مقال رأي
يُقال إن ما نعيشه اليوم في تونس كان من المنتظر أن نشهده في 25 جويلية/يوليو 2021 والأيام القليلة التي تلته وليس اليوم، لكن انعكاسات ثورة 2011 خاصة على القضاء والمجتمع المدني وقطاعات أخرى وترسخ الحريات لأكثر من 10 سنوات مثلت، حواجز صعُب تخطيها ولو لفترة.
تأخرت معركة "كسر العظام" طويلًا في تونس، لكن الخطى تتسارع مؤخرًا، من الجميع، من السلطة والمعارضة وكبرى المنظمات وأيضًا على مستوى عديد النشطاء والائتلافات
تأخرت معركة "كسر العظام" طويلًا في تونس، لكن الخطى تتسارع خلال الشهر الأخير، من الجميع، من السلطة والمعارضة الحزبية وكبرى المنظمات النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل) ومنظمات وجمعيات أخرى بارزة وأيضًا على مستوى عديد النشطاء والائتلافات الشبابية.
سارعت السلطة للذهاب نحو حملة اعتقالات واسعة طاولت سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين ونقابيين وبلغت العقوبات في بعض التهم الموجهة كالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي حد الإعدام. لم تقتصر هذه الإيقافات على تيار سياسي بعينه لكنها تركزت حول أسماء كانت في الأغلب معارضة لتوجهات الرئيس قيس سعيّد.
حرصت السلطة على خلق مشهدية وصنع الفرجة في عمليات الإيقاف، كان معظم الموقوفين محل تتبعات سابقة أو من المحامين الذين ينوبون في عديد القضايا، وكان يمكن استدعاؤهم للحضور للتحقيق دون مداهمات ليلية أو فجرًا للمنازل ودون استعراض أمني واسع ودون احتفاظ، لكن الشارع كان متعطشًا لهذه المشهدية، في ظل تعمق الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وحالة خمول و"بهتة" قد تنقلب في أي وقت. فٌهمت الرسالة جيدًا وأٌعيد استحضار "المتآمرين والمحتكرين والإرهابيين.."، وفق وصف الرئيس نفسه.
حرصت السلطة على خلق مشهدية وصنع الفرجة في عمليات الإيقاف، وكان الشارع متعطشًا لهذه المشهدية، في ظل تعمق الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وحالة خمول و"بهتة" قد تنقلب في أي وقت
ما ميّز أيضًا الإيقافات الأخيرة، خاصة التي كانت تحت لافتة "التآمر على أمن الدولة"، والتي انطلقت يوم 11 فيفري/شباط الماضي، بإيقاف "استعراضي" للناشط السياسي والقيادي السابق في حزب التكتل خيّام التركي، أنها وعلى عكس المعمول به سجلت صمتًا رسميًا تامًا، لم تعقد وزارة الداخلية ندوة صحفية عاجلة كما تعودنا لسنوات ولم تصدر بيانات وإيضاحات عن النيابة العمومية ولا عن القطب القضائي، واكتفى الإعلام بتتبع محاضر التحقيق المسربة على مواقع التواصل الاجتماعي وبشهادات محامي الدفاع.
يبدو المشهد سرياليًا أن تصمت السلطة في دولة ما عن حقيقة ملف بعنوان خطير كـ"التآمر على أمن الدولة" خاصة ومحامي الدفاع يؤكدون أنه "فارغ"، وفقهم، من أي أدلة، وأنها "محاكمات كيدية وسياسية وانتقامية من الأصوات المعارضة"، بينما رئيس البلاد يؤكد في أكثر من كلمة وخطاب له أنه مستهدف بنية الاغتيال ويصف المعتقلين بالإرهابيين وغير ذلك من الأوصاف. لكن لا يمكن نفي أن هذا الصمت خلق هالة من الإشاعات والروايات حول القضية والتي ساهمت في صناعة المشهدية المذكورة.
والإيقافات "اللافتة" بدأت في الحقيقة قبل ملف "التآمر" بأيام قليلة، عبر إيقافات ومحاكمات ضد نقابيين وهي الإيقافات التي يؤكد اتحاد الشغل أن وراءها قرارات إضرابات قانونية ومعلنة وأنها تمس الحق النقابي وحق الإضراب والاحتجاج وتسعى لبث الخوف، وأعلن إثرها تجمعات عمالية جهوية ووطنية تٌوجت بمسيرة حرصت المنظمة الشغيلة على"الحشد" لها صباح السبت 4 مارس/آذار الجاري.
لم يقتصر تصعيد السلطة تجاه اتحاد الشغل على محاكمات عدد من النقابيين بل تم طرد مسؤولين نقابيين أجانب والتلميح برفض مبادرة الاتحاد و كلها عناصر أججت الصدام بين الطرفين
ولم يقتصر تصعيد السلطة تجاه اتحاد الشغل على محاكمات عدد من النقابيين بل كان طردها الأمينة العامة للاتحاد الأوروبي للنقابات من تونس ومنعها نقابيًا إسبانيًا بارزًا من الحضور لدعم الاتحاد وترحيله من المطار وإعلان أعلى هرم السلطة في كلمة أمام أحد وزرائه "أن حضور أي أجنبي للتظاهر في تونس يعتبر أمرًا غير مقبول" ورفضه الضمني، في إحدى كلماته، لـ"مبادرة الإنقاذ" التي يعمل على إعدادها اتحاد الشغل ومنظمات أخرى.. كلها عناصر أججت الصدام بين الطرفين ليبلغ درجة لم تعهدها البلاد في أي مرحلة منذ جانفي/يناير 2011.
وزادت في تأزم الوضع العام في البلاد حملة عنصرية تجاه المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء، "طُبخت" على نار هادئة منذ فترة على فيسبوك وخاصة تطبيق تيكتوك، بتأجيج عبر صور وفيديوهات معظمها من خارج تونس، لتبلغ أوجها مع خطاب رئاسي أكد مؤامرة متداولة على منصات التواصل حول "مخطط للتوطين في تونس يستهدف تغييرًا ديمغرافيًا لتركيبة البلد"، كما قال الرئيس التونسي، ويفتح بذلك سيلًا من العنف الداخلي المادي واللفظي وسيلًا من الانتقادات الخارجية خاصة من دول إفريقية ومن الاتحاد الإفريقي.
في ظل كل هذا التأزم، تواصل معارضة الرئيس الحزبية تحركاتها الاحتجاجية، تندد بالاعتقالات وبالوضع القائم وإن حافظت على مسافة فيما بينها وهي مسافة منتظرة بالنظر لحجم الصراع بينها خلال العشرية الماضية ولحجم الاختلافات، لكنها ابتعدت عن توجيه الاتهامات لبعضها البعض وتعمل بعض عناصرها على حد أدنى من التلاقي والتنسيق.
تتتالى عدة أصوات اليوم للحديث عن "رسائل" من السياسيين الموقوفين داعية من هم خارج الأسوار "لتجاوز الخلافات وتفعيل النقاشات والوحدة"
في هذا السياق تحديدًا، كانت المبادرة التي يعمل على تطويرها خيّام التركي مثلاً، وفق ما أُعلن من سياسيين ونشطاء ومحامين، إبان اعتقاله، وفي هذا السياق، تتالى عدة أصوات اليوم للحديث عن "رسائل" من الموقوفين داعية من هم خارج الأسوار "لتجاوز الخلافات وتفعيل النقاشات والوحدة".
هنا يذهب الكثيرون إلى تأكيد غياب التأثير المباشر لتحركات المعارضة واتحاد الشغل الاحتجاجية وتحركات غيرهم من الفاعلين في المشهد التونسي، وهو تفكير سليم في بعض جوانبه إلى حد الآن على الأقل، إذ لا يذكر أن تفاعل قيس سعيّد مع المبادرات والاحتجاجات المتعددة منذ زهاء سنة ونصف.
وفي إطار سياق التصعيد نفسه، رفضت السلطات المحلية (ولاية تونس) تمكين ائتلاف جبهة الخلاص الوطني المعارضة ترخيصًا للتظاهر الأحد 5 مارس الجاري، لكن الأخيرة تتمسك بالخروج للتظاهر تنديدًا بالاعتقالات.
سلسلة الاعتقالات متواصلة بل وتتسع دائرتها لتضع الجميع تقريبًا أمام الخطر وضرورة التقاء المسارات أو الصدام
ولكن بعيدًا عن درجة تأثير الاحتجاجات في تغيير الواقع التونسي، على اختلاف من يقودها، فإن التصعيد في حدة الخطاب ورد الفعل عبر الاعتقالات والاحتجاجات والإضرابات والمحاكمات وغير ذلك لا يمكن إلا أن يسرع بالكشف عن المآلات، خاصة وقد بقيت تونس لسنة ونصف في مرحلة بين منزلتين، لا هي عادت خطوة ولا هي تحركت بوضوح إلى مرتبة وحسابات مغايرة.
كيف ستحسم معركة كسر العظام؟ وإلى أي حال ستستقر البلاد إلى حين؟ سؤال قد نتابع إجابته قريباً جدًا (بغض النظر عن خطورة أو سلامة تلك المآلات) خاصة وسلسلة الاعتقالات متواصلة بل وتتسع دائرتها لتضع الجميع تقريبًا أمام الخطر وضرورة التقاء المسارات أو الصدام.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"