17-يوليو-2021

يكتسي مقترح الحكومة السياسيّة أهميّته ودوره في محاولة الخروج من أزمة تونس المركّبة (ياسين القايدي/الأناضول)

 

مقال رأي

 

تعيش تونس على وقع الإخفاقات أمام الوباء الزاحف، بعد أن كادت تصبح نموذجًا يُحتذى في مواجهة كورونا في موجتها الأولى. وقد كان عبد اللطيف المكي وزير الصحة في حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة لخّص الوضع الصحي من مارس 2021 إلى اليوم بقوله: "في الموجة الأولى استبقنا الوباء فأحطنا به وفي الموجة الثانية استبَقنا فخرج عن السيطرة". والسبب في الحالتين سياسي. فالحرب ضد كورونا خطّة طبيّة بقيادة سياسيّة وهو ما كان حاضرًا في الموجة الأولى وغائبًا في الموجة الثانية. 

في هذا السياق يأتي مقترح الحكومة السياسية من قبل حركة النهضة أهمّ كتلة في حزام حكومة هشام المشيشي.

  • سياق المقترح

السياق الذي يتنزّل فيه مقترح الحكومة السياسيّة الذي تقدّمت به حركة النهضة على هامش انعقاد مجلس شوراها الأسبوع الفارط على قدر كبير من التعقيد. وهو سياق الأزمة، ويمكن الإشارة إلى ثلاثة محدّدات شكّلت حقيقتها ومستوياتها: فشل مبادرة الحوار الوطني، وتفاقم الوضع الوبائي، وتواصل سياسة التعفين نتيجة الصراع المدمّر في أعلى مؤسسات الدولة وما استقرّ من قطيعة بين رأسي السلطة التنفيذيّة.

السياق الذي يتنزّل فيه مقترح الحكومة السياسية الذي تقدّمت به النهضة يمكن تلخيصه في: فشل مبادرة الحوار الوطني، وتفاقم الوضع الوبائي، وتواصل سياسة التعفين نتيجة الصراع المدمّر في أعلى مؤسسات الدولة

فمبادرة الحوار الوطني التي أطلقها الاتحاد لم تتجاوز مرحلة الإعلان عنها. وكان لرئيس الجمهوريّة الدور الأبرز في إجهاضها في مناسبتين وعد فيهما بتبنّي المبادرة دون أن يفي بوعده. ولم يَعْلق بأذهان الناس سوى ما وضعه من شروط مُبهمة يستثني بها من الحوار المفترض فاسدين غير محدّدي الهويّة ويصرّ فيها على تشريك شباب الداخل وهو يعني شباب تنسيقيّاته في الانتخابات الرئاسيّة.

أمّا مضمون المقترح فقد فصّل فيه رئيس مجلس شورى النهضة القول بالوقوف عند ازدواجيّة لازمت حكومات 2019 في اختلاف الأغلبيّة البرلمانيّة عن حزام الحكومة البرلماني إلى حدّ التعارض. وأدّت هذه الازدواجيّة إلى سقوط حكومة الجملي وتعثّر حكومة الفخفاخ قبل استقالة رئيسها في مواجهة تهمة تضارب المصالح.

وظهرت هذه الازدواجية مع حكومة المشيشي في موقف كتلة الإصلاح بقيادة التجمّعي النائب حسونة الناصفي وحزب تحيا تونس بقيادة يوسف الشاهد. فلئن كانت الكتلتان جزءًا من حزام حكومة المشيشي فإنّهما لم تخفيا انخراطهما في توجّه سحب الثقة من رئيس البرلمان رئيس حركة النهضة وشريكهما في حزام الحكومة السياسي. وهذا ما أحدث شروخًا في مثل هذه الكتل الصغيرة كشف عنها التصويت الأخير على بعض مشاريع القوانين.

وهذه الوضعيّة عرفت بدايتها مع حركة النهضة في 2014 عند مشاركتها الباجي قائد السبسي الفائز بالرئاسات الثلاث في الانتخابات بكاتب دولة رغم أنّها الحزب الثاني بـ69 مقعدًا من 217 وهو عدد مقاعد مجلس نواب الشعب. وقد كان زعيم النهضة يومها صرّح بأنّ "من أمسك بأحد أصابع اليد فقد مسك باليد كلّها".

وكان الحوار الوطني سابقًا في 2014 أسقط  حكومة الترويكا الثانية بقيادة النهضة في سياق مسار هدفه إخراج النهضة من الحكم. وعشيّة منح حكومة التكنوقراط برئاسة مهدي جمعة الثقة قال راشد الغنوشي: خرجنا من الحكومة ولم نخرج من الحكم. ويبدو أنّ إخراج النهضة من الحكم بات مستحيلًا ما استمرّت الديمقراطيّة رغم تعثّر مسارها. وهذا ثابت من ثوابت السياسة في بلادنا بعد 2011 لن يُفهم المشهد السياسي بدونه. 

لازمت حكومات 2019 ازدواجية في اختلاف الأغلبيّة البرلمانيّة عن حزام الحكومة البرلماني إلى حدّ التعارض وأدى ذلك إلى سقوط حكومة الجملي وتعثّر حكومة الفخفاخ      

اقرأ/ي أيضًا:  فشل النخبة التونسية في تحقيق التسوية التاريخية المطلوبة

  • كَسْر المعادلة

قامت حكومة الفخفاخ على مقابلة بين القديم والجديد تشير إلى معادلة سياسيّة بصدد التشكّل. ولكن سرعان ما اهتزّت هذه المقابلة مع انتخاب رئيس البرلمان ونائبيه بالتعارض بين الائتلاف البرلماني والائتلاف الحكومي. وكانت هذه الازدواجيّة العرج الذي لازم حكومة الفخفاخ ومهّد لسقوطها ليستمرّ بعدها ويمتدّ أثره إلى حكومة المشيشي.

شُكِّلت حكومة المشيشي من حطام المعارك الحزبيّة حول حكومة الجملي وملابسات إسقاطها. وممّا خلّفته تلك المعارك المتجدّدة داخل حكومة الفخفاخ من ركام حزبيّ لم يكن يصلح سوى مادّة لـ"حكومة ضرورة". واعتُبر المشيشي المكلّف بتشكيل الحكومة رجل قيس سعيّد. وقد اختاره من خارج الأحزاب وخلافًا لمقترحاتها. وإلى آخر لحظات تشكيل الحكومة كان الانقسام واضحًا بين موقف لا يُخفي مساندته لاختيار الرئيس وللحكومة الجديدة وهي أقرب إلى حكومة تكنوقراط من جهة عناصرها المكوّنة، ويتّجه إلى منح ثقته لهذه الحكومة في البرلمان، وموقف يُظهر عدم أهليّة هذه الحكومة بالثقة.

وقد مثّل الائتلاف الحكومي المُكوَّن من النهضة من جهة والتيار والشعب من جهة أخرى نواة الانقسام حول حكومة المشيشي. ومع أوّل خلاف ظهر بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة المكلّف حول بعض الحقائب وما رافق التسميات من إخلالات إجرائية انقلب المؤيّد لمنح الثقة (التيّار والشعب) إلى معارض للحكومة، وأصبح المعارض لها (النهضة، الكرامة، قلب تونس) حزامها السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تحوّلت "حكومة الرئيس" إلى حكومة تدعمها النهضة وقلب تونس؟

ومع هذا الفرز، انبثقت معادلة سياسيّة وسطها النهضة وأطرافها حكومة المشيشي ورئاسة الجمهوريّة والدستوري الحر. وتقَرَّر مصير الحكومة على ضوء الصراع الدائر بين هذه الأطراف في أعلى مؤسسات الدولة. ووفّرت هذه المعادلة ظلّا ظليلاً في حكومة المشيشي تفيّأه طلبة أكاديميّة التجمّع (حزب بن علي المنحل) بقيادة كتلة الإصلاح في البرلمان وإدارة ديوان رئاسة الحكومة في القصبة.

ولئن كان هناك اتفاق على حقيقة الصراع  الدائر وأثره على مؤسسات الدولة فإنّ هناك اختلافاً حول طبيعته. فهو من وجهة نظر أولى صراع ضدّ الفساد والمتآمرين على الدولة في الداخل والخارج في إشارة إلى حركة النهضة بتحميلها المسؤوليّة عن عشر سنوات الانتقال الديمقراطي وأزماته المتلاحقة، ودورها في العلاقة بالقديم والعمل على الحلول محلّه. ولكنّه من وجهة نظر ثانية هو صراع ضدّ القوى المعادية للديمقراطيّة بمناهضة الدستور وسياسة الخنق والتعفين من قبل الرئاسة خاصّة، واستهداف مؤسسة النظام السياسي الجديد (البرلمان) من قبل كتلة الدستوري الحر بتقاطع موضوعي مع الكتلة الديمقراطيّة التي مثّلت بوظيفيّتها همزة وصل بين قيس سعيّد وعبير موسي.

مقترح "الحكومة السياسية" يأتي كسرًا لمعادلة جعلت من النهضة حارسًا وحزامًا لمن يحكم فعليًا في القصبة من أبناء أكاديمية التجمع ومتحمّلاً لنتائج حكومة المشيشي السياسيّة دون أن يشارك في صياغتها    

هذه المعادلة جعلت المستفيد الأكبر هم خريّجو أكاديميّة التجمّع معزّزون بيوسف الشاهد رئيس الحكومة السابق المستثمر فيما خلّفه من تعيينات في الإدارة وما أتاه من فظاعات في مجال الماليّة والاقتصاد. ومن هذا المنطلق يأتي مقترح "حكومة سياسيّة" كسرًا لهذه المعادلة التي جعلت من النهضة حارسًا وحزامًا لمن يحكم فعليّا في القصبة من أبناء أكاديمية التجمع (حزب بن علي المنحل)، ومتحمّلاً لنتائج حكومة المشيشي السياسيّة دون أن يشارك في صياغتها.   

اقرأ/ي أيضًا: عناصر الأزمة السياسيّة في تونس وسبل تجاوزها

  • تداعيات الأزمة

مثلما كان سبب الأزمة سياسيًا من خلال صراع مفتوح في أعلى مؤسسات الدولة، فإنّ الخروج من هذه الأزمة لا يكون إلاّ سياسيًّا. وكانت مبادرة الحوار التي عرضها الاتحاد العام التونسي للشغل بابًا للخروج من هذه الأزمة ولكنّ الرئيس قيس سعيّد كان العقبة الرئيسيّة في هذا الطريق. ولم تجرؤ بقيّة القوى السياسيّة على أن تطلق الحوار بعيدًا عن رئيس الجمهوريّة.

ومع اشتداد وطأة الوباء وفشل البلاد في مواجهته وتصدّرها نسبًا مفزعة في عدد الوفيات ومستويات انتشار قياسية، بعد أن كادت تونس في موجة الوباء الأولى تصبح "نموذجًا" في مواجهة كوفيد 19، توضّحت حقيقة الإخفاق وأسبابه. وتمثّل في قيادة طبيّة سياسيّة بخطّة موحّدة وملائمة في محاربة الوباء متحوّل السلالات.

لم يكن مأمولاً الانتصار على الوباء في ظلّ قطيعة بين رأسي السلطة التنفيذيّة. إلى جانب تواصل سياسة الرئيس قيس سعيّد في التعفين وخنق المؤسسات وما انجرّ عنها من شلل في حكومة تعمل بنصف عدد وزرائها. إلى جانب الإصرار على المضيّ في فتح معارك حول الدستور تربك المؤسسات وتلهي عن الاستعداد المطلوب في مواجهة الوباء الزاحف.

وبلغ الاضطراب أوجه مع إعلان الناطقة الرسميّة باسم اللجنة الطبيّة الوطنيّة عن انهيار المنظومة الصحيّة. وما كان له من وقْعٍ داخل البلاد وفي جوارها وفي علاقة تونس بالعالم. وهو إعلان يشبه في وقْعه الكارثي تصريح وزيرة الماليّة في حكومة الشاهد في أفريل/ نيسان 2017 عن نيّة الحكومة تحرير الدينار خلافًا لما عليه توجه الحكومة الفعلي. واعتُبِر ذلك سببًا في انهيار قيمة الدينار التونسي أمام العملات الأجنبية وما لها من تأثير مباشر على التوازنات الماليّة والحياة الاقتصاديّة.

مقترح الحكومة السياسيّة كان بمثابة الحجر الذي ألقي في مياه المشهد السياسي الآسنة. ومثّل فعلاً سياسيًّا موجبًا في ظلّ فراغ سياسي لا يملؤه إلاّ الأفعال السالبة من سياسة الخنق والتعفين وسياسة البلطجة والتعطيل التي بدأت بعربدة كتلة الدستوري الحر وعنفها المستمرّ تجاه رئيس المجلس ونائبيه وتجاه النوّاب وموظّفي البرلمان، واختتمت ببلطجة من إنجاز نواب من الكتلة الديمقراطيّة اكتفت فيها زعيمة كتلة الدستوري الحر بنقل الفعاليّة عبر هاتفها الجوّال إلى من يهمّه كما كان دأبها منذ سنتين.

مقترح الحكومة السياسيّة كان بمثابة الحجر الذي ألقي في مياه المشهد السياسي الآسنة ومثّل فعلاً سياسيًّا موجبًا في ظلّ فراغ سياسي لا يملؤه إلاّ الأفعال السالبة

  • البحث عن واجهة سياسيّة للسيستام

يبدو أنّ مقترح "الحكومة السياسيّة" وإن كان مقترح حركة النهضة فإنّه ليس بعيدًا عن ترتيبات دوليّة تطمح إلى إعادة تنظيم الأدوار في حوض المتوسّط والساحل والصحراء استعدادًا لمنازلات كبرى مع قوى صاعدة (الصين، روسيا) يبدو أنّ أولاها سيكون مسرحها أفريقيا.

وتأتي هذه الحكومة في إطار فراغ سياسي غابت عنه الأفعال الموجبة بما هي مبادرات للخروج من الأزمة. فطغت على المشهد الأفعال السالبة من خلال احتداد التجاذبات وهيمنة سياسة التعطيل والتعفين والخنق. ومن هذا المنطلق تكون المهمّة الأولى للحكومة السياسيّة مواجهة الوباء بقيادة طبيّة سياسيّة قادرة على محاصرة الوباء تمهيدًا لكسر نسقه. وإنّ الأثر السياسي الآخر لهذه الحكومة  سيكون كسر معادلة الضعف المشار إليها، وهو ما من شأنه أن يُنهي دور هيمنة "طلبة أكاديميّة التجمع" على الحكومة ويدفع بمنظّمة الأعراف والمنظّمة الشغيلة إلى إعادة البحث عن موطئ قدم كان يضمنه بطريقة أو بأخرى طلبة الأكاديميّة في الحكومة. وهما مدعوّتان إلى تحسّس تركيبة الحكومة القادمة وهويّة مكوّناتها السياسيّة ومستويات التقاطع الممكنة معها.

وفي هذا السياق يأتي مؤتمر اتّحاد الشغل الاستثنائي غير الانتخابي. وبقطع النظر عن التعارض الحادّ بين موقفين: موقف يرى في المؤتمر انقلابًا على الديمقراطيّة والنظام الداخلي للمنظّمة بتنقيح الفصل 20 من النظام الداخلي، وموقف لا يستنكف من التمديد لقيادات في مخالفة صارخة للقانون الداخلي، فإنّ اتحاد الشغل بمؤتمره الأخير يكون قد فضّ توتره الداخلي استعدادًا لاستحقاقات ستتلاحق في قادم الأسابيع.

تكون المهمّة الأولى للحكومة السياسيّة مواجهة الوباء بقيادة طبيّة سياسيّة قادرة على محاصرة الوباء تمهيدًا لكسر نسقه

ردّة فعل "طلبة الأكاديميّة" كانت فوريّة حول مقترح الحكومة السياسيّة من خلال مشاركة رئيس كتلة الإصلاح في الندوة التي دعت إليها الكتلة الديمقراطيّة وما تمخّض عنها من قرار بمقاطعة جلسات البرلمان العامّة واللجان واجتماعات المكتب. وإذا كانت ردّة الفعل هذه من قبل الكتلة الديمقراطيّة وكتلة الإصلاح وكتلة تحيا تونس متوقعة لأسباب مختلفة فإنّ التصويت في الأسبوع الفارط الذي بلغ 120 صوتًا رغم مقاطعة رسميّة من تحيا والإصلاح والديمقراطيّة يشير إلى مستوى الانقسام الذي يشقّ هذه الكتل. وهو ما يعني عدم الحاجة إلى الإصلاح وتحيا تونس خاصّة في بناء الأغلبيّة التي ستكوّن الحزام البرلماني للحكومة السياسيّة الموعودة.

وأمّا منظّمة الأعراف والمنظّمة الشغيلة فإنّ الذي يشغلهما هو استعدادهما الجيّد للحكومة السياسيّة القادمة. في حين لا يتوقّع أن تتواصل سياسة الرئيس سعيّد السالبة ومنها رفض قبول أداء اليمين من قبل حكومة سياسيّة يكون من أولويّاتها: مواجهة الوباء، تخفيف المعاناة الاجتماعيّة، وإصلاح الماليّة العموميّة. ويبدو أنّه لا خيار أمامه سوى الانسحاب إلى مربّعه الذي يضبطه الدستور وأنّ سياسة التعفين وخنق المؤسسات ستصبح من الماضي إلى نهاية عهدته. 

  • مرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها

حكومة سياسيّة بقيادة المشيشي يعني أنّ تجاذب القوى الدوليّة والإقليميّة (فرنسا/الولايات المتّحدة) قد بلغ أوجه، وأنّها لا تتصارع فحسب على مساحات النفوذ السياسي في بلادنا وإنّما على من يمثّلها من شخصيات لها رصيدها ومن شخصيّات بلا تاريخ في السياسة ولا يشفع تاريخها في الإدارة وإنّما ما صادفها من أدوار، وهشام المشيشي من هؤلاء.

فالمشيشي بالحكومة السياسيّة التي سيترأّسها سينفصل عن "طلبة الأكاديميّة" ليكون ضمن فريق سياسي لن يخرج عن الحزام الحكومي الحالي ولكن بشراكة جديدة مع الاتّحاديْن المتقاطعين بدورهما مع مراكز قوى السيستام. ويبقى شرط الشروط هو واجهة سياسيّة للسيستام تذكّر بالباجي وندائه. فالنهضة حتّى وإن كانت الأولى انتخابيًّا ستبقى أحد أعمدة الانتقال إلى الديمقراطيّة وشرطه الأساسي ولكن في المرتبة الثانية. وفي الجهة الأخرى سيحيّد الرئيس سعيّد وستكون أحزاب التيار والشعب والدستوري الحر وتحيا تونس وكتلة الإصلاح ضمن المعارضة إلى نهاية 2024.

ولا يخرج المشهد في مجمله عن صراع بين اتجاه غالب إلى تأسيس الديمقراطيّة وبناء المواطنة واتجاه يربط بين استرجاع المصالح القديمة وتثبيت ما استجدّ منها بشروط نظام مركزي لا يخرج عن لوبيات القديم. وخطورة هذا الصراع المحتدم والذي يمنع الشروع في الإصلاحات المطلوبة أنّه يقلّص، مع الوقت، من الشروط الوطنيّة والسياديّة في بناء التجربة الديمقراطيّة لصالح أجندات دوليّة لا ترى في تونس إلا مربّعًا صغيرًا من مجال نفوذها.

المشيشي بالحكومة السياسيّة التي سيترأّسها سينفصل عن "طلبة الأكاديميّة" ليكون ضمن فريق سياسي لن يخرج عن الحزام الحكومي الحالي ولكن بشراكة جديدة مع الاتّحاديْن المتقاطعين بدورهما مع مراكز قوى السيستام

وفي هذا السياق، تظهر حقيقة القوى المحسوبة على الثورة قبل 2019، وقد نزعت الانتخابات الأخيرة وسنتان من التطاحن هذه الصفة غير المستحقّة. وهي التي رضيت انطلاقًا من 2013 (الاعتصام) وانتخابات 2014 (قطع الطريق) أن يكون القديم القوّة التي تستقوي بها على بعضها البعض. ونراها ترضى اليوم بأن تكون في هذه الأجندة الدوليّة أو تلك بعيدًا عن الأدنى من الشروط الوطنيّة، ولا يميّز بينها سوى علاقتها بمسار بناء الديمقراطيّة مناصرَةً ومحاصرَةً. وهي ميزة تبدو شكليّة إذا لم تكن شروط بناء الديمقراطيّة محليّة. 

ومع ذلك فإنّ الالتزام بالديمقراطيّة ومسارها في بناء البلاد، وإن كان مفتقدًا إلى الشروط الوطنيّة المطلوبة، لا يمكن أن يقاس سياسيًا وأخلاقيًّا إلى التوجه المقابل الذي انتهى إلى اعتبار الديمقراطيّة الاختيار الشعبي الحر تهديدًا وجوديًّا. والالتزام بالديمقراطيّة ومسارها كفيل بالاسترجاع التدريجي للشروط الوطنيّة والسياديّة باعتبارها مستوى مهمًّا ولا غنى عنه من المواطنة الكريمة.

في هذا السياق يكتسي مقترح الحكومة السياسيّة أهميّته ودوره في محاولة الخروج من أزمة تونس المركّبة. وقد يكون المقترح، ولعلّه أصبح بالفعل، صيغة أخرى  لحوار وطني ما كان له أن ينطلق خارج مرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها، وما كان له أن ينجح إذا لم يكن مدخله الأزمة السياسيّة وإيقاف سياسة "البلوكاج" الشامل التي شلّت المؤسسات وكتمت أنفاس البلد. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحوار في تونس.. عود على بدء

سنتان من العبث في تونس.. متى ينتهي هذا البؤس؟