج العثمانيون، الذين ثبّتوا هذا الفن وأنقذوه من الاندثار والزوال، بين الرسم على الماء وبين الخطّ العربي، فكانت النتيجة في غاية من الجمال والروعة، فكًتبت الآيات القرآنية والأشعار والحكم في بدائع لا مثيل لها.
وشجع السّلاطين العثمانيون لقرون طويلة على هذا الفن فجعلوه مادة للتدريس، ورفعوا من مكانة الفنانين الذين يمارسونه فبات كأنه فن البلاط العثماني أو الفن الرسمي للأمة، بل وصُبغ صبغة مقدسة لاشتغاله على النّص القرآني، وسُمي بفن "الإيبرو".
فنّ الرسم على الماء أو الإيبرو ازدهر في عصر الإمبراطورية العثمانية حتى بات فن البلاط العثماني أو الفن الرسمي للأمة وصُبغ صبغة مقدسة لاشتغاله على النّص القرآني
وكلمة "إيبرو" في اللغة التركية تعني حاجب العين، وسُمي كذلك لأن التموجات التي تتركها الألوان على الورق أو القماش تشبه الحاجب. ومن دلالات هذه الكلمة في اللغة التركية أيضًا هي أنها تأتي مرادفًا لمعنى الورق المخصص لتغليف الكتب والدفاتر. أما كلمة "إيبرو" في اللغة الفارسية فتعني الغيوم أو السّحاب، وقد برع الفرس أيضًا في فنّ الرسم على الماء، ولهم أساليبهم الخاصة ومدارسهم، فكان "الإيبرو" خلفية لمنمنماتهم ورسوماتهم كما مزجوه بفن الحروفية فأبهروا به الناظرين.
اقرأ/ي أيضًا: مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد
ويظل السؤال، هل ظهر "الإيبرو" في تونس أيام حكم العثمانيين؟ فلماذا لا نجد له ذكرًا في بلدنا؟ ولماذا لا يدرّس في مدارس الفنون الجميلة، لا يعرفه أساتذة الفنون التشكيلية؟ فهل هو فنّ مقصي لأسباب سياسية ودينية؟
زهرة زروقي المختصة الوحيدة في "الإيبرو" في تونس: كل الأبواب موصدة
التقى "الترا تونس" الفنانة التشكيلية التونسية الوحيدة المختصة في فن "الإيبرو" الأستاذة زهرة زرّوقي التي أكدت أنّ الرسم على الماء ليس له أثر له في تونس في ظل غياب الكتب والدراسات والمعارض حوله وذلك باستثناء بعض المعلومات المتفرّقة وبعض الأعمال الموجودة لدى باعة "الانتيكة" والممضاة من فنانين كبار بما يدل أن الطبقة البورجوازية التونسية كانت لها علاقة بهذا الفن، وفق قولها.
رسم للرسّامة التونسية زهرة زروقي من إحدى معارضها بتونس
وأضافت الرسّامة الحاصلة على الماجستير في فن "الإيبرو" من الجامعة التركية أن هذا الفن قد يكون راج في القرون التي حكم فيها العثمانيون تونس لكن التاريخ أهمله كما أهمل تاريخ البايات. وأوضحت زرّوقي قائلة "الاستعمار الفرنسي حاول قدر الإمكان تكريس فنون المدارس الغربية وأقصى الفنون الشرقية بما فيها "الايبرو" ثم فيما بعد سقط تمامًا مع قيام الجمهورية إذ اُعتبر هذا الفن ماضويّا بالنسبة للنخبة التونسية الحداثية التي أسهمت في قيام الجمهورية الأولى". وبيّنت أن ما حدث لفن "اللإيبرو" في تركيا من إقصاء وتهميش إبان انهيار الإمبراطورية العثمانية وقيام تركيا الكمالية، هو السيناريو الذي تكرر في تونس أيضًا لهذا الفن وما شابهه مثل الخطّ العربي وغيره.
زهرة زروقي المختصة في فن "الإيبرو" لـ"الترا تونس": طرقت كل الأبوب لنشر فن الرسم على الماء ولكن كلها موصدة بما فيها أبواب وزارة الثقافة في حين دول أخرى توجه لي الدعوات لإقامة المعارض والمحاضرات
اقرأ/ي أيضًا: الوشم في تونس.. من سردية القبلية إلى روايات الذات
وبخصوص مدى تواجد فن "الإيبرو" حاليًا في تونس، ذكرت زرّوقي أنّها طرقت تقريبًا جميع الأبواب من أجل نشر هذا الفن مجددًا في تونس "لكن كلها كانت موصدة وخاصة أبواب وزارة الثقافة في حين أن دول أخرى توجه لي الدعوات المتتالية من أجل إقامة المعارض والمحاضرات التكوينية". وختمت زهرة زروقي حديثها لـ"الترا تونس" بأن فن الرسم على الماء التحم مجددًا بفنون الخط مشيرة بأنه سيتم إدراجه قريبًا كمادة اختيارية في مدارس الفنون الجميلة بتونس.
لمجد النّوري أستاذ الفنون الجميلة: رائحة السياسة والأيديولوجيا تطلّ برأسها
تحدث "ألترا تونس" أيضًا حول هذا الفن الفريد مع أستاذ الفنون التشكيلية بمدارس الفنون الجميلة بتونس لمجد النوري الذي أشار أن لعبة الشرق والغرب تتجلى في هذا الموضوع بالرغم من أن كبار الفنانين في العالم لم يقيموا هذا الجدار ولم يخضعوا للصراعات السياسية والثقافية وهي صراعات تقام في ساحات الإقصاء وفق قوله.
وأوضح أن فن "الايبرو" هو فن قديم ظهر في الهند والصين وانتقل مع تجارة الحرير إلى العراق وبلاد فارس ثم اهتم به العثمانيون وأولوه المكانة المستحقة وخاصة عندما طوّعه الخطّاطون في أعمالهم. وأضاف النوري قائلًا إن "هذا الفن مقصي لأن منظومة التدريس داخل كليات ومعاهد الفنون الجميلة لم تتطور منذ عقود" مسترسلًا "نعم لم تتطور منذ الاستعمار إلى اليوم إذ لم تعد إلى ثقافتها الأولى ففن مثل فن الخط العربي يعاني غربة في بلده".
أستاذ الفنون الجميلة لمجد النّوري لـ"الترا تونس": رائحة الأيديولوجيا تطل برأسها في موضوع الرسم على الماء إذ أهمله بورقيبة في تونس متأثرًا بتعامل أتاتورك في تركيا مع الموروث الفني والثقافي الديني
واعتبر أستاذ الفنون الجميلة بأن رائحة السياسة والأيديولوجيا تطل برأسها في مثل هذه المواضيع قائلًا "بورقيبة مؤسس الدولة التونسية الحديثة كان متأثرًا بمؤسس تركيا الحديثة بكمال أتاتورك فحاول تقليده في العديد من المسائل وخاصة في التعامل مع الموروث الفني والثقافي الديني، واُهملت لذلك فنون عديدة على رأسها الخط العربي والحرف المتعلقة به".
الحروب القديمة بين الشرق والغرب لم تنته فصولها بعد
الرسم على الماء أو "الإيبرو" هو فن مشرقي أصيل يعيش غربة في بيئته العربية الإسلامية قد تؤدي إلى اندثاره، إذ تم إقصاؤه منذ عقود لأسباب سياسية تحت عناوين الحداثة والتطور والرقي الحضاري، وكذلك لأسباب أيديولوجية ودينية لان آيات القران الكريم كانت تُخطّ على ورق" الإيبرو" المموّج والمزيّن.
ظُلم هذا الفن في تونس بإقصائه من المدارس العليا للفنون الجميلة بتعلة أنه لا يرقى إلى مستوى فنون أخرى مثل الرسم الزيتي والمائي والنحت والنسيج، كما تعرض كل من يريد لترويجه وإحيائه للإقصاء. ولعلّ تلك إحدى الصور المنعكسة للحروب القديمة بين الشرق والغرب والتي تتجلى فصولها اليوم بين دعاة الحداثة وغيرهم الذين يريدون التشبث بأصولهم مع الرقي والتطور في نفس الآن.
وقع فن الرسم على الماء ضحية الصراع الإيديولوجي والسياسي (من معرض الرسامة زهرة زرّوقي)
اقرأ/ي أيضًا:
المختصة في تصميم الصورة ريم الزياني: الصورة نمرود تلخّص الواقع وتختصر الزمن