08-أكتوبر-2024
الانتخابات الرئاسية 2024

إن المعضلة هي في نكران الجميع دون استثناء لمؤشرات تبيّن أن البلد في العمق ليس على ما يُرام

مقال رأي 

 

لا شيء على ما يُرام، يوجد خلل ما عند تقليب جميع زوايا الانتخابات الرئاسية، مسارًا ومآلات، بكلياتها وتفاصيلها. لم تكن رئاسيات 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 شبيهة بما سبقها من رئاسيات ما بعد الثورة، بل كانت من حيث سياقها ونتيجتها التسعينية أشبه برئاسيات ما قبل الثورة. بذلك هي شاهد آخر على مسار جديد في التاريخ المعاصر للبلاد كان قد انطلق منذ أكثر من ثلاث سنوات عبر "تدابير استثنائية" منتهاها ثورة جديدة بحسب الرئيس وانقلاب بحسب معارضيه. 

يوجد خلل ما عند تقليب جميع زوايا الانتخابات الرئاسية، مسارًا ومآلات، إذ لم تكن شبيهة بما سبقها من رئاسيات ما بعد الثورة، بل كانت من حيث سياقها ونتيجتها التسعينية أشبه برئاسيات ما قبل الثورة

مسألة جوهرية هي مبتدأ الحديث عن انتخابات "العبور" كما يسمّيها الرئيس وأنصاره وهي الضعف الشديد لمقومات النزاهة الانتخابية، ابتداءً من تنظيمها من هيئة كان قد عيّن الرئيس أعضاءها، وصولًا لعدم تنفيذ هذه الهيئة لقرارات المحكمة الإدارية بإرجاع ثلاثة مرشحين للسباق الرئاسي، ورفض قبول اعتماد عديد الجمعيات لمراقبة الانتخابات بتعلّة تلقيها "تمويلات مشبوهة"، وتباعًا إثارة تتبعات قضائية ضد المرشح العياشي زمال وصدور أحكام سجنية نافذة ضده. كلّ ذلك في سياق تراجع حرية التعبير والإعلام وبالخصوص ضعف حضور المعارضة في الإعلام العمومي الذي تحوّل إلى بوق دعاية للسلطة. 

وكان تنقيح القانون الانتخابي قبيل بضعة أيام من الاقتراع بسحب اختصاص المحكمة الإدارية في النظر في نزاعات نتائج الترشح البرهان عن حجم الخلل الذي عرّى العملية الانتخابية. وفي هذا الإطار، تجلّت انتخابات السادس من أكتوبر، وبشهادة المتخصصين في الشأن الانتخابي، الأضعف من حيث تحوّزها على شروط النزاهة مقارنة بما سبقها بعد الثورة. 

كانت تونس يُنظر إليها على أنّها البلد العربي الوحيد الذي استطاع تأمين جو ديمقراطي وتنافسي في السباق الرئاسي طيلة السنوات الماضية، لكن كانت النكسة بالعودة للوراء.. طريف أنّ أحد الشعارات الرئيسية لسعيّد هي عدم الرجوع للوراء، وغير معلوم أي وراء يقصد

وضع ألقى بآثاره على الحملة الانتخابية التي كانت باهتة بشكل لافت في الفضاءات العمومية والإعلامية خاصة مع عدم إجراء مناظرة تلفزية بين المرشحين رغم الدعوة الصريحة التي وجهها المرشح زهير المغزاوي لسعيّد. 

كانت تونس يُنظر إليها على أنّها البلد العربي الوحيد الذي استطاع تأمين جو ديمقراطي وتنافسي في السباق الرئاسي طيلة السنوات الماضية، شبيه بالأجواء التي طالما شاهدناها على مر عقود في البلدان الديمقراطية الغربية، ولكن كانت النكسة بالعودة إلى الوراء. طريف أن أحد الشعارات الرئيسية للرئيس سعيّد هي عدم الرجوع للوراء، وغير معلوم أي وراء مقصود في الواقع.

تباعًا خيّم التنازع بين خياريْ المقاطعة والمشاركة في آخر أيام الحملة في معسكر المعارضين، مع تسجيل وجاهة الحجج المعروضة لكل خيار. تنازع كان دائمًا حالًا زمن المعارضة التاريخية للاستبداد قبل الثورة وتجدّد في انتخابات 2024 في شاهد جديد على تطابق الصورة من جهة الموقف من شرعية المسار الانتخابي تحت سقف السلطة وبشروطها رغم اختلاف السياق. 

مجدّدًا يتجلى أن انتخابات هذا العام ليست على ما يُرام، إذ كانت فيما مضى القوى السياسية بمختلف تمظهراتها مجمعة على الاحتكام للصندوق في إطار تنافسي فيما بينها، ولم تكن المقاطعة مطروحة. وإن منتهى هذه المقاطعة هو عدم اعتراف بالمسار الانتخابي ولا بنتائجه على نحو يطرح الشرعية موضع سؤال تجاه السلطة.

في الأثناء نسبة مشاركة في حدود 29 في المائة (2.8 مليون ناخب) حسب التقديرات الأولية تكاد تتطابق مع نسبة المشاركة في الاستفتاء على دستور الرئيس صيف 2022، بما يؤكد التقدير أن الاستفتاء وقتها لم يكن على مشروع الدستور المعروض بقدر ما كان استفتاءً، في العمق، على شخص الرئيس ومساره. ولكن النسبة في المجمل تظلّ دون المسجّل في رئاسيات 2019 (3.4 مليون ناخب في الدور الأول و3.9 في الدور الثاني أي نحو نصف الجسم الانتخابي في الدور الأول وأكثر من النصف في الدور الثاني) ورئاسيات 2014 (3.3 في الدور الأول و3.2 في الدور الثاني). 

مشاركة 6% فقط من الفئة العمرية بين 18 و35 عامًا في الانتخابات تشي باستقالة تامة للشباب عن الانخراط في أهم محطة انتخابية، وهو رقم مفزع في عمقه لم يسبق تسجيله مسبقًا يكشف حالة الإحباط العام من الفئة الأكثر حيوية داخل المجتمع

وبناءً على ذلك، فإنّ الثابت أنّ المحطات الانتخابية الرئاسية بعد 25 جويلية/يوليو 2021، الاستفتاء والرئاسيات، لم تستطع تجاوز سقف 3 مليون ناخب وهو السقف المحقق منذ أول انتخابات رئاسية بعد الثورة قبل عشر سنوات. من البيّن أن لغياب التنافسية تأثير في ذلك. 

في المقابل، تشي نسبة العزوف في رئاسيات العبور التي تبلغ 70 في المائة، أي حوالي 7 مليون تونسي قرر عدم الاقتراع، بتمادي حالة الاستقالة عن الشأن العام برمته، ولكن تكشف أيضًا عن واقع المقاطعة الفعلية للعملية الانتخابية. الرقم اللافت ممّن اختاروا عدم التوجه لمكاتب الاقتراع لا يجب فقط قراءته من زاوية مشروعية السلطة المنتخبة، ولكن أيضًا من زاوية أعمّ بما يشمل عدم قدرة المعارضة على استنهاض هؤلاء لخياراتها. 

انتخابات 6 أكتوبر هي محطة تجديد لشرعية الرئيس بالنسبة إليه، لكنّها محطة جديدة كاشفة بالنسبة للمعارضة عن مآل وضع اليد على السلط والحكم الانفرادي للبلاد

وإن الرقم الواجب الوقوف عنده مليًا هو مشاركة 6 في المائة فقط من الفئة العمرية بين 18 و35 عامًا في انتخابات العبور بحسب تقديرات أولية، ما يعني استقالة تامة للشباب عن الانخراط في أهم محطة انتخابية، وهو رقم مفزع في عمقه لم يسبق تسجيله مسبقًا يكشف حالة الإحباط العام من الفئة الأكثر حيوية داخل المجتمع والمعنية أكثر من غيرها بمستقبل البلاد. 

هذا الرقم لا يجب قراءته بحسابات السلطة والمعارضة فقط بل يجب قراءته في إطار الحقل السوسيولوجي أيضًا، والحفر فيما يخفيه وما يمكن استشرافه في المستقبل المنظور. فلا شيء دائمًا في هذه الانتخابات على ما يُرام. 

إن انتخابات 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 هي محطة تجديد لشرعية الرئيس بالنسبة إليه، لكنّها محطة جديدة كاشفة بالنسبة للمعارضة عن مآل وضع اليد على السلط والحكم الانفرادي للبلاد، على نحو أن نتيجتها لم تكن بالنهاية بخارج عما تمّ التخطيط له. لكنّ تقدير ذلك لا يجب أن يغفل أهمية قراءة الأرقام الرسمية المعلنة إن ما كان المبتدأ هو شفافية عملية الاقتراع والفرز وهو الأصل ما لم يأت ما يخالفه. وإن المعضلة هي في نكران الجميع دون استثناء لمؤشرات تبيّن أن البلد في العمق ليس على ما يُرام.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"