مقال رأي
بعد انتخابات 17 ديسمبر/كانون الأول 2022 التي قاطعها حوالي 90% من الجسم الانتخابي، دخلت الحركة الديمقراطية في تونس مرحلة جديدة لم يعد معها عنوان طي صفحة الانقلاب واستعادة المسار الديمقراطي قادرًا على تغطية المشهد السياسي وتحدّياته المستجدّة.
استكمال مهمّة الهدم الشامل الذي استهدف كلّ المؤسّسات الديمقراطية في الدولة، يطرح على الحركة الديمقراطية مهمة تقديم برنامجها السياسي للإنقاذ والخروج من الأزمة
فاستكمال الانقلاب مهمّة الهدم الشامل الذي استهدف به كلّ المؤسّسات الديمقراطية في الدولة وما أمكن بناؤه في المجال السياسي الجديد الذي فتحته الثورة ومروره إلى إرساء "بديله" بداية ببرلمان الـ10% كما يحلو لخصوم الانقلاب من قيادات الشارع الديمقراطي وصفه، يطرح على الحركة الديمقراطية مهمة تقديم برنامجها السياسي للإنقاذ والخروج من الأزمة المتفاقمة المهدّدة بانهيار كل شيء.
فالمطالبة باستعادة المسار الديمقراطي وطي صفحة الانقلاب بلا عرض سياسي يجمع كلّ الطيف الديمقراطي من أجل بديل ديمقراطي للإنقاذ يبقى أمنية بلا رصيد سياسي.
- نظام بن علي من غير بن علي
في هذا السياق، كشفت الجلسة الأولى لبرلمان سعيّد عن الهويّة السياسية لانقلاب 25 جويلية 2021 وعن القوى والمجاميع الإيديولوجية التي انخرطت فيه واعتبرت الانقلاب على الديمقراطيّة فرصة لـ"تصحيح المسار".
تبيّن من خلال أصول النواب الحزبية والسياسية أنّ الكتلة الأكبر في برلمان سعيّد تنحدر من المنظومة القديمة وتحديدًا من حزب التجمع وتجربة نداء تونس
وتبيّن من خلال أصول النواب الحزبية والسياسية أنّ الكتلة الأكبر تنحدر من المنظومة القديمة وتحديدًا من حزب التجمع وتجربة نداء تونس وما حفّ بها من كيانات حزبية في مسار الانتقال الديمقراطي. ولا يخرج ما يُعرف بحراك 25 جويلية عن الهوية التجمعية فجلّ قياداته المركزية والجهوية من أصول تجمعية وندائية ظاهرة.
وأمّا المجموعات الماركسية والقومية ممثلة في رفاق قيس سعيّد ونواة مشروعه القاعدي ومفسّريه ومبادرة لـ"ينتصر الشعب" اللاحقة من ناحية وحركة الشعب وبعض المستقلّين من ناحية أخرى فإنها تمثّل في تركيبة المجلس الجديد موضوعيًا رافدًا للأغلبية التجمعيّة الندائية. وهذا لا يخرجها عن دورها الوظيفي في خدمة القديم الذي أتقنته قبل الثورة واستأنفته في كل مراحل الانتقال تحت ذريعة مواجهة الإسلام السياسي والدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي" المهدّد.
ويتأكّد هذا الأمر مع رئاسة المجلس الموالية للرئيس قيس سعيّد، والمصرّة على أنّ المجلس كتلة واحدة من أجل بناء "الجمهورية الثالثة". وهي في ذلك وفيّة لدستور قيس سعيّد الذي جمّع كلّ السلطات في يد رئيس الجمهورية ونزع عن المجلس النيابي دوره التشريعي.
الملامح الأولى لبرلمان قيس سعيّد تعيدنا إلى جدل دار في فترة الانتخابات التأسيسية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 حول هوية المشهد السياسي المرتقب بمشاركة حركة النهضة. وكان المدركون لشروط الديمقراطية يعلمون علم اليقين بأنّ نتيجة الانتخابات بدون مشاركة الإسلاميين ستفضي إلى "برلمان بن علي من غير بن علي" رغم استهداف حزب التجمع بالحل بقرار قضائي صادر عن المحكمة الابتدائية بتونس بتاريخ 9 مارس/آذار 2011.
البرلمان الحالي هو بأغلبية تجمعية ندائية وحزام من المجاميع الإيديولوجية الماركسيّة والقومية التي كانت الخاسر الأكبر في الانتخابات التأسيسية في 2011
هذه الفرضية تجسّدت مع أول انتخابات في ظل الانقلاب على الديمقراطية فكانت النتيجة برلمانًا بأغلبية تجمعية ندائية وحزام من المجاميع الإيديولوجية الماركسيّة والقومية التي كانت الخاسر الأكبر في الانتخابات التأسيسية في 2011 وعُيِّرت يومها بنسبة الأصوات التي تحصّلت عليها (صفر فاصل) ولُقِّبت بـ"جرحى الانتخابات".
ولكن يبدو أنّ المشهد في برلمان قيس سعيّد أشدّ انحطاطًا مما كان عليه الحال في برلمان بن علي المنصّب. فإذا كان لا يجوز مقارنة برلمان الانقلاب ببرلمان الاستبداد فأولى ألا يتمّ مجرّد التفكير في مقارنته ببرلمان 2019.
إن أي تقييم موضوعي للأداء السياسي للنظام الجديد من خلال برلمان قيس سعيّد وأداء حكومته وما تعرفه من تحويرات عشوائية يشير إلى أنّ المشهد السياسي دون نظام بن علي بكثير، أو أنّه لا مفاضلة بين الاستبداد إلاّ في درجة انحطاطه سياسيًا وأخلاقيًا.
نلاحظ عودة للنظام القديم، ولكن في شكل مهزلة تفصح عن أنّ المنظومة القديمة، التي لم تقبل بالديمقراطية، غير قادرة على التجدّد
إنّ الذي يحدث بشكل عبثي هو في جوهره عودة لهذا للنظام القديم، ولكن في شكل مهزلة تفصح عن أنّ المنظومة القديمة التي لم تقبل بالديمقراطية ولم تجعل منها فرصة للمساهمة في إعادة بناء الدولة وتحصين المجتمع، ولم تتوقف عن محاولات الانقلاب على مسار بنائها منذ 2011 حتى تحقق لها ذلك في25 جويلية 2021 غير قادرة على التجدّد, وأن ما تقدّمه من عرض سياسي في ظل الانقلاب على الديمقراطية شاهد على موتها واستحالة تجددها.
- الحركة الديمقراطيّة في قلب العاصفة
كان للحركة الديمقراطية بقيادة مواطنون ضد الانقلاب شهداؤها مثلما طال شارعها قمع نسقي عرف ذروته يوم 14 جانفي 2022 ، وعرف مناضلوها من إعلاميين ونوّاب ومحامين ونشطاء سياسيين المتابعة والخطف والإحالة على القضاء العسكري.
الاعتقالات باسم التآمر على أمن الدولة لم تُقرأ جيّدًا من الحركة الديموقراطية وقياداتها ولا سيما من قيادات جبهة الخلاص العنوان السياسي الأبرز والأكثر هيكلة وتمثيلية في الشارع الديمقراطي
ومع قيادة جبهة الخلاص الوطني كانت هناك اعتقالات سياسية واسعة في صفوف قيادات الحركة الديمقراطية مثلت منعرجًا حاسمًا في صراع الانقلاب والديمقراطية. ولكن يبدو أنّ هذه الاعتقالات باسم التآمر على أمن الدولة لم تُقرأ جيّدًا من الحركة الديموقراطية وقياداتها ولا سيما من قيادات جبهة الخلاص الوطني العنوان السياسي الأبرز والأكثر هيكلة وتمثيلية في الشارع الديمقراطي.
وفي هذا السياق، يعرف المشهد السياسي استقرارًا داخل حالة التوتر هو أشبه بحالة انتظار تجعل من الاعتقالات معطى سياسيًا متأرجحًا بين "الملف الحقوقي" و"المعركة السياسية". وإنّ الدفع بالملف الحقوقي في المعركة السياسية تحت عنوان استعادة الديمقراطية سيفتح أمام الحركة الديمقراطية الطريق لكي تثبت أن المعركة من طبيعة سياسية رغم وجهها الحقوقي ولكي تبلور عرضها السياسي في شكل مبادرة سياسية متكاملة، هي شرط سياسي وإطار نضالي لاجتماع فصائل الحركة الديمقراطية المختلفة.
وبذلك يكون طرح برنامج وطني للإنقاذ مَلْءًا للفراغ الذي تعرفه الساحة السياسية ويجسّده استقرار الصراع عند عنوان الحركة الديمقراطية باستعادة الديمقراطية مقابل إصرار سلطة الانقلاب على استكمال أجندتها التي لا تغطّي على عجزها في مواجهة الكارثة المالية الاقتصادية والأزمة السياسية اللتين تتغذيان من أداء سلطة الانقلاب العبثي في الداخل وعدم تقصيرها في عزل نفسها إقليمًيا ودوليًا.
الوضع يحمّل المعارضة والحركة الديمقراطية مسؤولية أكبر ويدفعها إلى ضرورة التقدم ببرنامج إنقاذ يمنع انهيار الدولة وفقدان السلم الأهلي وتدهور أحوال البلاد بلا رجعة
هذا الوضع الحرج الذي ورّطت فيه سلطة الانقلاب البلاد بانعدام الاستقرار السياسي في الداخل وما انجرّ عن الأداء الدبلوماسي الأرعن من توترات مع السياقين الإقليمي والدولي لا ينفع معه الخطاب السيادوي الفاقد لكل رصيد وطني. وإنّ هذا الوضع يحمّل المعارضة والحركة الديمقراطية مسؤولية أكبر ويدفعها إلى ضرورة التقدم ببرنامج إنقاذ يمنع انهيار الدولة وفقدان السلم الأهلي وتدهور أحوال البلاد بلا رجعة. وفي هذا السياق وحده يصبح "الملف الحقوقي" جزءا من "المعركة السياسية" بأفق غلق قوس الانقلاب واستعادة الديمقراطية.
ومن جهة أخرى، فإنّه من المهم قراءة الاعتقالات الأخيرة من زاوية شروط الديمقراطية، فالانقلاب يدرك أن استمراره رهن نجاحه في استهداف هذه الشروط من قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات وطنية.
ولا خلاف في أنّ الثابت السياسي هو صراع الاستبداد والديمقراطية الذي يتخذ له عنوان انقلاب/ديمقراطية. وهو ما يعني أن الحركة الديمقراطية مختلفة الروافد في بلادنا منذ سبعينيات القرن الماضي قد نجحت في 2011 في كسر نظام الاستبداد وانطلقت في محاولة تأسيس الحرية وقد عرفت ما عرفت من تعثرات، وأنّ الانقلاب مثّل "عودة في زمن قياسي" لمنظومة الاستبداد.
انقلاب 25 جويلية وفشله الذريع في "تصحيح المسار" شاهد في الوقت نفسه على أنّ عودة القديم باستبداده وسياساته المفوتة بات مستحيلاً
وإذا أقررنا بفشل الحركة الديمقراطية في تأسيس نموذجها ولهذا الفشل أسبابه التي لا بدّ من الوقوف عندها مليًا فإن انقلاب 25 جويلية وفشله الذريع في "تصحيح المسار" شاهد في الوقت نفسه على أنّ عودة القديم باستبداده وسياساته المفوتة بات مستحيلًا، وقد أتاح له الانتقال الديمقراطي فرصة تجديد نفسه عندما تمكن في انتخابات 2014 من الفوز ديمقراطيًا بالرئاسات الثلاث في النظام السياسي الجديد بمرجعية دستور الثورة. ولكن مناهضته للديمقراطية وانشداده إلى مصالح قديمة مشروطة بنظام الاستبداد حالت دون تجدّده. وأنّ وسواس استعادة نظام الاستبداد بواسطة الانقلاب سينهي شروط استمرار القديم.
- أولوية البديل الديمقراطي للإنقاذ
مشهد الصراع بين الحركة الديمقراطية ومحاولات القديم العودة لا يطابق أي مشهد سابق في مسار الصراع بين الاستبداد والديمقراطية، ورغم ما يقوم من شبه بين الماضي والحاضر فاللحظة الحالية ليست إعادة للمواجهة بين الإسلاميين والنظام البورقيبي في 87 ولا بين الإسلاميين والنظام النوفمبري رغم أنّ صراع الإسلاميين مع العهدين لا يخرج سياسيًا عن صراع الاستبداد والديمقراطية بل كان من محطاته الأكثر دموية في استهداف المعارضين المدنيين.
المواجهة بين الانقلاب والديمقراطية تذكّر بحركة 18 أكتوبر من جهة التقاطع في الفرز وقاعدته داخل القوى السياسية
كما أنّ المواجهة بين الانقلاب والديمقراطية تذكّر بحركة 18 أكتوبر من جهة التقاطع في الفرز وقاعدته داخل القوى السياسية. ولئن اعتبرنا أنّ الشبه بينهما ملاحظ في ظاهرة الفرز فإن الفرز في 18 أكتوبر كان على قاعدة الحرية ومحاولة فرض مربعات تجعل من النضال السياسي المدني ممكنًا، في حين يقوم الفرز اليوم بين القوى في المشهد السياسي على قاعدة الديمقراطية واستعادة مسارها المجهض وهو ما يجعل من نطاق الفرز اليوم أوسع بكثير ومرشّح ليشمل مختلف الفئات الاجتماعية والقوى السياسية.
أمّا في 18 أكتوبر فقد كانت الحركة الحقوقية والسياسية محدودة وتكاد تقتصر على نخبة سياسية تطالب بالحقوق والحريات. ويعود الفارق في تقديرنا إلى أنّ حركة 18 أكتوبر كانت تتحرك داخل مربع الحرية مربع ضيّق وغير مستقر في حين مكّن المجال السياسي الذي فتحته الثورة من إدخال فئات وقطاعات اجتماعية واسعة في الشأن العام والمشاركة السياسية في مؤسسات المجتمع والدولة حتّى أنه لم تبق جهة إلاّ ومنها وزير أو أكثر فضلًا عن أنّ شخصيات من الهامش المنسي تقلّدت بفضل الانتخاب الحر والنزيه مناصب عليا في الدولة مثل رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان. فالذي تمّ في عشرية الانتقال مخاض شامل حرّك أوسع الطبقات الاجتماعية في المركز والهامش وصار رأب الانقسام الاجتماعي ممكنًا.
وكان من نتائج هذا المخاض العسير أنّ قوى سياسية وإيديولوجية كانت في اعتصام الرحيل الذي قادته المنظومة القديمة المناهضة لمسار بناء الديمقراطية تلتقي اليوم مع قوى التأسيس وبناء الديمقراطية على مواجهة الانقلاب وهدف استعادة الديمقراطية. ويجمع هذان الفسطاطان سجن سلطة الانقلاب وتهمة التآمر على أمن الدولة.
الحركة الديمقراطية في تونس على مفترق طرق، وتشقها تقديرات، منها تقدير يراهن على عامل الزمن ويكتفي باشتباكات محدودة ولكنها دائمة مع الانقلاب في الملف الحقوقي والقضائي والاجتماعي بغاية إضعافه وإنهاكه
الحركة الديمقراطية في تونس على مفترق طرق، وتشقها تقديرات، تقدير يراهن على عامل الزمن ويكتفي باشتباكات محدودة ولكنها دائمة مع الانقلاب في الملف الحقوقي والقضائي والاجتماعي بغاية إضعافه وإنهاكه وتركه نهبًا للأزمة المالية الاقتصادية فهو المسؤول عنها وحده بعد أن قوّض مبدأ الفصل بين السلطات وألغى دستور الثورة وجعل قيادة الدولة والبلاد بالمراسيم.
وأمّا التقدير الثاني فيقوم على ضرورة أن تبادر الحركة الديمقراطية إلى ملء الفراغ السياسي واستقرار الأزمة المركبة بمبادرة وطنية تقوم على فكرة مؤتمر وطني للإنقاذ تُدعى إليه كل القوى المدافعة عن الديمقراطية ويكون لهذه المبادرة ثلاثة مبادئ: 1 - اعتبار النظام السياسي الحالي بلا شرعية ولا مشروعية ودعوة كل مؤسسات الدولة إلى الالتزام بدستور 2014 ومقتضياته، 2 - انتخابات رئاسية سابقة لأوانها وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تتفرّغ لمواجهة الأزمة المالية الاقتصادية وإيقاف عملية الانهيار. 3 - مرحلة انتقالية جديدة تكون سياقًا لإصلاحات سياسية تشمل القانون الانتخابي والنظام السياسي وتشفع بانتخابات تشريعية.
هذا ما يمكن استخلاصه من المشهد السياسي بأزمته المركّبة بعد سنة وثمانية أشهر من الانقلاب.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"