غالبًا كلما تحلّ ذكرى جديدة لعيد الاستقلال في تونس، تترافق معها أجواء احتفائية تبلغ المستوى الكرنفالي القميء خاصة على النّحو الذي كان زمن الاستبداد، وإن بدت الذكرى بعد الثورة مناسبة للاحتفاء الخافت بل أقرب أحيانًا للموعد الوعظي، وذلك في مناخ جدل إدارة الشأن العامّ. في الأثناء، فرضت الثورة المجيدة فتحًا للجروح التي لم تندمل بعد، ومنها ما يتعلّق بسياق الاستقلال وجدل ممارسة السيادة في جوّ مناكفة بمرآة الحاضر، لا يجب أن يخفي حقّ التونسيين في استبيان زمن يُنظر أنه نواة انشقاق المجتمع التونسي بحيث لم يكن من قبيل الصدفة أن تنطلق الولاية التاريخية لمسار العدالة الانتقالية منذ جويلية/يوليو 1955.
فرضت الثورة فتحًا للجروح التي لم تندمل بعد، ومنها ما يتعلّق بسياق الاستقلال وجدل ممارسة السيادة
بذلك، عاد التونسيون خلال السنوات الأخيرة لفتح ملف انتهاكات الاحتلال الفرنسي تجاه تونس بين انتهاكات الحقوق السياسية وجرائم الحرب، وكذلك انتهاكات الحقوق الاقتصادية إذ باتت تنكشف بين الفينة والأخرى دفاتر تكشف استمرار استغلال الفرنسيين للثروات الباطنية للدولة التونسية، والتي بدأت في نظر العديد متواطئة بل مشاركة، فيما مضى من الزمن وفيما لازال، في جريمة تتعالى الأصوات يومًا بعد اليوم لكشف تفاصيلها.
في خضم ذلك، وجب فرض عين باسم الحقّ في معرفة الحقيقة، وباسم واجب حفظ الذاكرة تجاه الأجداد وكذا تجاه الأجيال القادمة، أن تكون ذكرى الاستقلال كذلك مناسبة لفضح الجرائم الفرنسية خاصة تلك التي جدت زمن الاستقلال وتحديدًا في فترة الخمسينات، والنبش في دورها في تعزيز الشرخ الذي حلّ داخل الحركة الوطنية. هو ليس استدعاء للمناكفة أو محاولة لإنتاج منطق الماضي، كما تدّعي فرنسا اليوم كلّما طُرح على الطاولة موضوع الاستعمار، بل هو طلب للحقيقة من أجل حفظ الذاكرة الوطنية، وكذا من أجل ردّ الاعتبار لأجدادنا وتحميل الدولة الفرنسية مسؤولياتها ومحاسبتها إن لزم الأمر، أو على الأقل طلب الاعتذار كما يطالب الأشقاء في الجزائر.
مجزرة تازركة شاهدة على الإرهاب الفرنسي
ارتكب جيش الاحتلال الفرنسي، بعيد اندلاع المقاومة الوطنية المسلّحة سنة 1952، جرائم حرب ومجازر في مناطق مختلفة من التراب التونسي، وقد كان وقتها المقيم العام هو المتطرّف جون دوهوت كلوك الذي قدّم إلى تونس في مطلع 1952 على متن بارجة حربية بعد رفض فرنسا للإصلاحات المطلوبة وتصعيدًا منها باستعمال سياسة القمع في مواجهة المطالب الشرعية للحركة الوطنية. حيث مارس الفرنسيون وقتها مختلف الانتهاكات ومنها الإعدامات العشوائية، واغتصاب النساء، والاعتداء على الممتلكات ومصادرتها وكذلك سرقة المؤن خشية وصولها للمقاومين. ومثلت مجزرة تازركة، وهي إحدى مدن نابل في الشمال الشرقي، شاهدة على حجم الإرهاب الفرنسي.
دورية عسكرية فرنسية في الوطن القبلي في جانفي/ يناير 1952 (getty)
يذكر أحد وجوه الحزب الحرّ الدستوري زمن الاستقلال وهو أحمد بن محمد بن امبارك بن نصير المشهور باسم أحمد التّليسي، وذلك لدى شهادته قبل سنوات في مؤسسة التميمي، أن وشايات من تونسيين للفرنسيين أشارت إلى أنه "إذا رغبت فرنسا في تصفية الوطن القبلي فعليها بمدينة تازركة"، وهو ما تمّ فعلًا. وقد قاد العملية العسكرية الجنرال غرباي سيء السمعة وهو الذي أشرف على المجازر الفرنسية في مدغشقر سنة 1947 التي خلفت عشرات الآلاف من القتلى.
وقد كشف المقاوم حمادي غرس في أولى جلسات الاستماع العلنية أمام هيئة الحقيقة والكرامة بتاريخ 17 نوفمبر 2016، أن الفرنسيين وبمشاركة تونسيين حينما توجّهوا لتازركة في جانفي/يناير 1952، قاموا بإخراج الرجال من بيوتهم وتجميعهم في بطحاء تحت الحراسة المشددة، ثم عاد الجنود إلى البيوت ليقوموا بهتك أعراض النساء واغتصابهم، كما قاموا بقتل الرضع. وتحدث غرس عن قتل أي رجل كان يحاول وقتها إنقاذ نساء بيته اللاتي كنّ يصرخن وذلك في مشهد مريع.
وقد بلغت أصداء المجازر الفرنسية في الوطن القبلي خارج تونس من هول الجرائم الحاصلة، حيث تكوّنت لجنة تحقيق دولية من الكونفيدرالية النقابية الدولية، السيزل وقتها، كما تضمّنت الشكاية التونسية ضد فرنسا لدى مجلس الأمن في نيويورك سنة 1952 والتي قدمها وقتها صالح بن يوسف رفقة محمد بدرة، صورًا من هذه المجزرة التي ظلّت للأسف اليوم مغيّبة عن الأجيال الجديدة.
اغتيال الزعامات الوطنية، أين المحاسبة؟
إضافة للسجن والنفي، اعتمدت فرنسا في السنوات الأخيرة قبل الاستقلال منهج الاغتيال للزعامات الوطنية، ولا غرو أنه يتبادر للذّهن لوهلة أولى اسم فرحات حشاد، مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل وأحد أبرز زعماء الحركة الوطنية، حيث قاد الحراك النقابي الوطني ضد المستعمر، وعرّف بالقضية التونسية في المنابر الدولية وتحديدًا في الكونفيدرالية النقابية الدولية. لذلك اتجهت فرنسا عبر منظمة اليد الحمراء الاستخباراتية لتصفيته يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 1952 في جهة رادس، في جريمة كشفت جبن المحتلّ، وأثارت احتجاجات عارمة داخل تونس وخارجها.
اعتمدت فرنسا في السنوات الأخيرة قبل الاستقلال منهج الاغتيال للزعامات الوطنية حيث اغتالت فرحات حشاد أمين عام اتحاد الشغل والهادي شاكر أمين مال الحزب الحرّ الدستوري
كما ضربت رصاص الغدر الزعيم الهادي شاكر وهو أمين مال الحزب الحرّ الدستوري، وذلك في عملية اغتيال جدّت يوم 13 سبتمبر/أيلول 1953 في نابل وذلك بتنفيذ عصابة تونسية بدعم مباشر من اليد الحمراء وبتحريض المراقب المدني الفرنسي وقتها بصفاقس غانتاس. وكان قد ترأس شاكر قبيل اغتياله المؤتمر السري للحزب في جانفي/يناير 1952 الذي انبثقت منه المقاومة المسلّحة.
واغتالت كذلك العصابة الفرنسية الحكيم عبد الرحمان مامي وهو أحد وجوه الحركة الوطنية ممّن غُيّبوا عن الذاكرة الوطنية، حيث كان الشهيد أحد أعضاء اللجنة التي كونها الباي في صيف 1952 لدراسة الإصلاحات الفرنسية، والتي رفضتها هذه اللجنة نهاية لخلوّها من مطالب الاستقلالية والسيادة الوطنية. وقع مامي ضحية لمقاومته المدنية للاستعمار الذي قتله أمام منزله في المرسى يوم 13 جويلية/يوليو 1954 وذلك في محاولة أخيرة للفرنسيين لإرهاب القيادات الوطنية قبيل الدخول في مفاوضات الاستقلال الداخلي.
كشفت الاغتيالات الثلاثة عن سياسة التصفية التي انتهجها الاستعمار والتي يقرأها البعض من زاوية غربلة الفرنسيين لخصومها قبيل رفع يدها عن تونس. وإجمالًا ظلّت هذه الاغتيالات دون محاسبة، بل الأخطر ما تنقله شهادة المقاوم حمادي غرس بأنه تمّ إطلاق سراح أعضاء عصابة اليد الحمراء من طرف السلطة التونسية بعيد اعلان الاستقلال.
جثمان الشهيد فرحات حشاد
وعلى وجه التحديد، بقيت قضية حشاد خافتة لعقود حتى برزت قبيل الثورة على سطح الأحداث عقب بث قناة الجزيرة الوثائقية نهاية سنة 2009 شريطًا وثائقيًا مطولًا عن ملابسات جريمة اغتياله. وتضمن الشريط اعترافات لأحد أعضاء عصابة اليد الحمراء ويدعى أنطوان ميليور اعترف فيه بتنفيذه لعملية الاغتيال بل قال إن ليست لديه مشكلة في ذلك وإذا طلب منه تكرارها فلن يتردد. وقد تشكلت وقتها لجنة متابعة في الاتحاد العام التونسي للشغل، وقدمت عائلة حشاد دعوى ضد القاتل في فرنسا، ولكن ظلت الرافعة السياسية من الدولة التونسية غائبة سواء قبل الثورة أو بعدها.
مجزرة آقري، فرنسا تقصف بعد الاستقلال!
استمرّت الجرائم الفرنسية من تقتيل وترويع للتونسيين زمن المفاوضات بحيث كانت فرنسا تفاوض بيد وتقتل بأخرى، حيث تواصلت عمليات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال سنتي 1955 و1956، غير أن هذه العمليات كانت دون سند من الحزب الحر الدستوري وتحديدًا من شق الحبيب بورقيبة، وذلك مقابل دعم شق صالح بن يوسف الذي كان قد دعا بنفسه في أيلول/سبتمبر 1955 لمواصلة المقاومة المسلحة بعد رفضه لاتفاقيات الإستقلال الداخلي. وقد دارت عديد المعارك في مختلف أنحاء البلاد بين الجيش الفرنسي بدعم من لجان الرعاية التي تشكلت إبان مؤتمر صفاقس من جهة والمقاومين المسلحين من جهة أخرى، ومنها معارك جبل بوهلال وأشعاب الخرفان وكبيرتة التي تجاهلها التاريخ الرسمي في كتبه المدرسية.
تواصلت العمليات المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي سنتي 1955 و1956 في معارك تجاهلها التاريخ الرسمي في كتبه المدرسية
بيد أن ما لا يعلمه عديد التونسيين هو استمرار استهداف سلاح الجو الفرنسي للمقاومين بعد الاستقلال وذلك نصرة لشق معين على حساب آخر داخل الحركة الوطنية، والحديث عن معركة جبل أقري التي جدت أطوارها بتاريخ 29 ماي 1956 حيث استهداف الطيران الفرنسي عشرات المقاومين الذين رفضوا تسليم أسلحتهم.
وقد كشفت هيئة الحقيقة والكرامة في جلسة الاستماع العلنية حول الانتهاكات زمن الاستقلال والتي انعقدت في آذار/مارس 2017 أن وحداتها الاستقصائية وجدت رفاة منتشرة في مساحات واسعة بمناطق جبل أقري بتطاوين ومحمية دغومس بتوزر تعود لمقاومين تونسيين. وذكرت في شريطها الوثائقي خلال هذه الجلسة أنها تلقت شهادات تفيد أنه وقع منع الأهالي من دفن ذويهم تحت الرعب وهو ما جعل الرفاة لازالت موجودة لليوم.
رفاة المقاومين كما توجد اليوم على سفح جبل آقري بتطاوين
وقد قدّم أحد المقاومين الناجين وهو أحمد المسعودي شهادة تاريخية في جلسة الاستماع المذكورة، تحدث فيها عن أطوار المعركة مشيرًا لمشاركة أكثر من 200 مقاوم فيها، تم قتل نحو 60 منهم فيما وقع البقية تحت الأسر قبل إطلاق سراحهم لاحقًا بعفو أصدره رئيس الحكومة التونسية الجديد وقتها الحبيب بورقيبة.
المقاوم أحمد المسعودي يتحدث عن معركة أقري في آيار/مايو 1956
كما تحدثت الهيئة أنها تحصلت على وثائق أرشيفية مركز الأرشيف الديبلوماسي بمدينة نانت بفرنسا تشير لأعمال استنطاق فرنسية لأربعة عشر أسير من هؤلاء المقاومين الذين شاركوا في المعركة، وهو ما يطرح السؤال حول كيفية قيام السلطات الفرنسية تونسيين والحال أن البلد مستقلّ حينها؟
يجب على الدولة التونسية كشف الحقائق حول جرائم الفرنسيين زمن الاحتلال وتخليد ذكرى المقاومين
في خضم ذلك، يجب على الدولة التونسية اليوم تحمّل مسؤوليتها تجاه شعبها بكشف الحقائق حول الجرائم الفرنسية حفظًا للذاكرة الجماعية الوطنية، وبتخليد ذكرى المقاومين بما يليق بمكانتهم التاريخية الرمزية، وذلك هو الحدّ الأدنى المطلوب أما عن المطالبة بمساءلة الفرنسيين والقيام بكشف حساب تاريخي معهم، فذلك يبدو من الشّطط بميزان من أدبروا عن الشّرف والهمّة.