راضية العمري إحدى ضحايا انتهاكات النظام السابق، حوكمت سنة 1994 بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مرخّص لها، وعقد اجتماعات سرّية. وعلى الرغم من مرور سنوات عدّة على القضية وعلى فترة سجنها، إلاّ أنّها تذكر كلّ تفاصيلها بدقة. أمر فقط لا تعلمه، هو اسم جلّادها. إذ تقول راضية إنّ أغلب من يعملون في الوحدات السجنية ينادون بعضهم بأسماء مستعارة أو بِكنية غريبة. وتذكر فقط أنّ جلّادها كان يُكنّى بساطور.
حالها كحال العديد من السجناء ممّن تعرّضوا إلى انتهاكات جسيمة واعتداءات من قبل أشخاص لا يفقهون أسماءهم الحقيقية ولا يعرفون هويّاتهم. فقط يذكرون تفاصيلهم وملامحهم والفترة التي كانوا يباشرون فيها مهنتهم، سواءً في الأجهزة الأمنية أو في الوحدات السجنية. لتبقى بذلك أسماء العديد من جلّادي الماضي خفيّة لم تُكشف حقيقتها، ممّا صعّب جلب العديد منهم إلى المحاكمات.
العديد من السجناء ممن تعرضوا إلى انتهاكات النظام السابق لا يفقهون أسماء جلاديهم الحقيقية ولا يعرفون هويّاتهم، فقط يذكرون تفاصيلهم وملامحهم
لكن في المقابل، يغيب كلّ من اكتشفت هويّته ونسبت إليه انتهاكات اُرتكبت، سواءً من قبل أعوان الأجهزة الأمنية أو أعوان السجون. وقد دوّنت هيئة الحقيقة والكرامة في الصفحة 90 من الجزء الثاني من تقريرها أسماء العديد من الجلّادين وكنيتهم. مع ذلك يُصرّ هؤلاء على الغياب عن جلّ المحاكمات في الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية. ممّا عطّل سير القضايا في تلك الدوائر. الأمر الذي يطرح التساؤل حول مآل تلك القضايا في ظلّ غياب جلّ المتهمين.
الدوائر القضائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية منتشرة في 13 محكمة في تونس. كانت تضم 91 قاضيًا من بينهم 13 رئيس دائرة جنائية إلى جانب 52 عضوًا قارًا. فيما تمّ فيما بعد إلحاق 43 قاضيًا. وقد أحدثت الدوائر القضائية تلك بموجب الفصل 8 من قانون العدالة الانتقالية لتتعهّد بالنظر في القضايا الخاصة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وقضايا الفساد المالي إضافة إلى تزوير الانتخابات. وقد نصّ الفصل الثامن من قانون العدالة الانتقالية على ضرورة تسمية قضاة من بين من لم يشاركوا في محاكمات ذات صبغة سياسية مع تكوينهم في مجال العدالة الانتقالية.
وقد سبق لمنظمة بوصلة أن أشارت العام الماضي إلى أنّ الدوائر القضائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية نظرت منذ سنة 2018 في 38 قضية من بين 173 ملفًا أحيل على أنظارها من قبل هيئة الحقيقة والكرامة. فيما بلغ عدد الضحايا 541 ضحية و687 متهمًا. فيما أشار خيّام الشملي ممثل عن جمعية محامون بلا حدود في ديسمبر/كانون الأول الماضي أنّ الدوائر القضائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية تنظر في 205 ملفات أحالتها إليها هيئة الحقيقة والكرامة. مضيفًا أنّ الجلسات تُعقد منذ سنة 2018 لكن دون أن تصدر أيّ نتيجة أو أي حكم.
اقرأ/ي أيضًا: سنة بعد انطلاق الدوائر القضائية المتخصصة.. النقابات الأمنية تضغط والجلاد غائب!
تعنّت غياب المتّهمين عن المحاكمات
وقد انطلقت الدوائر في تلقي الملفات من هيئة الحقيقة والكرامة عام 2018. لكن منذ انطلاقها، تواجه الدوائر القضائية تلك عدّة مشاكل أهمّها عدم وجود اسم مرتكب الانتهاك، وعدم توصّل هيئة الحقيقة والكرامة في طور تحقيقاتها إلى كشف هويّة المتهم. الأمر الذي يستوجب البحث والتحقيق في تلك الملفات من جديد. كما تواجه الدوائر القضائية مشكلًا كبيرًا وهو تغيّب جلّ المتهمين في قضايا الانتهاكات تلك والاقتصار على حضور الضحايا فقط، ممّا عطل مسار تلك القضايا منذ أكثر من ثلاث سنوات.
أمام تواصل تغيّب المتهَمين عن حضور الجلسات، قدّم عدد من الضحايا شكاية إلى القضاء ضد أعوان الضابطة العدلية الذين لا ينفّذون بطاقات الجلب
وقد أكد ائتلاف المجتمع المدني للدفاع عن مسار العدالة الانتقالية سنة 2019 من جهته مشكل رفض أعوان وزارة الداخلية تنفيذ القرارات الصادرة عن رؤساء الدوائر، كالاستدعاءات وبطاقات الجلب وقرارات تحجير السفر بغاية التفصّي من المساءلة والمحاسبة.
كما ذكر الائتلاف أيضا في بيانه "تهديدات النقابات الأمنية بعدم تأمين قاعات الجلسات ودعوتهم لزملائهم من المنسوب إليهم الانتهاك إلى عدم الامتثال أمام الدوائر وتجاهل قرارات الجلب الصادرة عنها".
وما تزال أغلب القضايا تلك تواجه التعطيل بسبب تعنّت المتّهمين وغيابهم عن الجلسات، على الرّغم من الاستدعاءات المتواصلة لجلّ من نسبت إليهم الانتهاكات. وقد نظرت المحكمة الابتدائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية بتونس، مارس الماضي في عدد من قضايا الانتهاكات التي مورست خلال حكم النظام السابق، من بينها قضية وفاة وتعذيب الناشط السياسي والقيادي بحركة الاتجاه الإسلامي، سحنون الجوهري. وهي الجلسة التاسعة ومع ذلك لم يأت المتهمون إلى المحكمة.
الضحايا يقدمون شكاوى إلى القضاء ضد الضابطة العدلية
وأمام تواصل تغيّب المتهَمين عن حضور الجلسات، قدّم عدد من الضحايا مؤخرًا شكاية إلى القضاء ضدّ أعوان الضابطة العدلية الذين لا يُنفّذون بطاقات الجلب. كما أصدرت 18 منظمة وجمعية بيانًا مشتركًا عبّرت فيه عن "دعمها لهذه المبادرة لإنهاء العدالة المزدوجة ذات الوجهين. لأن الكشف عن الحقيقة والمساءلة والمصالحة المحتملة يتطلّب مشاركة متساوية من طرف الجناة وضحايا الانتهاكات على حدّ سواء. ولكن الحال يختلف على أرض الواقع إذ يحضر في كلّ جلسة أمام الدوائر المتخصّصة، الضحايا وينتظرون بلا جدوى على أمل أن يأتي من نُسبت إليهم الانتهاكات لتسليط الضوء على آلية الجلّاد وكشفها، إلّا أنّ مقاعد المتّهمين تكون في غالب الأحيان شاغرة".
الضحايا شاهدوا بعض المنسوبة إليهم الانتهاكات مرارًا وتكرارًا في أماكن مختلفة، لكنّهم يتخلّفون عن الموعد في المحكمة بسبب عدم تنفيذ بطاقات الجلب
كما ورد في نص البيان أنه "في القانون الجزائي التونسي، كما هو الحال في كل الأنظمة القانونية الأخرى، لا تعتبر مشاركة المتهم في محاكمته الجنائية اختيارية. وقبل كل جلسة، توجه المحكمة الاستدعاءات لحضور جلسة المحاكمة. وعندما يستمرّ المتّهمون في تجنّب المحاكمة، تصدر المحكمة بطاقات جلب تنفذها الضابطة العدلية وتقبض على المتهرّبين من العدالة لتضمن حضورهم لدى المحكمة. ورغم ذلك يتخلّفون عن الموعد والسبب عدم تنفيذ بطاقات الجلب، مما جعلها إجراءً دون قيمة. حيث لا يمكن إيجاد المنسوبة إليهم الانتهاكات على الرغم من أنّ العديد منهم من المديرين التنفيذيين السابقين لجهاز الأمن ويسهل تحديد موقعهم. بل إنّ الضحايا شاهدوا بعضهم مرارًا وتكرارًا في أماكن مختلفة".
اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى الجلسات العلنية لضحايا الانتهاكات.. جراح لا تزال مفتوحة
الممثل عن جمعية محامون بلا حدود خيام الشملي أشار لـ"الترا تونس" إلى "أنّنا اليوم في السنة الرابعة للتقاضي في هذه الدوائر وسنتجاوز بذلك الآجال المعقولة للتقاضي. وهو مبدأ دستوري يعني الحق في محاكمة في آجال معقولة. ومن أسباب تعطّلها هو غياب المنسوب إليهم الانتهاك عن المحاكمات، بالرغم من إصدار تلك المحاكم لمئات الاستدعاءات ومئات بطاقات الجلب. ومستوى تنفيذها يتم عبر وزارة الداخلية. مشيرًا إلى أنّ الجمعيّة قد توجّهت إلى وزارة الداخلية "أخبرتنا بأنه ليس لديها علم بوجود أعوان من الشرطة العدلية يرفضون تطبيق بطاقات الجلب". مضيفا "لأنّ المنسوبة إليهم الانتهاكات هم من زملائهم من المؤسسة الأمنية والسجنية. وهذا يُعتبر تستّرًا على الجريمة، والعديد من الضحايا لديهم ملفات وقدّموا مؤخرًا شكايات ضد الضابطة العدلية. وإذا لم يقع تطبيق بطاقات قضائية فإن الأمر يصل إلى حد المشاركة في الجريمة خاصة إذا كان هناك قتل عمد أو اغتصاب أو تعذيب".
ممثل عن جمعية محامون بلا حدود لـ"الترا تونس": وزارة الداخلية أخبرتنا بأنه ليس لديها علم بوجود أعوان من الشرطة العدلية يرفضون تطبيق بطاقات الجلب، وهذا يُعتبر تسترًا على الجريمة
وأضاف خيام الشملي على صعيد آخر أنّ "الضحايا قدّموا شكايات لأنّهم يحضرون عشرات الجلسات بمفردهم دون المتهمين. وكأنّهم في جلسات "فرّغ قلبك"، ولا يحضر المتّهم وحتّى إن حضر مرّة فإنّه يكون مرفوقًا بمحام يتمّ تغييره في جلسة أخرى، أو يُقدّم شهادة طبية مرضية على الرغم من التقاء الضحايا بأغلب المتّهمين في المقاهي أو الشارع". مشيرًا إلى "وجود مديرين عامّين سابقين، مقر سكناهم معلوم، يحضرون مرّة ويغيبون أخرى. وهي استراتيجية دفاع واستغلال القانون للإطالة في آجال القضية، وأمر متعمّد لتعطيل سير القضايا لكي لا يقع كشف الحقيقة ولا تحصل المساءلة الجزائية ولا المحاسبة. أيّ تعمّد لربح زمن قضائي في ظل وجود مبادرات للمصالحة يقوم بها مجلس الشعب، بجلب الأمين العام السابق للتجمّع محمد الغرياني مكلّفًا بالمصالحة. وسيقع تقديم مشروع قانون، لذا يربحون الوقت على أمل أن توجد مصالحة تُلغي المحاكمات في تلك الدوائر وهو أمر خطير" وفق وصفه.
وأشار محدّثنا من جهة أخرى إلى أنّ "الهدف من العدالة الانتقالية هو الإدانة وكشف الحقيقة وردّ الاعتبار، ويُمكن أن يقع الصلح حتّى في المحاكم بين الضحية والمتهم، أي أنّ المصالحة يمكن أن تحدث في المحاكم. فالقاضي في القانون يأخذ بعين الاعتبار اعتذار المنسوب إليه الانتهاك وقبول الضحية لذلك الاعتذار، وتحدث فقط إدانة بسيطة دون سجن حسب القانون، لكن بات الضحايا يتوسّلون قدوم المتهمين للمصالحة". مضيفًا "هناك أسباب أخرى لتعطيل المسار القضائي وهي الحركة القضائية التي تحدث كل سنة من قبل المجلس الأعلى للقضاء، فالتغيير الكبير على مستوى الدوائر يضطرّ القضاة إلى دراسة الملفات من جديد. وهو ليس السبب الرئيسي طبعًا لاسيما وأنّ رؤساء تلك الدوائر لا يقع تغييرهم. ولكن يبقى غياب المتهمين العائق الأكبر أمام تقدّم سير تلك القضايا".
اقرأ/ي أيضًا: الأمل الأخير للمحاسبة.. ماذا تعرف عن قضاء العدالة الانتقالية؟
وأشار رئيس جمعية الكرامة وردّ الاعتبار كريم عبد السلام في المقابل في تصريح لـ"الترا تونس" إلى أنّ تغيّب المتهمين عن جلسات المحاكمات أمر منتظر لأنّ منطق القانون بُني لا على غياب المتهمين بل على تغييبهم، إذ لم يحفّز الناس المعنيّة بالتصريحات بتمييز إيجابي من أجل الاعتراف. فالمتّهم هو موظّف عمومي سواءً في الأمن أو غيره، ومازال يخضع إلى قانون السرّ المهني، وفي المقابل يُطلب منه الاعتراف! يعني المتهم يجد نفسه محاسَبًا بقانون إفشاء السرّ المهني من جهة، ومحاكمته بالتهم المنسوبة إليه كشخص وليس كهيكل من جهة أخرى".
رئيس جمعية الكرامة ورد الاعتبار لـ"الترا تونس": تغيّب المتهمين عن جلسات المحاكمات أمر منتظر لأنّ منطق القانون بُني لا على غياب المتهمين بل على تغييبهم
كما أضاف "هناك إيهام بسيناريو غياب المتّهمين، والحال أنّهم من غيّبوهم. لأنّه في التجارب المقارنة في الدول الأخرى قاموا بالتحفيز الإيجابي لحثّ الناس على الاعتراف، سواءً الاعتراف مقابل التخفيف أو مقابل إسقاط الدعاوى. على الأقل لكشف الحقيقة. لكن في تونس يحصل العكس، ويُطلب من الأشخاص الاعتراف لسجنهم، وفي الوقت نفسه محاسبتهم أيضا بإفشاء السر المهني. ويجد المتهم نفسه يحاسَب من جهتين، من إدارته ومن الضحايا في تهم خطيرة كالاغتصاب والقتل".
وأكد محدث "الترا تونس" أنّ "في تونس هناك توجّهًا للمحاسبة الفردية للأشخاص وليس كهيكل كامل أو مؤسسة. على الرغم من أنّ ذلك الموظف كان يعمل باسم الدولة، واليوم يريدون تحميله مسؤولية فردية وليس جماعية، متابعًا: "لذا أشير إلى أنّه وقع تغييب المتّهمين وليس غيابهم. وهيئة الحقيقة والكرامة في حدّ ذاتها لم تكشف الحقيقة فهل سننتظر الكشف عنها، والحال أنّ الدوائر القضائية مجرّد مسرحية وضعت فيها كلّ الإشكاليات الإجرائية والقانونية والدستورية لتسقط ولا تنجح؟ لا أعتقد أنّه بهذه المسارات التي بناها العقل السياسي والقانوني سنصل إلى الحقيقة" وفق تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا:
السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية
ذاكرة انتهاكات حقوق الإنسان في تونس.. حفظ للتاريخ واستخلاص للعبر (2/1)