هنا أسفل "وادي القلب"، أقف في حضرة "معبد المياه" أو معبد "نيبتون" الذي مازالت جدرانه النصف دائرية مصبوغة بفتائل زيت الزيتون تقرّبًا لآلهة الخصب "بعل آمون"، أنصت بخشوع إلى صمت الوادي المهيب الذي يتوسط تاريخ وأساطير سلسلتي جبال زغوان السامقة والدّاكنة الخضرة والمرقّطة بالصخور الجيرية البيضاء كغزال أطلسي يطلّ بريبة ووجل. وأنظر إلى هيبة الفضاء المتّقد بالذاكرة، فقد أكون أقف نفس وقفة الإمبراطور الروماني"أدريانوس" الذي زار "زيكوا" (الاسم الروماني لمدينة زغوان) ووقف في هذا المكان وشرب من نمير عين "النّفا" التي ينهمر ماؤها منذ الأزل في جنبات المعبد. أسرّ الماء المقدّس "أدريانوس"، من فرط عذوبة ماء العين وشدة حلاوته، فقرر نقله إلى "قرطاج" التي تمّت رومنتها للتوّ وعدّت ثاني أهمّ مدينة في الإمبراطورية بعد روما بل هي المدينة الأولى في "أفريكا" التي زارها الإمبراطور مرّتين متتاليتين.
"الحنايا الرومانية" هي جسور معلّقة تعلوها سواقي مغطاة تنبسط فوق أقواس وأعمدة قدّت من صخور صلبة وتمتدّ على طول 132 كيلومتر لنقل المياه العذبة من زغوان لقرطاج
تزدحم الذاكرة بقصص المكان المخضّبة بالنصر والشّجن فتحملها نسائم المساء مع زكاء زهرة "النّسري" فتجذل روحي وتذكّي استحضاري لصور وأصوات حدثت منذ قرون، لكنّ سؤالًا بقي يلحّ عليّ طيلة بقائي بالمعبد وطيلة انشداد بصري لتلك الآفاق البعيدة التي لطالما سحرت الأجداد وطوّحت بأحلامهم وهو: أي روح شجاعة سكنت بناة "الحنايا" وجعلتهم يرفعون المياه العذبة في سواقي ممتدة على أعمدة صلبة طيلة تلك الكيلومترات من زغوان إلى قرطاج؟
اقرأ/ي أيضًا: عن أشهر لوحة فسيفساء تونسية.. "فرجليوس" الذي لا ترى وجهه إلاّ في تونس
أكبر مركّب مائي روماني
ألتفت إلى طريق "المياه الإمبراطورية"، فأتذّكر لقاءً خاطفًا بمقهى صغير بمحيط كلية 9 أفريل بتونس جمعني بأستاذ التاريخ الوسيط الجامعي الراحل محمد الطاهر المنصوري الذي تحدث أن "معلم الحنايا الرومانية التي رفعت مياه عيون جبال زغوان إلى قرطاج بأمر من إمبراطور مثقف ورحّالة وشغوف بتشييد الحصون والمنشآت الحجرية والمائية هي معلم رفيع وفخم، وشخصيًا أعتبره أهمّ من أهرامات الجيزة من حيث الضخامة لأن عدد الصخور الرخامية والجيرية والصوانية التي بنيت بها الحنايا يفوق بكثير عدد صخور الأهرامات. ومن حيث الدلالة الرمزية، إنّ رفع المياه هو دليل على تجويد الحياة وتحسين البقاء، أما الأهرامات فهي عنوان يبحث في الموت وما بعد الموت". لا أدري لماذا أستحضر كلام الأستاذ المنصوري كلّما زرت زغوان أو مررت بمعلم "الحنايا"، لقد ظلّ توصيفه محفورًا بذاكرتي بل جعلني أنظر نظرة أخرى للمعلم وهي أنني إزاء "أهرامات تونسية".
شُيّدت الحنايا بأمر من الإمبراطور الروماني "أدريانوس" بعد إعجابه بعذوبة ماء زغوان (جيتي)
و"الحنايا الرومانية" هي جسور معلّقة تعلوها سواقي مغطاة تنبسط فوق أقواس وأعمدة قدّت من صخور صلبة وتمتدّ على طول 132 كيلومتر، ويذكر أن خبراء في الفلاحة والبناء أرسلهم الإمبراطور "أدريانوس" من قرطاج إلى "زيكوا" لتنفيذ المشروع فما كان منهم إلا أن أضافوا عيون أخرى الى جانب عين "نافا" أو "عين زغوان" و"عين عياد" وهي "عين بن سعيدان"، و"عين زيقا" و"عين جور" بمنطقة "جغّار" من جبل الفحص و"عين بوسعدية" من جبل برقو. وكل هذه العيون العذبة تلتقي في منطقة "مقرن"، وفي هذا المكان تتضح هذه الشبكة المائية العجيبة التي شرع في بنائها سنة 122 ميلادي واكتملت سنة 166 ميلادي أي في نفس الفترة التي اكتملت فيها أشغال حمامات قرطاج المعروفة بـ"بحمامات أنطونيوس" المطلّة على البحر الأبيض المتوسط والتي استقبلت مياه زغوان وسط احتفالات امتدت لأسابيع بأمر إمبراطوري.
"الحنايا الرومانية" هي جسور معلّقة لنقل المياه العذبة (دي أوغستيني/جيتي)
لم تكن الحمامات لوحدها هي التي انتفعت بالمياه بل كل قرطاج وذلك عبر ما سمي في ذلك الوقت بـ"مواجل الشيطان"، وقد نعتت كذلك بالنظر للصدى الكبير الذي يحدث عند أيّ كلام يحدث قربها، وهي مجموعة من الدواميس أو المواجل الفسيحة، ويصل عددها إلى 24 داموسًا بطول 130 خطوة لكل واحد، وتبدو متّصلة ببعضها البعض عبر صهاريج ضخمة بقي منها إلى اليوم 15 صهريجًا بطول 100 متر وعرض 7 أمتار.
مسار الحنايا على مسافة 132 كيلومتر من زغوان إلى قرطاج
"الحنايا" هي معجزة هندسية بل إن أهل التاريخ يعتبرونها "أكبر مركّب هيدروليكي روماني على مرّ التاريخ"، فهي لم تعرف يومًا تدفقًا عنيفًا للمياه وذلك لدقة الميلان الذي قام به المهندسون والبناة والذي لا يتجاوز في كل الحالات 0،29 درجة. ومن ملامح العجب فيها أنّها تنخفض في بعض الأماكن لتلامس الأرض وخاصة عند سهول مقرن وهنشير الداموس، وترتفع لتسامق السماء فيصل ارتفاعها إلى 20 مترًا بجهة المحمّدية وباردو ووادي الليل وصنهاجة.
كيف تعاملت الحضارات اللاحقة مع الحنايا؟
"الحنايا" التي تبدو كوشم في وجه تاريخ تونس عرفت أسوأ أيامها مع الفتح الإسلامي، فمع دخول حسان بن النعمان أرض إفريقية راجت عدة فتاوى تجيز الاعتداء على مخلفات الحضارات السابقة لمجيء الإسلام فتم قطع المياه عن قرطاج واستغلّت حجارتها استغلالات أخرى عديدة.
اقرأ/ي أيضًا: رباط المنستير.. حصن دفاع ومزار عبادة وبوابة علم
وذكر العلامة عبد الرحمان بن خلدون في كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" والمعروف بـ"المقدمة " الاعتداءات على معلم الحنايا الرومانية قائلًا: "وكذلك الحنايا المعلقة بقرطاجنّة إلى هذا العهد احتاج أهل مدينة تونس انتخاب الحجارة لبنائهم واستجاد الصنّاع حجارة تلك الحنايا فتراهم يحاولون هدمها لأيام عديدة فلا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق وتجتمع له المحافل... لقد شهدت منها في أيام صباي كثيرًا".
الحنايا الرومانية على مستوى جزء وادي الليل
لكن خلال القرن الثالث عشر وتحديدًا مع فترة حكم الخليفة المستنصر بالله الحفصي، تم ترميم الحنايا فأعيدت لها الحياة من جديد مع إضافة حنايا جديدة لتزويد مدينة تونس بالماء الصالح للشراب وسقي منتزهات راس الطابية وجنان أريانة وحدائقها العجيبة التي بناها المستنصر بنفسه في النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
الحنايا - منطقة بئر حليمة
أما خلال فترة الحكم الحسيني، ثمة اتفاق شهير بخصوص الحنايا ممضى سنة 1852 بين "محمد باي" وقنصل فرنسا وبمقتضاه تبني فرنسا خزّانات كبرى بمنطقة "سيدي عبد الله". كما يذكر التاريخ أن إصلاحات الوزير الأكبر خير الدين باشا شملت أيضًا ترميم الحنايا الرومانية التي تزود مدينة تونس بالماء، كما حرص على إسناد "لزمة ماء زغوان" إلى جنرالات مرموقين مثل الجنرال البكوش وحسين ورستم ومحمد خزندار.
إهمال واعتداءات.. أين الدولة؟
بقيت الحنايا تعمل بانتظام إلى حدود القرن التاسع عشر قبل أن تتحول إلى معلم أثري يشرف عليه المعهد الوطني للتراث التابع لوزارة الشؤون الثقافية، ولكن هذا المعلم المصنف ضمن القائمة الوطنية الأساسية لم يحض بالعناية والصيانة اللازمة طيلة فترة الاستقلال. استثناءً للترميمات التي شملت الأعمدة الممتدة على مدى 60 كلم خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، ظلّ هذا المعلم الفريد من نوعه مهملًا تمامًا وخاصة تلك الأجزاء الموجودة في المناطق الحضرية والعمرانية، حيث تعرضت الحنايا في جزئها الكائن بمنطقة المحمدية من ولاية بن عروس سنة 2018 إلى عمليات هدم كاملة بجرّافة آليّة من قبل السكان على إثر الفيضانات التي جدت وقتها.
الحنايا اليوم في شباو ووادي الليل (رمزي العياري/ألترا تونس)
كما استولى العديد من المواطنين بجهة باردو من ولاية تونس وصنهاجة ووادي الليل وشبّاو من ولاية منوبة على الأرضي القريبة من الحنايا وضمها إلى منازلهم ومصانعهم حتى أنه ثمة من قام بإزالة أجزاء من الحنايا بشكل كلي في اعتداء صارخ على الذاكرة والتراث الوطني ووسط صمت وزارة الشؤون الثقافية. كما تحولت أجزاء من الحنايا إلى مصبّات للفضلات ونفايات البناء.
وصف البكري "قناة قرطاجنّة" في "المسالك والممالك" وذكرها الإدريسي قائلًا: "وطول مسافة جري هذا الماء من العين إلى الدواميس يمر عبر عدة قناطر مبنية بالصخر لا يحصى لها عدد.. وجري الماء بوزنة معتدلة، فما كان منها من نشز الأرض كان قصيرًا وما كان منها في بطن الأرض وأخاديدها كان في غاية العلو.. وهذا من أغرب ما أبصرت على وجه الأرض".
تتطلب "الحنايا" اليوم تدخلًا فوريًا من أجل إنقاذها ووضع برنامج استراتيجي وطني للحماية والصيانة والتوعية حول أهميتها وضرورة المحافظة عليها والذّهاب لإدراجها ضمن لائحة التراث الإنساني باليونسكو. ولازلت، في الأثناء، أقف في حضرة معبد المياه المقدّسة بأعالي جبل زغوان أذاكر التاريخ في صمت، وألتقط أصداء بعيدة لضجيج بناة الحنايا وخرير مياه، مازالت تشق صخر الذاكرة بهدوء يشبه شميم الزعتر الجبلي على وجه الزمن الآبد.
اقرأ/ي أيضًا:
"الماجل الأزرق" و"خزان السُّفرة".. معالم مائية تاريخية تصارع من أجل البقاء